كـازانـوفـا الـجـامـعـة/ بقلم: رامـي الـحـاج

لصحيفة آفاق حرة:
_______________

كـازانـوفـا الـجـامـعـة

بقلم: رامـي الـحـاج

المجموعة القصصية (قلوب ونوارس *** الجزء الأول)
=====================================
كان (فـريـد) طالبا في الجامعة مشاغبا لأبعد الحدود.. يعاكس في اليوم عشرات الطالبات شرط أن لا يتعلق قلبه بواحدة، لدرجة أنه حين يكون برفقة طالبة جميلة إلا بمجرد أن يرى أخرى إلا واستأذنتها لقضاء أمر هام كذبا، ليسرع الخطى نحو حسناء جديدة كي يعاكسها.. كم تكللت محاولاته بالنجاح ولكن غالبا ما كانت الطالبات ترفضن طلبه الخروج معهن إما برد جميل أو بما لا تشتهي نفسه أن تسمعه..
اليوم تمر ثلاثين سنة عن تخرج (فـريـد) من الجامعة وأصبح متزوجا لكن من امراة لم تطأ قدميها الجامعة قط، وها هو يتذكر الكثير من مغامراته السخيفة والجريئة في نفس الوفت وراح يجر عربة ذكرياته ليتوقف عند الفتاة التي أخبها بشغف كبير وحب جارف ( نـسـيـمـة) التي تزوجت هي أيضا من رجل لم يدخل الجامعة غي حياته.
في احد الأيام حين رأى (فـريـد) طالبتين جميلتين جالستين أمام معهد اللغات بجامعة وهران، فاقترب منهما وطلب من إحداهما الخروج معه لكنها رفضت، فنظر إلى الثانية دون ان يتردد في عرض عليها نفس الطلب قائلا:
— ليس بالضرورة أن أعيد لك نفس الكلام الذي قلته لصديقتك، فما رأيك أنت؟
نظرت إلي وعلامة الدهشة بادية على محياها وقالت:
— أنت مجنون”..
ثم قامت مع صديقتها وغادرتا المكان بينما ظل متسمرا في مكانه..

ذات مرة شاهد طالبة جميلة غير بعيد عنه فتوجه إليها وقال لها:
— أنت جميلة حين أراك أعجب بك، وعندما أعجب بك أين يمكنني أن أراك؟”…
ضحكت ثم قالت:
— هذه المرة الرابعة خلال يومين تقول لي نفس الكلام وقد أجبتك، آسفة أنا مخطوبة”…
فأجبها دون أن انتظار:
— كيف لي ان اتذكرك ولنتنمتملأن الجامعة ”
انصرف عنها وتركتها تنظر إلي وعلامات استفهام على محياها.
وذات مساء وجدت صديقي يتكلم مع شقراء في قمة الجمال، توجه إليه وعاتبته:
— لماذا تعاكس من ورائي؟، ومن أباح لك الخروج مع هذه الشقراء قبلي؟،، ثم كيف تمكنت من ذلك وأنا في غفلة من أمري؟”..
لم يتمكن من الرد علي بل تعلثم لسانه، والشقراء تنظر إليه في استغراب ودهشة، فقال لها، كانه يخرجها من حيرتها:
— من المفروض أن أتعرف عليك ونخرج معا، لكنه خدعني.
فازداد استغرابها ودهشتها منه، ولما حاول صديقه أن يشرح له الأمر، لم يمنح له أي فرصة وراح يعاتبه ويلومه مجددا، ثم نظرإلى الشقراء ثانية وخاطبها:
— لا تهتمي للأمر، سنخرج معا، أعدك”
.. تركتهما وذهب بعيدا عنهما، وحين جاء موعد المحاضرة دخل إلى المدرج كعادته متأخرا، فوجد تلك الشقراء وقال لها مبتسما:
— أكيد أنت تبحثين عني، أعرف أن صديقي شرح لك الموضوع، لا بأس المهم انك جئت وجنبتني عناء البحث عنك في هذه الجامعة الكبيرة”
ضحك كل الطلبة وهم يسمعون ما كان يقول لها، لأنهم كانوا يعرفون كل تصرفاته مع الطالبات، نظر إلهم وسألهم:
— ما بكم؟ ألم تروا أن شقراء جميلة جاءت تبحث عن حبيبها وها قد جئت إليها؟”..
فازداد ضحكهم، وحين هم بمخاطبة الشقراء، قاطعته قائلة:
— أنا أستاذتكم الجديدة”..
تجمد الدم في أوصاله، ةتساءل في قرارة نفسه:
— ما عساني أقوله لها كي تقبل اعتذاري؟..
لكنها قاطعت حيرته ثم قالت له:
— خذ مكانك، سأشرع في تقديم المحاضرة…

وذات صباح كان ذاهبا ليشتري (سندويتش) والتقى صدفة بإحدى الجميلات فأقسم الله عليها أن يدفع ثمن السندويش(بطاطس بالبيض + قارورة كوكاكولا صغيرة) وكان ثمنهما وقتئذ 10 دنانير، وحين انتهيا من الأكل ودفع الثمن، طلب منها أن يخرجا معا، لكنها رفضت رفضا مطلقا، وأمام إصراره إزداد رفضها ومعه غضبها، فلم يكن لديه خيار آخر سوى أن يقول لها:
— أنت ترفضين الخروج معي، إذن ردي إلي 10 دنانير ثمن السندويتش والكوكاكولا.
رمت له قطعة 10 دنانير على الطاولة وهزت كتفيها وقالت:
— أنصحك أن تضيف لهم ما تبقى وعالج عند طبيب نفسي
جاء صديق له كان قد تابع كل ما دار بينهما عن قرب وعاتبه قائلا:
— إنها لا تريد الخروج معك.. وأنت تريدها رغم أنفها، لكن الشيء الذي لم ، أنت الذي عرضت عليها أن تتناول معك (السندويش) ودفع الثمن، لماذا قلت لها ردي لي 10 دنانير؟”..
ضحك ضحكة هستيرية، وقال له:
— يا أحمق، سانتظر واحدة اأخرى وأعيد نفس الأمر معها، فإن قبلت الخروج معي تستحق 10 دنانير
.. ثم قاطعه قائلا:
— وإذا لم تحب؟
أجابه بسرعة البرق:
— ترد لي 10 دنانير. هي الأخرى”..
قال له صديقه باستغراب أكبر:
— والله معها كل الحق، يجب أن ترى طبيبا نفسيا.

لكن ذات يوم صادفت (نـسـمـة) الطالبة السمراء في قسم الحقوق، ذات الجمال الأفلاطوني والعينين السوداوين، رشيقة القامة كأنه ملاك يحتمي بالليل من النهار، نظراتها سهام تصيب القلب فتدميه، وحديثها مليء بالأنوثة المتدفقة، التي أسالت لك العرق البارد. لقد سمعت عنك كثيرا ووكانت أول من بحثت عن إخبارك، بل تحدت صديقاتها في رهان كان هو جوهر المسألة. في البداية قامت بحركات ملؤها الغواية كي تجذبنه نحوها، وحين قصدها ردته ردا جميلا، ثم أعادت الكرة لكن بتقنيات أنثوية بالغة النعومة، استسلم لها في خشوع مثل ناسك، لكنها صدته مرة أخرى بلباقة المرأة العارفة بخبايا الرجال، ولأنه كان معكسا عنيدا وظل يظن نفسه (كـازانـوفـا) زمـانـه لأنه تأثر كثيرا بسيرته وطريقة مغازلته للنساء وغروره الشديد بنفسه وكبريائه واستعلائه على نساء عصره.
إن ما كتب عن العاشق الأسطوري (كـازانـوفـا) الذي خلده الكتاب على أنه أكبر زير للنساء عاشق لهن لم يبلغه أحد سواه رغم أنه برز في مجالات أخرى كان أجدر بالمؤرخين أنهم يخلدونها في سجلاتهم، ورغم أنه كان يحمل قلبا من ذهب فاق شهريار ألف ليلة وليلة إلا أنه لم يكن قاسيا يتلاعب بقلوب النساء والحسنوات كما صورته بعض الروايات بل ما عرف عنه أنه كان فارسا يجيد ركوب الخيل وبارعا في المبارزة بالسيف، مثقفا كبيرا وقارئا شغوفا للعلوم والآداب والفنون، لقد أراد في شبابه دراسة الطب لكنه انكب على الحقوق وتخرج من الجامعة بأعلى الدرجات ثم ما لبث أن درس الطب والموسيقى فكان أيضا أستاذا في دراسة النوتة والعزف على آلة الناي كما اشترك مع الموسيقار الكبير موزار في تأليف ليبرتو أي حوار الأوبرا لـ”دون جويفاني” وترك موسوعة موسيقية ضخمة تضم كل الفنون الموسيقية، لكنه عرف أكثر بأنه عاشق للجميلات وأكبر زير للنساء ذكره التاريخ وذلك ربما راجع لما خلفه في مذكراته لعلاقاته التي لا تكاد تعد أو تحصى مع النساء والتي أعطته دون ريب هذه السمعة السيئة، لكن بين (كـازانـوفـا) الرجل الأسطوري، و(كازانوفات) وقتنا الحاضر شتان بين الثري والثريا، بحيث أن عشاق الحسنوات لا يعدون ولا يحصون معظمهم إن لم نقل جلهم لا يملكون أي قاعدة ثقافية حتى ولو كانت بسيطة أو أسسا تربوية وأخلاقية ولا يفهمون في الحياة سوى البحث عن إشباع رغباتهم الجنسية ولو أنفقوا ما بين يمينهم وشمالهم، الأهم عندهم اصطياد فرائسهم من الجميلات معتمدين عن سياراتهم الفاخرة وبورصة نقودهم حسب درجة السن والجمال، كما هناك من بين الجميلات من تريد الثأر من حب قديم فاشل أو خيانة أو خيانة زوجية أو بحثا عن حنان مفقود تحت مظلة مراهقة متأخرة، كما هناك من يبحث عن التسلية وملء فراغ وقته، ولكل كازانوفا زماننا هذا حاجة في نفسه أو حاجات يلهث وراءها مثل الكلب المسعور، ولكن لو طرحنا السؤال بصيغة أخرى: ماذا لو عاش كازانوفا الأسطوري زماننا هذا؟ ربما سيلعن اليوم الذي دّون فيه أولى مغامراته مع النساء الحسنوات؟ ولربما يتفرغ لدراسة علم آخر إما علم النفس أو علم الاجتماع على الأقل ليدرس الحالات النفسية والاجتماعية لكازانوفات زماننا هذا؟ !.
لم يستسلم (فـريـد) لكل ما قامت به الطالبة (نـسـيـمـة) من حركات استعلاء لتصده عنها وغي نفس الوقت دفعه للتعلق بها والتفرب منها، فكان يعود إليها في كل مرة لكن أكثر رومانسية من ذي قبل، حيث حمل إليها يوما زهرة وردية اللون، واعترف لها لأول مرة بأنه اشتراها، أخذتها منه بطريقة فيخا الكثير من الدهاء الأنثوي، وبابتسامة متقطعة، شمت رائحتها ثم تنهدت بعمق لتحرق قلبه قبل أعصابه، فأحس بتنهيدتها تخترق شغاف قلبه، ثم ردتها إليه ردا جميلا وقالت بكلام انثوي ناعم:
— إحتفظ بها من أجلي.. تركت لك فيها تنهيدتي.. شيء مني
.. ثم رمقتني بنظرة ماكرة وتوارت عن الأنظار وهو في مكانه كتمثال صخري.. في الصباح إنتظرها في محطة الحافلات حيث ترقب حضورها مثل هلال العيد، وحين لمحها مع صديقة لها دنى منها وقال لها:
— أريد الحديث معك..
فسألته وكانها تريد التحكم في الحديث معه:
— كيف حال وردتي؟
.. لقد صدمته بسؤال لا يملك جوابا له، لكنه رد عليها قائلا:
— لقد تركتها في البيت وقضيت الليلة كله أشم رائحتها حتى ذبلت بين يدي.
تبسمت ضاحكة، لكنها أستطردت قائلة:
— لا بأس عليك، سنلتقي هذا المساء.
تركته دون أن يكمل حديثه وركبت الحافلة مع صديقتها
عاد إلى البيت مسرعا وتغيب عن كل محاضرات الصباح، أخذ حماما ولبس أجمل ما لدي وتعطر ثم انتظر المساء على أحر من الجمر، وحين جاء الموعد، إلتقى بها، لكنخا كانت أول من بدأ الحديث وقالت له معتذرة:
— آسفة يجب علي أن أعود للبيت لدي أمرا هاما، سنلتقي غدا صباحا.
هكذا.. وفي كل مرة كانت تعتذر وكان قلبه يتعلق بها أكثر وفكره يشتغل بها أكثر من انشغاله بالطالبات الأخريات، حتى اللواتي كان يخرج معهن ظل يفتعل الأسباب الواهية ليتركهن حتى لا تلمحه (نـسـيـمـة) مع إحداهن.. ذات يوم قلال لها وكأنه يشكو لها حاله حين فاض شوقها بداخله فلم يستطع عنها صبرا:
— لماذا تفعلين بي هكذا؟.. أنت تعذبيني بتعنتك ولامبالاتك وصدك لي في كل مرة.
فردت عليه بسؤال مفاجئ وكان لحظة الحسم قد حانت:
— ولماذا تفعل ببنات الناس هكذا؟..
ثم أضافت مستطردة واثقة من نفسها ومدركة أنخ أن الوقت لتضع النقاط على الحروف وحد تهائي لكل شيء:
— نصيحتي لك، أن تهتم بدراستك، آسفة أنا لست لك ولن أكون لك أبدا حتى في أحلامك، لا تحاول اقتراب مني أو تكلمني مرة أخرى.. إنساني للأبد..وداعا.
تركته وحيدا، لكن هذه المرة لن تعود إليه، وهو يقول في نفسه وهي تتوارى عن ناظريه:
— لكنني أحببتك بصدق ولأجلك تخليت عن معاكستي لكل الطالبات.
……
الجزائر

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!