بين أحلامه وهمومه مساحات شاسعة، وجد نفسه تائهًا في آمال مترامية أطرافها وما من شيء يلوح أمامه.!
ضربت الفاقة والعوز بسوطيهما على رأسه، وجلد اليأس ظهره ومع كل ذلك لم يسلم زمامه للهزيمة، ولم يسقطه الخور.. بل ظل مكافحًا حضور الأسى، محاولًا ولو رؤية نصف طيف من أمل، في جو مثقل باليأس كهذا لا يصمد فيه إلا ذوو ايمان وثقة.!
لذلك لم يعد إلى منزله منذ سنين طوال… يشبه كثيرًا من لا يعرف منزلًا له أصلًا، يجلس على أرض باردة يختلط ترابها بشيء من فتات نفايات في أقصى زقاق مظلم في أطراف تلك المدينة الصاخبة نهاراً الصامتة ليلاً.
يشبه المتشرد.. هكذا يراه بعضهم، يحمل همومه وأشياء كثيرة من لحظات الشتات في أكياس ثقيلة لا تسعها إلا مخيلته المنهكة.
كان يشير بأصابع يده ويرسم أشياء في الهواء وللريح.. الريح وحدها هي أنيسه وصديقه في جو مغطى بالجمود والتبلد من أناس هذه المدينة قبل غيرهم!
لم يعد يكترث لأقوال من حوله.. صوت يتردد في ذاته: متى كانت ألسنة الناس حين تشتم غيرها معيارا وميزانا؟! يراه بعضهم غريبا قذف به الشتات إلى ظلمة الحياة… بينما ترى عيناه أهلية نفسه وصلاحها، يبحث عن أمنياته وإن لم يجد إلى الآن إلا القاحلات منها.!
ذات أصيل سأله أحدهم بتهكم:
– من أي بلدة أنت.؟
لم يجبه..
فعاد الرجل لشتمه -تلميحا-:
يا للمسكينة هذه المدينة، لو كان لها لسان وصوت لصاحت من كثرة الغرباء فيها.!
لم ينبس ببنت شفه، ولم يرد على هذه الإساءة.. هو لا يحب مجابهة غيره بالمشاكل، يحب الناس وأصحاب المهن، ويرى عامل النظافة مثالا يحتذى به، ووجها يستحق التكريم.
وعندما ترسل شمس الصباح خيوطها لتخبر الكون الفسيح -بما فيه هذا الزقاق- بقدومها يقفز حامل الأكياس الثقيلة من الهموم وينهض باحثاً عما يقتات عليه، من محاسن المحسنين أو من نفايات الطعام.. لايهم مصدر ذلك عنده.
هو لا يسأل الناس، يعمل بيديه ليحصل على ما يريد، يمارس عمل الإسكافي البسيط أو حامل الأغراض بمقابل، رغم ذلك يعد نفسه كريماً عفيفاً بينما تراه أعين الزائغين من حوله مجهولاً يشبه المتشرد.