بقلم: الأديب عبدالباري المالكي( العراق )
استيقظت ذات صباح وأنا في السكن الخاص بمهندسي الشركة النفطية في البصرة ، فلم اجدني قادراً على النهوض كباقي الأيام ، كنت ثقيلاً جداً ، ورجلاي تسمّرتا ، حرارتي مرتفعة جداً ،
صحت بأعلى صوتي :- ليث أنجدني .
قال ليث :- مابك ياصديقي ؟
قلت :- لا أدري ، لكني لا أشعر أني بخير .
ركض ليث الى المشفى الخاص بالشركة بسرعة ، وطلب من الطبيب المجيء معه الى سكني ليجري فحصاً كاملاً لي حسب قواعد الشركة وأنظمتها ، بعد دقائق فحصني الطبيب ووجد حرارتي مرتفعة جدا ، ونحولاً في جسمي لم أعهده سابقاً ، رجلاي لا تكاد تحملانني .
بعد الفحص شكّ الطبيب بحالتي في اني أغلب الظن مصاب بمرض الكورونا ، وعلى أثرها قرر طبيب الشركة منحي إجازة طويلة الى حين شفائي من هذا الوباء المعدي الخطير كي لا ينتشر بين العاملين في هذه الشركة .
و ( كورونا) هو وباء عالمي خطير ، يصيب جهاز التنفس في الإنسان ويرفع درجة حرارته كثيراً وبسرعة فيقتله بعد يوم او شهر ، فالعلم عند الله وحده في ذاك ، ولذلك فقد نصح المختصون رغم عدم معرفتهم للعلاج الناجع لهذا الداء الخطير ان على الجميع لبس الكمامة على الفم والأنف ، ويجب ان تكون المسافة بين كل شخص وآخر لاتقل عن متر واحد ، وقد أصاب هذا الوباء الملايين من الناس ، وقتل مئات الآلاف على اختلاف أعمارهم خلال عام ونصف فقط ، فهناك من ثبت قبالته ، فعاش ، وهناك من انهزم أمامه ، فمات ، ولا فرق بين رجل وامرأة ، وبين مسنّ وطفل ، فلا أحد يعلم من سيحيا أو من سيموت سوى الله تعالى ، حتى إن أصوات الأطباء علت :- ( إن حلول الأرض قد انتهت ، ولم تبقَ سوى حلول السماء ) .
ولأجل ذلك فقد ارتفعت الأصوات ، وصرخت الأمهات ، وضجّ الناس بالبكاء ، وهرب القريب عن قريبه ، والابن عن ابيه ، والأخ عن أخيه ، والزوج عن زوجته .
وعلى إثر ذلك توقفت الصلوات الجماعة في كل أنحاء العالم
خشية الاختلاط في الصلاة ، وتوقفت المسارح ودور الأفلام ،
وتعطلت الأسواق وأغلقت المطاعم ومحال البيع والحلاقة الى غير ذلك ، وفرغت الشوارع ، وفرضَ حظر التجوال في جميع أنحاء العالم من البشر والسيارات ، وخسرت الشركات والدول أموالاً طائلة ، فالدولة تعين مواطنيها بالأطعمة الجاهزة في كل يوم توصلها الى بيوتاتهم ، والكل يعيش بخوف ورهبة إلا في العراق .
فالشوارع مزدحمة ، والأسواق مازالت مكتظة ، والمطاعم مفتوحة ، والدولة نائمة في سبات ، لاتعي خطورة هذا الوباء ، ولاتريد ان تعيَه .
والحق يقال … أن الناس مجبرون على فتح أسواقهم ومحال بيع موادهم لأنهم كسبة بسطاء ، لايملكون قوت يومهم الا بهذا القليل من البيع ، ومسؤولوا الدولة يحرسون أموالهم الطائلة الشخصية دون ان يهتموا إطلاقاً بصحة البشر .
من هنا كانت المأساة علينا — نحن العراقيين — أضعافاً مضاعفة عما هي عليه في دول العالم ، فلا مستشفيات تفي لحجر المصابين وعلاجهم ، ولا أدوية متوفرة بما يناسب حجمَ الكارثة التي نعيشها والأعدادَ المتزايدة في كل يوم بالآلاف ، حتى أصبح الموت زائراً طبيعياً لكل بيت .
غادرتُ مكان عملي في البصرة الى بغداد للعلاج والراحة ، وكان قد رافقني صديقي ليث في هذه الرحلة ، ووصلنا الى البيت ، رآني والداي وانا على هذه الحالة المزرية المبكية فصاحت أمي :- مابك يابني ؟
قال ليث :- يقول الطبيب أنه مصاب بداء الكورونا .
وضعت كفها على جبهتي وصرخت :- ياالله الحمى عالية جداً .
اسرع أبي بتشغيل سيارته ووضعني فيها وأمي تبكي وتصرخ . سارت السيارة بأسرع مايمكن لكنها مازالت بطيئة فالشوارع مزدحمة جدا ، ووسائط النقل جميعها تسير عكس مسار السيارات و حسب الأمزجة لدى قائديها ، أضف الى الشوارع الغير معبدة بشكل جيد ، بل هي أسوأ مايمكن ان تكون ، حيث الشوارع مدمرة ، والأرصفة محطمة ، والإشارات المرورية معدومة ، والشرطة بعيدون كل البعد ، غير قادرين على توظيف قدراتهم بالشكل الصحيح ، فكل مايجري هو سيء الى ما لا يتصوره عقل ولا قلب .
بعد أكثر من ساعة وصلنا الى المشفى الذي لايبعد عن دارنا سوى عشر دقائق ، دخل ليث للبحث عن سرير متحرك ( سدية ) ليأخذني من السيارة الى داخل المشفى ، وقد وجدها بعد عناء .
نقلوني الى الطوارئ ، لم يكن ثمة طبيب مختص هناك ، فكل الأطباء جدد غير قادرين على الفحص بشكل جيد ، كان ابي وصديقي ليث يسرعان الى هذا الطبيب وذاك ، يتوسلان إليهم للاطلاع على حالتي ، لكنهم كانوا يتحجّجون بأمور أخرى ، صرخت أمي بهم ولم يبالِ أحد بذلك .
بعد التي واللتيّا جاء أحد الأطباء الجدد وهو يفحصني بعينيه لا أكثر ، خاطب أبي :- مادامت حرارة ابنك مرتفعة فلابد أنها كورونا ، خذوا له( مسحة) لمعرفة هل هو مصاب بمرض كورونا أو لا.
و( المسحة ) في زمن الكورونا تعني وضع عود برأسه قطن في أنف المريض أو فمه ، ليعرفوا بعد ذلك هل هو مصاب بهذا الداء ام لا.
أخذ أحدهم ( المسحة) لي عن طريق الأنف ، وقال انتظروا غداً كي تظهر النتيجة ، لكن حالتي مازالت تزداد سوءاً ، فحرارتي بارتفاع ، وهناك ألم برأسي يكاد يفجّرني ، وأنا أتأوّه مرات ، وأصرخ مرات ، ولا معين الا الله .
بعد أن أحس أبي باليأس من المشفى ، أعادني الى دارنا أملاً في أن يأخذني الى طبيب أهليّ وليس حكومياً . لأنه لا مشفى يحتويني ، ولا سرير يضمني هناك ، فقد رأى أبي أن من الأفضل العودة الى الدار ، والعناية بي من خلالهم ، وحجري في غرفة لايقربني فيها أحد .
عصراً كنت بين يدي الطبيب الذي طلب مني تحاليل دمٍ وأشعة للصدر .
ركض أبي وهو يلهث لهاثاً لم أره من قبل على تلك الحالة الى أشعة الصدر ، والى تحليل الدم .
بعد نصف ساعة وضع ابي تلك التحاليل بين يدي الطبيب الذي أخبره أنه لايعرف سبباً آخر لحالتي الا أن أكون مصاباً بالكورونا ، فالأعراض مشابهة لذلك المرض رغم عدم اصابة رئتيّ بأي التهاب ، كتب لنا ورقة ذكر فيها أدوية عديدة .
عدنا الى البيت بعد ان اشترى أبي كل الدواء ، ومع انني كنتُ أظنني مصاباً بمرض الكورونا المميت ، لكني لم آبه بنفسي ، بل كان جلّ اهتمامي بليلى .
كانت تدور في خلدي أسئلة عدة …
:- هل سأموت دون أن أرى ليلى ، دون ان اسمع صوت ليلى ، دون ان تدري ليلى بما حدث لي ؟
كانت هناك أسئلة عديدة لا حصر لها عندي كما لاجواب .
عند الليل بدأت الحمى تزداد والألم يقوى علي ، ولم اعد قادراً على التحمل ، لكن همي الأكبر هو رؤية ليلى .
كان أصدقائي قد علموا بحالتي وبدأت هواتفهم ترنّ على والدي للسؤال عني ، وأنا لا آبه الى أحد من أصدقائي بمثل ما أهتم وأنتظر اتصالاً أو رسالة ولو صغيرة من ليلى للسؤال عني .
قلت في نفسي :- أي جرمٍ أجرمته بحقها حتى ابتعدت عني الى هذه الدرجة من القطيعة ، لقد وصلتُ الى مرحلة خطيرة ياليلى وانت غير مبالية بي .
لا أدري كيف أصف لكم الحال ، وأي خوف اعتراني من الموت نفسه وأنا في غرفتي التي كنت فيها محجوراً ومعزولاً عن عائلتي كي لا يتفشى الوباء في عائلتنا جميعاً .
لكن مع كل ذلك الألم والخوف كان ينتابني شوق لامثيل له الى ليلى .
ليلى هذه المرأة التي أحببتها بكل صدق ووفاء وأمانة .
ليلى هذا الكائن الذي لامثيل له في هذا العالم كله من طهارة وعفة .
حتى لو خلا البشر من صفة الإنسانية ، لكانت ليلى كفيلة بهذه الصفة لوحدها ، فهي الإنسانة الحقة ، وهي المثال الرقيق للمرأة ، وهي النموذج اللاشبيه لها في هذه المعمورة .
ولا أدري أي عذرٍ لها أجد كي أقنع نفسي بعدم سؤالها عني في لحظات الحياة الأخيرة .
بات الوضع أصعب مما كنت عليه ، وصرتُ أشعر أنها أنفاسي الأخيرة وأنها الليلة الأخيرة لي ، وأنا أبحث في كل زاوية من زوايا غرفتي عن خيال لليلى .
ولكم وددت ان تكون ليلى آخر من أراه قبل الموت ، فكأنها مرآة للسماء ، وأن الفجر قد صيغ من ألوان بشرتها البيضاء .
لم أكن أريد أن تزرع ليلى في فؤادي ابتسامة ما ، بل كنت أريد ان تشعل في قلبي نوراً ، نوراً يضيء حياتي كلها ومايحوطني ،
واي نور يفوق نورها أو يضاهيه !؟