مسامرة الموتى/بقلم:رستم عبد الله

الليلة هي ليلة العيد ، الحركة على غير العادة ، الشوارع الصاخبة ، مزدحمة بالمارة و السيارات ، و الأسواق مكتضة بالمتبضعين و الباعة ، أراجع متوترا للمرة الخامسة قائمة المشتروات ، للتأكد من أنني لم أنس شيئا ..
توجهت – لفرزة – السيارات ، قبل 3 عقود من الزمن في هذه – الفرزة – ، كنا نستقل باصات النقل البري من تعز إلى الراهدة و العكس ، و من ثم من بعدها ، كنا نستقل سيارة بيجوت505 فرنسية الصنع ، و ها أنا الآن مستقلا حافلة(هايس) يابانية، لا أعلم في الغد ماذا سنستقل ، ابتسم محدثا أعماق نفسي ، القطار أم التلفريك !! ، ربما فلا شيء يستبعد ، تتغير ملامح مدينتي تدريجيا ، تنمحي أشياء جميلة و يظل حنينها يؤرق الذاكرة ، امخر في عباب الذاكرة ، أتذكر أشياء كثيرة ، أنقرضت و حلت مكانها أخرى لا تشعل تلك الفرحة في القلب و البهجة في النفس مثلما كنا نستشعرها صغارا و كبارا ، كنت منذ أعوام عديدة خلت أشتري مسجلا جديدا و أشرطة كاسيت و حجر بطاريات و كشافا يدويا لزوما لبهجة العيد ، لفد انقرضت الآن ، و حل محلها (زفت) واحد يدعى (الموبايل) يجمع الإضاءة ، و يشغل الأغاني ، و أيضا التلفاز و النت، اندثرت أشياء بسيطة كانت تملئ دنيانا أعيادا ، اقتربت الحافلة من مدينة الراهدة ، الازدحام خانق تلبس الراهدة في العيد ثوبا جميلا بهيا غير ثوبها، تتزين باحلى حليها، تتألق كأنها عروس ، أصحاب المواشي ، و أصحاب الطيور بمختلف أنواعها وأرباب المهن و الحرف يعرضون كل منتجاتهم ، فيها باعة الألعاب النارية، الشوكولاتة و المكسرات و الحلويات، و – الكدم – ، و – القات – ، و الخضروات و الفواكه ، و قوالب الثلج ، والملابس ، و علف الماشية ، تتشظى الراهدة ذات السوق الواحد في موسم العيد إلى عدة أسواق تزحف حتى تخومها ، و في المقابل المحلات و الدكاكين و صالونات الحلاقة ، والمطاعم و الأفران مزدحمة ، اشتممت عبير القرية ، وذكرى رائحة عالقة – للحوح – أمي يفوح من قبلها ، اضطراب و فرحة عارمة تتملكني وكأنني طفل صغير يفرح بكساء العيد ، ينتشلني من نشوتي صوت خشن
على جنب لو سمحت : نطقها أحد الركاب و نزل ممتشقا حقائبه
ومن ثم أستدار السائق نحونا قائلا :
– و أنتم
رددنا بصوت جماعي : علي سعيد
بعد أن أشتريت كل أغراضي من الراهدة ، امتطيت سيارة(شاص) تويوتا كنت قد نقلت فيها متاعي سلفا ..
صوت السائق النزق المتدلي من النافذة :- هل تبقى أحد
يرد البعض : لا لا ( روح روح)
تنطلق السيارة و عجلاتها تلطم الطريق الأسفلتي بقوة ..
وصلت للقرية ، استقبلنا أطفالي بفرح غامر ، مضى اليوم سريعا بفضل فرح اللقاء و لهفة الشوق
بعد صلاة العشاء ، صعدنا سطح الدار أنا و أبنائي الأربعة و زوجتي ، رصصنا علب الصلصة و السردين الفارغة المحشوة بالرماد بانتظام بسور السقف ، تعاونا بتبليل الرماد بالجاز – الكيروسين – ، و كان أبنائي يخلطوها بعود طويل ، ليزداد أوارها ، شاهدنا العديد من الدور و المنازل تتوهج
– بالتناصير – ، والألعاب النارية ، تتلأ لأ في السماء الرحبة ، و تنثر البهجة والفرح – الطماش ” المفرقعات “- يدوى و يصم الآذان ، أغاني العيد تصدح بفضاء القرية ، للآنسي و أيوب طارش و أغانٍ مصرية ، و عدد كبير من مطربي هذه الأيام الشباب الذين سطوا و حرفوا كل الأغاني القديمة وطبعوها بطابع عيدي قسرا ، أغنية آنستنا يا عيد كانت القمر و البقية كواكب ، ينتشب لها الناس ، تحدث بهجة في القلوب ، تنعش أرواحا متعبة، تروي ضمأ الناس، مع الجو البهيج الذي تحولت فيه القرية لمهرجان ليلي مفتوح، لاحظت أن البيوت لم تعد كالماضي السعيد أصبحت قلة تبتهج بالعيد ، كان منزلا يغمره الضوء و آخر جواره يغرق بالظلام الدامس ، كان المنظر أشبه بفم آيل للدرد – لفقد أسنانه – ، كان السبب الرئيسي هو هجرة العديد من الأسر للاستيطان بالمدينة ، و وفيات الكثيرين من معمري القرية، الذين لايفارقون تلك الديار التي هي بمثابة بحر لهم ، وينظرون لأنفسهم كسمك ، لو غادروها ، ماتوا و هاهم ماتوا و مات معهم الدفء والحبور و نكهة العيد الأصيلة ..
فجرٌ جميلٌ أشرق بطعم العيد ، في مسجد القرية الوحيد الذي كان يكتض بالمصلين كل عام ، لم يعد كذلك ، أكملنا الصلاة و ما زال أكثر من النصف فارغ ، تبادلنا التهنئة بالعيد ، انطلقنا ، جماعة منتظمين خلف بعض ، لزيارة منازل القرية، للسلام و نأكل مما يعد لزوار العيد ، اختفت جفان النشوف ، والخبز المفتوت بالحليب و السمن، والخبز المرشوش بالعسل و حبة البركة ، حل بدلا عنها الكيك و الكعك، معظم البيوت المسكونة خاوية مغلقة، انضمت لتلك المهجورة ، حيث أنضم أفرادها القليلين لمنازل أقاربهم، ليعيشوا جو العيد، وينفضوا غبار الوحدة و الحزن لرحيل آبائهم الذين كانوا يتواجدون في مثل هذا اليوم من السنة الماضية، كل سنة تأتي و يتناقص الكثير من آباء القرية، يمثل رحيلهم جرح لا يندمل ، و فراغ لا يسد ، كانوا يجعلون القرية جنة صغيرة ، يعطونها بهجتها و أنسها ، ومصدر تسلية وأمان حقيقي للجميع، هيبتهم كانت تمنع أي مشاكل، و وقارهم يرسم على القرية دفئا واطمئنان ..
-هيييي ….
أصوات أطفالي تهرول نحوي
ولدي الكبير :
– بابا عيديتي وعيدية إخواني ..
أعبث بجيبي .. أمد يدي تفضل ..
أدخل الدار لا أتوجه لغرفة نومي و إنما لغرفة جدي شآبيب الرحمة تغشاه
أنادي زوجتي
أطبع قبلة على جبينها انفحها عيديتها ..
ترد بخجل غير معهود : شكرا
أسالها : هل غرفة جدي نظيفة؟
زوجتي ترد باستغراب و دهشة : نعم
أزيل دهشتها : سأنام حتى يحين أذان الظهر ، ثم أيقظيني ..
تهرع خارجة دون أن ترد علي ، تعود و بيدها ملائة جدبدة تفرشها فوق سرير جدي ، تغادر و تسحب الباب الخشبي العتيق بهدوء ، يصدر أنينا كأنين شخص مقرور ..
انزع قميصي ، أتمدد ، أغفو ، ينغص نومي كوابيس كثيرة تجثم على صدري و تمرح فوق جسدي ، تكبل قدماي و يداي ، جدي عبدالجليل يقبل مهرولا و هو يشع نورا مرتديا فوطته البيضاء الجديدة و قميصه الأبيض الناصع ذو الأربعة جيوب ، ونظارته السوداء السميكة ، و شاله – الرشوان – الكاكي فوق كتفه الأيسر ، عاصبا رأسه – بغترته – البيضاء ، يهرع إلي يخلصني ، هاتفا بوجل :
– بني بني انهض ..
أنتفض من غفوتي مفزوعا و مبتلا بعرق بارد ، يمضي ، اتبعه خفية، مقتفيا أثره ، يدخل غابة كثيفة الأشجار ، أمشي خلفه ، يدلف فناءا واسعا ، و أدخل خلفه ، أبصر حشدا هائلا ، تلجم المفاجاة لساني ، كأن المكان قريتنا دورنا منازلنا أزقتها ، كان المكان مكتضا بأناس كثيرين جدا ، لكن لم يكن أحدا منهم من الباقين على قيد الحياة في القرية ، كانوا موتى القرية أهلي و جيراني الذين توفوا منذ بضعة أشهر أو أعوام و هناك آخرون لا أعرفهم بملابس العصور الغابرة، و إن كانت ملامحهم تشي بأنهم من أهالي قريتنا ، أطلقت لنظري العنان متفحصا الوجوه ، أزحف بين الجموع متفرسا في الوجوه ، فجأة شعرت بقشعريرة و رهبة و فرح طاغٍ ، انزلقت دمعات ساخنة من عيني ، أبصرت هناك أبي و أمي، هرعت إليهم ، متوقعا تلاشيهم أو عدم الرد ، أو أرعن ما يوقضني من ألذ حلم ، تبخرت مخاوفي كانت أمي ممسكة بيدها طفلا صغيرا ، و أبي يلاعب طفلة صغيرة ، قذفت بنفسي في أحضانهما وصرت أقبلهم ، و أشتم رائحتهما ، احتضناني بحب و حنان ، تماما ، مثل ما كانا في حياتهما ، لكنهما ، لم يكونا بحجم شوقي و لهفتي ، بالرغم من كمية الحنان والمشاعر الأبوية المتدفقة منهما ، دموعي تتزاحم في مآقيي ، تنعدم الرؤيا ، و صدري يعلو و يهبط ، رحت أبث لهما بصوت متهدج ، و مشفق :
– أشتقت لكما ، أمي ضوء عيوني ، أبي تاج رأسي ، هيا بنا نرجع ، نرحل من هنا ، نعود لدارنا ، لقريتنا ..
و رحت أسألهما عن أنفسهم و حالهم ، و هم يجيبون عن كل شيء ، و من ثم رحت أستفسر عن هذا المكان الغرائبي :
– أين نحن الآن .. ؟!
أجاب أبي:
– دار الحق
– من هؤلاء الناس الغرباء ..
– هؤلاء هم أهلك و أجدادك و جيرانك الذين توفوا منذ زمن ، قبل أن تولد أنت و منهم توفى قبل أن أولد أنا ..
بحلقت في ذهول ، و سألت أبي :
– و من هذين الطفلين .. ؟!
مسحت أمي شعر الطفل بيدها ، هذا شقيقك الذي توفى قبل أن تولد أنت
و مسحت رأس الطفلة التي في حجر أبي و هذه ابنتك فاطمة التي توفيت بالحمى ، غمرني حنين و شوق أبوي جارف ، احتصنت ابنتي و قبلتها وجلسنا نلعب سويا ، و أبي و أمي و أخي يبتسمون لي، و من ثم تركتهم و رحت أهيم متسكعا بأنحاء القرية ، وكم كانت فرحتي طاغية ، عندما وجدت كل أصدقائي المتوفين طارق و عادل و عبدالله و عبد العظيم و نبيل و أساتذتي المتوفين ، كادت المفاجأة تلجم لساني أو بالفعل ألجمته ، في حين كانوا هم طبيعين جدا ، لم يبدوا دهشة أو فرحة رغم ترحابهم بي ، صافحتهم كانت أيديهم باردة عكس أيدي أبواي ، تبادلنا التحايا و مضينا نتذاكر أيامنا الخوالي، راحوا يسألونني عن القرية وناسها ، و أنا أرد وأجيبهم
أحسست فجأة باختناق و انقباض بصدري و العرق ينضح من جسمي ، عدت أدراجي حيث أبي و أمي و وجدت هناك جدي عبد الجليل قد انضم اليهم ، هرعت إليه ، احتضنته قبلته ، اجتاحتني نوبة بكاء و رحت أتشممه ، أكثر مما حصل لي مع والداي ، كانت علاقتي بجدي قوية ، اختطفه الموت مني قبل أن أشبع منه ، كان يحبني أكثر من كل أحفاده كنت طفله المدلل ، تماما كأبي لم يحرمني من شيء و كان يجلس بالقرب منه أربعة أطفال ، لم أتبين ملامحهم بوضوح بفعل موجة الدموع التي أجتاحتني ، كفكفت دموعي بكم القميص ، و أنا اتطلع للأطفال ، و صعقت و أنا أراهم بهذا العالم ما لذي جاء بهم .. ؟!
رفعت رأسي لجدي مستفسرا ، و كان يهز رأسه و الحزن و الوجوم يكسوه
انتقلت بنظري لأبي و أمي و كانا هما أيضا مسربلين بالحزن ، و صرخت
و اندفع ابني الكبير الذي فهم المغزي نحوي ..
– بابا بابا استيقظ ، أذان الظهر ..
استيقظت مرعوبا و أنا أكاد أغرق بالعرق نافثا عن يساري مستعيذا بالله من الشيطان الرجيم ، حامدا الله و احتصنت ابني وقبلته.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!