في مواسمِ الدمارِ، حيث تنتشرُ رائحةُ الدّمِ، و تغيبُ الموسيقى خلفَ أصواتِ الرصاصِ، تبقى بعضُ النساءِ على حافةِ الحياةِ واقفاتٍ كالوتد، يُلوّحن للغائبين بأهدابٍ مثقلةٍ بالدموعِ، وينزفن الصبرَ قطرةً قطرةً. وكأني أسمع إحداهن تقولُ :
لاشيءَ إلا الموتُ يسكنُ أرضنا
والخِنجرُ المسمومُ والأعداءُ
لا أحد يعرفُ كيفَ تنجو الأمهاتُ من فاجعةِ الفقدِ، كيف لا تنهارُ الأرضُ تحتَ أقدامهنَّ حين يُقتلع من حضنهن قلبٌ نابضٌ اسمه : الولد .
الصبرُ – كما تعرفه النساء في بلاد الحربِ ـ هو وجعٌ مزروعٌ في الضلوعِ، هو ذاك الغشاءُ الرقيقُ الذي يفصلُ بين الجنونِ والتماسكِ، بين الانهيارِ والبقاءِ، بين الموتِ والحياةِ.
كانت أمُّ مُحمدٍ تُحيك ثوبًا صغيرًا من الصوفِ الرماديِّ، ومع كُلِّ غُرزة كانت تزرع دعاءً، وفي كُلِّ غُرزة كانت تَنسجُ حُلُمًا صغيرًا لمستقبلِ ابنها الوحيدِ.
ثم جاء الصوتُ ، غارةٌ مفاجئةٌ، كسيفٍ يشقّ السماءَ ويهوِي.
ارتجّ البيتُ، وتساقطت الجدرانُ كأنها قشّ في مهبّ جنونٍ.
الصوتُ كان أعلى من قُدرتها على الفهمِ، وأسرعُ من يدها التي حاولت أن تُغطي بها قلبها ، لحظاتٌ قليلةٌ كانت كفيلةً أن تغيّر شكلَ المكان .
خرجت أمُ محمدٍ من بين الغبارِ كأنها تُبعثُ من موتها، وركضت نحو المكانِ الذي كان يلعبُ فيه محمدٌ قبل دقائق.
كانت تركضُ وتَصرخُ باسمه لكنَّها لا تسمعُ صوتاً.
الحيُّ بأكمله تَحوّل إلى كومةِ رمادٍ ، والألوانُ اختفت ، كل شيءٍ رماديٌ ، كالثوب الذي كانت تُحيكه.
ثم توقّفَ نظرها فجأة هناك، عند طرفِ الحُطام، لمحت فردةَ حذاءٍ ، وفي جوارها، تراقصت في الهواءِ خُصلةُ شعرٍ، عالقةً على قضيبٍ مَعدنيٍ مائلٍ كرمحٍ في صدرِ الأرضِ.
اقتربت وانحنت ببطء ، مدّت يدها كأنها تلامسُ روحًا لا جمادًا.
رفعت فردةَ الحذاءِ أولًا، ثم الخصلةَ ،ضمّتهما إلى صدرها كما تضمّ أمٌ وليدَها ،
لم تبكِ ولم تصرخْ ، بل جلست على الأرض بصمتٍ ثقيل، كأنها نزفت كل الأصواتِ دفعةً واحدةً ، عيناها لم ترمشا، ووجهُها بدا كحجرٍ أنهكته العاصفةُ.
كُلُّ من رآها قال : انهارت.
لكن الحقيقةَ أنها كانت هناك، تحملُ بقايا حياةٍ في يديها، وتقاومُ حتى لا تنكسر.
كانت في لحظةٍ فاصلةٍ بين الصراخِ والانهيارِ، لكنها اختارت الصمتَ ،
ذاك النوعُ من الصمتِ الذي يخترقُ الهواءَ، ويؤلمُ أكثَرَ من ألفِ عويلٍ .
في اليوم التالي خرجت تَسقي الزرعَ، تنفضُ الغبارَ عن وجوهِ الأطفالِ الآخرين، وتبتسمُ لهم وكأن ابنها لم يُقتل قبل ساعاتٍ.
قالوا: صَبرَتْ ، لكنّ الحقيقةَ أعمقُ من ذلك .
الحقيقة أنها حملت ابنها في صدرها ومشت ؛ لأنها أمٌّ.
النساءُ لا يبكين بصوتٍ عالٍ ، إنهن يحولن الدمعَ إلى دعاءٍ، والصراخَ إلى صمتٍ يُتعب أكثر من كل ضجيجٍ .
النساءُ في الحروبِ يُصبحن أعمدةَ البيوتِ المهدَّمةَ، يُطعمن الصغارَ من حكايا
الغائبين، وينمنَ على وسائدَ ممزقةٍ فيها رائحةُ أبنائهن، فالفقدُ في الحربِ لا يُفسَّر، إذ كيف تصبر أمٌّ حين تفقدُ ابنها؟
لا إجابةَ على هذا السؤالِ في منطقِ الحروبِ. لأن كُلَّ أمٍّ تفقدُ أحد أبنائها تموتُ بطريقةٍ مختلفةٍ، لكنها لا تُدفن.
تعيشُ وتمشي وتضحكُ وتطبخُ ، فقط لأن حولها من ينتظرُها. لأن الحزنَ وحده لا يُطعمُ، لكنَّ الصبر يفعلُ.
في كتبِ التاريخِ، تُذكرُ أرقام القتلى، لكنَّ التاريخَ لا يكتبُ عن أمِّ محمدٍ التي عَلّقت صورةَ ابنها على الجدارِ، وأقسمت ألا تُزيلها حتى تعودَ الأرضُ.
الصبرُ في معجم النساء لا يعني القبولُ.
بل يعني المقاومةُ الصامتةَ، يعني الاستمرارَ في الغد على الرغم من بقاء القلب في الأمسِ.
الصبرُ أن ترتّب المرأةُ الفقيرةُ سريرَ ابنها الشهيدِ كُلَّ صباحٍ، وتمسحَ الغبارَ عنه كما لو كان موجوداَ ،الصبرُ أن تتذكّر ضِحكته دون أن تنكسر.
ليست النساءُ في الحروب مجرَّد صُورٍ تفيضُ بالحزنِ، إنهنَّ مدارسُ في التحمّل.
يُعلّمننا أن الجرحَ لا يحتاجُ ضمادًا دائمًا ،وأن الحياة لابُدَّ أن تستمر، ولو مشينا
فيها بأقدامٍ مبتورةٍ .
الصبرُ عند النساءِ، يتحوّل إلى شجاعةٍ صامتةٍ تُخلّدها الذاكرةُ، وإن لم تكتبها الصُّحفُ .