لآفاق حرة
وتستمر الحياة
قصة قصيرة
ابتسام شاكوش
- أما آن لهذا العذاب أن ينتهي؟ أمي.. تعالي وانظري إلى دفاتري كيف شوهتها الرسوم والألوان التي طبقها عفاريتك أثناء نومي
- صبراً يا ابنتي, إنهم أطفال صغار لا يدركون أهمية دفاترك, لا يقصدون الأذى, إنهم يلعبون.
- كم مرة طلبت منك شراء خزانة صغيرة ذات قفل, لأضع فيها أشيائي بعيدا عن عبث هؤلاء الشياطين.
- ليسوا شياطين يا ابنتي, إنهم أطفال أيتام, أبناء أختك, حاولي أن تكوني أماً لهم, تنوبين عن أختك, تركتهم أمهم مثلما يترك المرء روحه, بعد خبر وفاة زوجها في سجنه, وسافرت لتعمل في مكان بعيد, لتنفق علينا وعليهم, حين ترسل أختك المال سأشتري لك ما تطلبين.
- اللعنة على كل المنظمات التي تعبث بنا وبثورتنا, لماذا فصلونا عن عملنا؟ لماذا توقفت اليونيسيف عن دفع مرتباتنا؟ أما كنت مسرورة مع تلاميذي؟ أما كنت أنفق على البيت؟
- هي أرزاق يا حنان, لعل الله سيفتح لك بابا للرزق أوسع وأفضل
- لم لا نرسلهم إلى جدتهم أم أبيهم؟ أليسوا أحفادها؟
- استغفري ربك يا حنان, واشكريه أن أتاح لنا ثواب كفالة الأيتام.
*****
ما هذا؟ رعد؟ لا… برميل متفجر؟ ..لا… صاروخ بالستي؟ أيضا لا.. ما هذا الصوت؟ حنان صارت لديها خبرة دقيقة بكل أنواع الأسلحة والمتفجرات التي تعرضت لها خلال رحلة النزوح مع أسرتها الكبيرة, كانوا يتنقلون من مكان إلى آخر, من قرية إلى أخرى, في كل قرية يدفنون شهيداً ويتابعون المسير.
- أمي.. أين أنت يا أمي.. أنا خائفة..
الظلام الدامس يغلف كل شيء, ترفع حنان يدها أمام وجهها فلا تراها.. تكرر النداء.. الأم لا تجيب.. توالت الأصوات, ليس رعداً ما تسمع ولا حرباً.. إنه الزلزال.. سقف الغرفة أطبق على أرضها, واستند بزاويته على حافة الثلاجة, صانعاً كهفاً صغيراً, استوعب فراش حنان, الممدود على الأرض, وحجب فراش أمها, وفراشاً آخر ينام عليه أطفال أختها الثلاثة, هؤلاء الأطفال هم كل من نجا من الموت, من أفراد أسرة كانت تضم العشرات من الأبناء والأحفاد.
- أمي .. أنا خائفة.. أين أنت يا أمي؟ .. لا جواب.. بكت حنان طويلا ثم استسلمت للنوم
*****
ماء المطر يتسرب من صدوع كبيرة في الجدار الملاصق لفراشها, تحاول اتقاءه, كتل الاسمنت المكسر تحاصرها, كل حركة منها مهما صغرت تسقط فوقها مزيداً من الحجارة, حجارة هي أجزاء من السقف المنهار, طلع الفجر فأنار ما حولها, تلفتت, فما رأت سوى المساحة التي تستوعب جسدها, مساحة كالقبر أو أقل بقليل, تساءلت في نفسها أين أمي؟ أين أبناء أختي؟ لم لا أسمع لهم حساً ولا حركة؟ تناهى إلى مسمعها مزيج من الأصوات, نساء وأطفال تنتحب, أصوات رجال يكبرون ويحوقلون, وعادت للنوم, أهو نوم؟ أم إغماء؟ حنان لا تدري, ولا غيرها يدري.
*****
حين أفاقت من نومها, بل حين استردت وعيها, وجدت نفسها على سرير في مستشفى, مكسورة الرجلين, وعرفت ممن حولها أنها وحدها, الناجية من الموت من بين أفراد أسرتها, وتذكرت أنها كانت ضجرة من وجودهم معها في تلك الغرفة, اعترتها حالة من الذهول, من الندم, من الصمت المطبق, من العزوف عن الحياة.
***
حنان تدور بين غرف المستشفى على كرسيها ذي العجلات, تحاول بث الأمل في نفوس المكلومين, تحاول إقناعهم بأن قضاء الله لا راد له, وأن الحياة مستمرة برغم الفقد, وحين تخلو بنفسها.. تستلم للبكاء, وتكثر من الاستغفار.