وكالة عامة  بقلم. د. محمد عامر مارديني

لصحيفة آفاق حرة

 

وكالة عامة

بقلم. د. محمد عامر مارديني.

(وزير تعليم سابق. رئبس جامعة الأندلس) سوريا

بالرّغم من كوننا عائلةً كبيرة إلّا أنّه، وكما في كلّ أُسرة عند زواج أبنائها وبناتها، لم يبقَ في منزلِنا بعد زواج أختي الصّغرى غيرُ والديَّ رحمَهُما اللّه وأنا.
وكان أبي قد بلغ حينَذاك من الكِبرِ عِتيّاً ولكنّه كان يُصِرُّ على شراءِ حاجيّات المنزل بنفسِه، ويَعتبر بقاءَه في البيت قبلَ الظّهرِ قصاصاً له، لا دلالاً وراحة. هذا صباحاً؛ أمّا في ساعاتِ المساء فكانت قراءةُ الشّعر ومشاهدةُ مباريات كرةِ القدمِ شغفاً ومتعةً لا تُقاوَم، أضِف إلى ذلك اقتناصَ أيّ فرصة للعبِ النّرد أو الشّطرنج مع أيّ شخص يصادفُه في البيت، سواءٌ كان كبيراً من أقاربِنا أو جيراننا، أو فتىً يافعاً كأبناءِ إخوتي مثلاً، وحتّى لو لم يكن شريكُه متقِناً لمبادئ اللعب كان لا يرى ضيراً في أن يعلّمَه بإسهابٍ الخطوات المطلوبة.
وقد تعوّد أبي أن يغادرَ البيت صباحاً ولا يعودَ إليه إلّا بعد أذان الظهر ممضياً جُلَّ وقتِه في التوقّفِ هنا وهناك وإلقاءِ التحيّة والتحدُّث إلى كلّ بائعٍ في المحالِّ التجاريّة الموزَّعةِ داخل حيِّنا وعلى أطرافِه.
و لقبضِ راتبه التقاعديّ كان يجهّزُ نفسَه في مطلعِ كلِّ شهر، وبكامل أناقتِه،ليقضيَ نصفَ نهارِه واقفاً في الدّور عند بنك سورية ولبنان كما كان يحلو له تسميتُه منذ قرابة خمسين عاماً، رافضاً رفضاً قاطعاً اسمَه الرسميّ الجديد المصرفَ التجاريّ.
وفي يوم من الأيّام ناداني مستنجداً أن أنوبَ عنه في قبض راتبِه بعد أن شعر بهجمةِ ألمٍ في ركبتَيه تمنعُه من السّير إلى المصرف فقلت له: لا بدَّ يا أبي من وكالةٍ خاصّة منك لي كي يسلّموني راتبَك، فقال: ولمَ لا أفوّضُك بوكالةٍ عامّة تنجز لي بموجبها معاملاتي كلَّها، فأستريحُ من عناء الذّهاب والإياب إلى المصرف أو إلى دوائر الدّولة، وكذلك من جباية الأجرة من مستأجري العقارات؟
قلت له: كما تشاءُ يا أبي، لكنّني أفضّلُ أن تخرجَ وتتحرّك وتجدّدَ نشاطَك، فالبقاءُ بين جدرانِ المنزل هو مقتلُ الرّجال، وإن شعرتَ بالتّعب يوماً من تلك المشاوير والتنقّلات فيمكنني اصطحابُك بسيّارتي، المهمُّ ياوالدي أن ترى النّاس وتتنفّسَ في الهواء الطلق.
قال: لا بُنيّ، لقد تعبتُ كثيراً، إن ساعدتني همّتي البدنيّةُ في الخروج فهذا جيّد ، وإن خذلتني قوايَ فأنت ستنوبُ عنّي في كلّ شيء .
قلتُ له مسايراً : حاضر ..المهمّ أن تكونَ بخير.
وفي اليوم التالي أتيت أصطحبُه إلى الكاتب بالعدل لتوكيلي وكالةً عامّة. انتظرنا في البهوِ إلى أن أتى دورُنا، وكالعادة ينصحُ الكاتبُ بالعدلِ الشخصَ الذي يريد توكيلَ أحد ما ببضعِ نصائحَ وخاصة لكبيري السّنِّ.
فقال لأبي الذي تراجعَ سمَعُه كثيراً في ذلك الوقت: أريدك أن تفهم يا عم، أنت توكل ابنَك وكالةً عامّة، إنّه بهذه الوكالة يمكنه أن يبيعَ أملاكَك، ويطلّق زوجتك، ويزوِّجَك بأخرى، وقد يرميك في الشّارع.. احذر منه قبل أن توقّعَ، وفكّر جيداً.
توقّعت من أبي أن يبتسمَ ويتجاهلَ تحذيراتِ كاتب العدل أو يتكلّمَ بحقّي بعضَ الكلمات الجميلة، لكن كان واضحاً أنّه لم يسمع ما قيل له جيّداً أو لم يفهمْ مغزى التحذيراتِ فما كان منه إلا أن برمَ شفتَيه ورفع سبابتَي يديه ثمّ رأسَه إلى السماء قائلاً: الله أعلمُ..فوّضتُ أمري إلى الله.
تملّكَني الضَّحكُ في هذه اللحظة فقلت: قُم يا أبي أرجوك.. ما دمت غيرَ مطمئنٍّ فلا توقّع وكالةً عامّةً واجعلها محصورةً بقبضِ الرّواتب، وأنا أوصلك “براسي” إلى أيِّ مكان تريده..إلى المستأجرين، إلى دوائر الدّولة، إلى المرّيخ، وحيث تريد.
قاطعَني الكاتب بالعدل قائلاً: أرجو ألا تتكلّمَ في حضرتي يا سيّد، ولا تضغط على أبيك. دعهُ يفكّرْ ويفعلْ ما يريد. ثمّ أعاد تنبيهه لأبي قائلاً: قد يسرقُك ابنُك يا عم..تريَّثْ قليلاً قبل أن توقّع الوكالة.
انتفضَ أبي من مكانه عندما فهم بالخطأ أنّي سأسرقُه فارتجفَت أصابعُه وجفّ حلقُه وصرخَ في وجه الكاتب بالعدل صرخةً متخمةً برذاذٍ من لعابٍه قائلاً: فشرت !!
قهقَهَ الكاتبُ بالعدل عالياً وهو يمسحُ وجهَه بمنديل ورقيٍّ،
حتّى كاد صدى ضحكتِه يبلغ كلّ أرجاء القصرِ العدليّ ثمّ قال لأبي: الله يسامحك يا عم، مقبولة منك، وقّع هنا إذا سمحت.
وقّع أبي الوكالة العامّة ثمّ سألني مازحاً بعد أن خرجنا من المكتب: هل صحيح أنّك بهذه الوكالة يمكنك تطْليقي وتزْويجي بأخرى؟
قلت له بتعجُّبٍ بالغ: أوَ لم تسمع من كلِّ تلك التّحذيرات التي ساقَها لنا الكاتب بالعدل سوى هذه الجملةِ ؟؟
قال: أرجوك يا بنيَّ ..لا تفهمَني خطأً، فلقد قرأت منذ فترة أنّ زواجَ كبار السنِّ مهمٌّ للحفاظ على صحتهم النفسيّة، فهو يُزيل اكتئابَهم ويقيهم أيضاً من مرض الزهايمر، وأنا صرت في الفترة الأخيرة كثيرُ النّسيان والشّرود، حتى أنني لا أتذكَّرُ أحياناً لماذا أدخل الحمّام.
قلت له: طيب..ما رأيُك أن أستشير أمّي بما قلتَه لي، فتدلي بدلوها في هذا الموضوع الحيويّ !؟؟
قال ضاحكاً وقد بان شراعُ حنكِه:
لا ! يستر على عرضك يا ابني، قصدت أنه ربّما يخطر في بالك أن تفعلها بِرَّاً بي وحرصاً منك على صِحّتي النفسيّة ولياقتي البدنيّة !! ولكن، بيني وبينك، أهونُ عليَّ ألفَ مرّةٍ أن ترميَني في الشّارع بموجبِ هذه الوكالة، قبل أن تدريَ والدتُك بما سألتُك عنه !!

About محمد فتحي المقداد

كاتب وروائي. فاز بجائزة (محمد إقبال حرب) للرواية العربية لعام 2021م. الروايات المطبوعة هي تشكيل لرباعية الثورة السورية. -(دوامة الأوغاد/الطريق إلى الزعتري/فوق الأرض/خلف الباب). ورواية (خيمة في قصر بعبدا)، المخطوطات: رواية (بين بوابتين) ورواية (تراجانا) ورواية (دع الأزهار تتفتح). رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!