(أدب العزلة في زمن الكورونا)
يدُ القدر
قصة قصيرة
بقلم الروائي -محمد فتحي المقداد
عيون الجالسين على طرف الطّريق تنغرس في وجهي تلاحقني بعدما قطعتهم بمسافة، والعابرين مُسرعي الخُطى يتفرّسونني بشراسة شرهة.
أنعطفُ يمينًا إلى الشّارع الآخر الموازي للأوّل، لُهاث أنفاسي أتعبني، ساعة الهاتف النقّال لم أترك النّظر إليها كلّ قليل، تمرّ الدَّقائق سريعة تنهب الوقت، أحثُّ نفسي بالسّرعة لحاق بموعدي مع الطّبيب الذي أنتظره منذ أسبوع. خلال فترة السّماح لنا بالخروج من منازلنا، بعد تخفيف حالة الحظر العامّ.
العُيون هنا ما زالت تُطالعني باستغراب. عاينتُ وجهي على شاشة الموبايل السوداء، انعكس عليها ظلّي مع ضوء الشّمس، كأنّها مرآة.
توقّفتُ للحظة. لا شيء يبدو على ملامحي استرعى كلّ خلال عبوري للشارعيْن، تأكّدتُ من ترتيب هندامي ولياقته المعهودة، لم أتخلّف عنها، هذا أنا لا جديد.. ولا غريب تبيّن لي.
ثارت عاصفة من التّخمينات في داخلي، تحليلاتي لم تصل إلى نتيجة واضحة لديّ، هواجس كثيرة تباعدت وتقاربت بزمانها ومكانها. شعورٌ داهمٌ عطّل جميع منافذ تفكيري بالاتّجاه الصحيح، اختلطت الأمور.
وصلتُ بُوابة العيادة بموعدي المُحدّد، ترافقت أولى خطواتي عتبة الصّالة مع نداء السكرتيرة على اسمي، ما إن وصلتُ على بُعد خطوة من طاولتها، وقفت صارخة بعصبيّة أجفلت سكون المرضى، خرقت دائرة الصمت، توقّف حركة الأيدي والأصابع التي تمسك بالموبايلات، صوّبوا أعينهم كحراب غُرست في جسدي المُنهك من المشوار الطّويل، الطبيب مُستغربًا أمرًا لم يحصل معه طيلة سنواته العشرين في مهنته. فاغر فاه, حاجباه قفزا للأعلى ليرسما قوسيْن على مقدّمة صلعته الجرداء تمامًا. تتدلّى السّمّاعة على صدره، حارت الكلمات تتلجلج بين شفتيه، لا تستطيع الخروج بوضوح ليسأل.
لحظة ذهول فاجأتني بصدمتها غير المُتوقّعة أبدًا. مَبهوتٌ، تخشّب لساني، أستحلبُ ريقي ترطيبًا للجفاف الطّارئ في الحال.
تشير أصابعها باتّجاهي وعينيّها تُصوّبهما نحو الطبيب، إلى هذه اللّحظة لم تنطق بكلمة واحدة ذات دلالة على شيء ما، ربّما تريحني، وتُزيل عنّي وقع المصيبة العظيمة.
بخطوات مُتسارعة الطبيب، قادني من يدي إلى غرفة صغيرة مجاورة لغرفته فارغة إلّا من كرسيّ بلاستيكيّ، وسرير معاينة. أشار عليّ بالجلوس، أغلق الباب خلفه من دون أن ينبس بكلمة واحدة:
-“يا إلهي ما هذه الورطة التي وقعت فيها، ما الذي فعلته بنفسي، ليتني تجاهلتُ الموعد والمجيء بمثل يوم النّحس هذا”.
عشر دقائق فصلتني عن عوالمي السّابقة واللّاحقة، خدّرت أعصابي بجمود صقيع قطبيّ، تسمّرت جُلوسًا مكاني، عيناي تدوران في زوايا الغرفة، السّتارة تغطّي الجزء الأكبر من النّافذة، تسمح بدخول ضوء معقول.
أصوات من بالصّالة نقاشٌ مختلط، كلّ اثنين يتكلّمان شيئًا ما، لم تتكوّن عندي فكرة واضحة عن كلامهم، لعلّها تُذهِب عنّي هوْل الصدمة،
الباب يُقرَع، يُطلّ شبحٌ بملابسه البلاستيكيّة الزرقاء، كأنّه قادم مع سكّان الفضاء لغزو كوكبنا، من يقف وجه الطّبيب مُصفّرًا كليمونة نضجت على أمّها. لم تُغادره ملامح الحيرة المكسوّة بالخوف.
تقدّم الكائن مع مُساعده، اقتاداني، بعدما وصلني صوته الأوّل من خلف كمّامة على فمه، وقناعًا بلاستيكيًّا شفّافًا حاجزًا بين وجهه وبين المحيط.
-“شرّف معنا.. يا أخ”.
-“إلى أين.. ومن أنتم..!!؟”.
-“إلى الحَجْر الصحّي”.
على الطّرف الأيسر من مدخل العيادة، رأيتُ صورة، كأنّها منسوخة عن شكلي حدّ التّطابق، أيقنتُ أنّ صاحب هذه الصّورة مطلوب.
هناك في المكان المُخصّص، خضعتُ لاستجواب غير مسبوق في حياتي، دقيق لدرجة إحصاء أنفاسي من يوم أن كنتُ في بطنْ أمّي، طلبوا منّي جواز سفري الذي قدمتُ به من دولة أجنبيّة تفشّى فيها الوباء بشكل كبير.
تنفّستُ بعمق، ارتياح سرّى في أعصابي هدوءًا طارئًا. أيقنت أن لبْسًا في الأمر، مثل تشابه الأسماء عندنا في سوريّة، الذي ذهب ضحيّته أبرياء لا ناقة لهم ولا جمل. انطلق لساني من عقاله بطلاقة:
-“أصلًا أنا لاجئ لا أمتلكُ جواز سفر، ولم أسافر خارج الأردنّ منذ مجيئي إليها قبل سبع سنوات”.
-” غير ممكن.. أبدًا مو معقول.. هل تهزأ منّا حتّى تفلت، يا أخي الأمر خطر عليك وعلى الآخرين، يجب أن تخضع للفحص والحجر لمدّة أسبوعين، وبعدها يُنظر في أمرك”.
أبرزتُ بطاقتي الأمنيّة.. تأكّدوا من سلامتها وجهة صدورها، تغيّر الموقف مئة وثمانين ودرجة. ذهول غير مُتوقّع.. فشل جهودهم الحثيثة بحثًا عن شبيهي. قرّروا بعد مُشاورات:
-“بما أنّكَ وصلتَ هنا؛ ستبقى عندنا في العزل نطمئن على صحّتك، وكيف وقد صدر الإعلان عن العثور عليك”.
-“يا جماعة الخير كلّ الشكر لجهودكم وحرصكم على حياتي، أولادي وعائلتي بانتظاري، لأرجع لهم بطعام الغداء، وما يكفيهم مؤونة الغدّ”.
-“لا تبتئس.. سيصلك طردٌ غذائيٌ، وكافّة مُستلزمات العائلة فترة غيابك عنهم، وما يزيد عن حاجتهم”.
من جديد تنفّستُ بعمق، تذكّرتُ أنّني كنتُ سأستدين مبلغًا من صديق قديم، بعدها سأشتري القليل مما يكفي بقاءنا على قيد الحياة.
عمّان -الأدن
ــــا 5 \ 4 \ 2020