في تمام الساعة السادسة صباحًا رن منبه الهاتف، فسارعت إلى كتم صوته، لكي ينعم زوجها بنومته الهادئة. نهضت من الفراش على عجل… توجهت نحو غرفة طفليها، نادتهما باسميهما، تلمست جبينيهما بلطف، ثم انطلقت نحو المطبخ لتحضير الفطور، وضعت الحليب على نار هادئة، وجهزت الأكواب والأطباق وشرائح الخبز بالجبن على الطاولة، وبينما هي تعد السندويشات بخفة، تصاعدت المشاحنات المعتادة بين طفليها، إلا أنها لم تعر ذلك أي اهتمام، فالأمر نفسه يحصل كل صباح. سهت للحظات، شمت رائحة الحليب المحترق والمتدفق فوق البوتاجاز، سارعت لإطفاء النار وتنظيف ” الخسائر”. وقت كثير يضيع وأعباء إضافية لم تكن في الحسبان…
تشعر وكأنها تسابق الزمن، عيناها تنتقلان بين الساعة الحائطية وبين باب غرفة الطفلين، تفكر في ما يتعين عليها القيام به بعد ذلك، عليها أن تحضر نفسها للذهاب إلى العمل وايصال طفليها في طريقها إلى مدرستهم، وعليها أن تخرج في وقتها المبكر المعتاد، قبل أن تكتظ الشوارع بالسيارات، وتصبح القيادة شيئا لا يطاق.
الساعة الثامنة، كانت تقف أمام باب المدرسة، مثل الكثير من الأمهات اللواتي يتولين هذه المهمة… قبّلت طفليها ثم راقبتهما حتى دلفا إلى حرم المؤسسة، بعد ذلك تابعت طريقها إلى العمل، وسط الزحام، حيث كانت أصوات المنبهات تصم الآذان ، أحدهم تجاوز سيارتها خارقا قانون السير ورافعا يده مرددا عبارات السب والشتم.. الظاهر أنه انزعج من حرصها على السير ببطء احتراما لعلامة تحديد السرعة. أشعلت الراديو لتغير من مزاجها الذي حاول ذلك الأخرق تعكيره، لكن زعيق مقدم البرنامج دفعها لتغيير الموجة إلى أخرى أكثر هدوءا، ثم استغرقها التفكير في ما ينتظرها من مشاق طيلة اليوم.
عند الخامسة مساءً كانت تقف من جديد أمام باب المدرسة لتأخذ طفليها، وكانت خلال اليوم قد تلقت اتصالًا من مديرة المدرسة طلبت حضورها العاجل لأمر يخص الولد الأصغر. لم تكن هذه هي المرة الأولى، استقبلتها المديرة بشكوى حول شغب الطفل في الفصل، فاستمعت إليها باهتمام وبرود، إذ لم تكن تحب أسلوب المديرة في التعامل مع أولياء الأمور، ولا طريقتها في إدارة المدرسة كسجان عبوس مكفهر الوجه على الدوام. تخيف الاطفال أكثر مما تحبب إليهم المدرسة/ المعتقل.
عادوا جميعا إلى المنزل، اندفع طفلاها إلى المطبخ، تناولا بعض الفواكه والبسكويت، قبل أن يجلسا أمام التلفاز. بدورها، دخلت غرفتها لتبديل ملابسها، ثم توجهت إلى المطبخ لتحضير طعام العشاء، ظلت تراقبهما من بعيد، صوت ضحكاتهما وصخبهما كان يخفف عنها تعب النهار.. كانت منهمكة في الطهي ثم وجدت نفسها تساعدهما أيضا في أداء واجباتهما المدرسية وسط أجواء من الجدية واللعب. تناولوا العشاء جميعا، ثم ذهب الطفلان إلى فراشهما.
أخيرا وجدت نفسها ترتمي منهكة على أريكتها المفضلة، قرب المدفأة، أخذت نفسا عميقا وأغمضت عينيها للحظات قصيرة. عاد زوجها متأخرا من العمل، وكعادته دخل غرفة الأطفال ووضع قبلة على جبين كل واحد منهما، ثم توجه إلى المطبخ لتناول عشائه، لم تسأله عن يومه ولم يسألها هو، كلاهما يعلم أن الحديث سيتحول إلى حوار متعب وبلا جدوى.
كما لم تخبره عن استدعائها من قبل المديرة، ولا عن شكوى الأساتذة من شغب وفرط الحركة عند ابنهما الأصغر، لأنها تعبت من التكلم في هذا الموضوع وتعلم أن مثل هذه التفاصيل لا تهمه كثيرا، فقد أجبرها على القبول بتوزيع غير عادل للأدوار: هي تتولى شؤون الأطفال، وهو يدفع مصاريف المدرسة،
بعد محاولات فاشلة لنقاش الموضوع، وجدت أنه لا طائل منها، فقررت أن تتحمل المسؤولية بمفردها، واضعة الحد لحرب قد تشتت شمل بيتها.
دخلت غرفة النوم، واستلقت على الفراش، أخذت الكتاب الذي كان على الطاولة بجانب رأسها… دخل زوجها الغرفة، و طلب منها أن تضع له المرهم على كتفيه، وتقوم بتدليك خفيف، بعد دقائق قليلة من التدليك، علا شخيره، فقامت من جانبه بهدوء وأخذت رواية “قواعد العشق الأربعون”، وذهبت إلى الغرفة المجاورة، لتقرأ بضع صفحات قبل ان يزورها سلطان النوم الذي لا يعصى له أمر … استسلمت له والرواية في حضنها، بينما زوجها متكوم على نفسه يغط في سبات عظيم. تساءلت في حلمها هل حقا تعيش الحب؟ هل حقا ذاقته وتمتعت به يوما وعرفت معناه، أم أنها فقط تمثل دور الزوجة والأم، وتستسلم للقواعد التي فرضتها عليها الحياة والمجتمع؟ لم تستفق الا على منبه الهاتف، السادسة صباحًا مرة أخرى، يوم جديد في حياة “سوبر ماما”، سترفع صخرتها على ظهرها وتقضي نهارها ترزح تحت ثقلها دون ان تئن أو تتوجع، بخفة كتمت صوت الهاتف حتى لا تزعج شريكها! وقفزت من مكانها قاصدة غرفة الطفلين، فربما، ربما يأتي وقت لتكتب قصتها قبل أن يدركها الصباح.