أصبح المجدوب مهووسا بملاحقة حرباء المدينة، لغزها يحيّره، تغيرت ألوانها بين النفاق والتملق والكذب والمجاملة، عندما أصبح قلق وجودها وتواجدها هاجسا تتخبّط فيه،، زادت حيرته بعدما أسقطت لونها الطبيعي على بوابة المتاهات وعكست لون سراديبها المموّهة،، فأضحت باهتة وبلا لون،
فالمتاهات غالبا ما تكون عبارة عن فقاعات فارغة يبتلعها الصّخب وسط الفراغ والعتمة ، تتناسل بمكر،،وعندما تحبل وبعد مخاض عسير، تلد أوهاما بكماء هجينة محدودبة الملامح ، مقوسّة النبض ، تلبسها جبة بالية من أكاذيب وثقوب بصيرة وذاكرة عصيّة على الرّتق .. لم يصفّق المجذوب فرحاً بالوهم.. ، شارد كان بدون بوصلة ولا ابتسامة ،، يبحث عن خيط من كبة نور تحيك روحه و ترشده للحقيقة ،، ،،،
وبعد تفكير وطول تأمل، غادر المجدوب المدينة إلى البراري، يبحث عن الحرباء الحكيمة، حرباء الرمال، هي الأصل والوفاء،، تعشق التراب تتمرّغ به حتى تنفذ كلّ ذراته إلى مساماتها، ويصبح جلدها لون الأرض، وجدها مستلقية على ظهرها، تستمتع بحمّام الشمس وتمتصّ أشعتها، وما إن رأته يقترب، حتى غاصت مع موج الرمال هناك تحت الثرى حيث الأموات الأحياء،، تبادلهم الشجن، وتجدّد الوعد والعهد،، ثم طفت من جديد على السطح، وقد تجدّدت دماؤها بعد لقاء الأحبّة، وقبلة الشمس،،
لم تهرب حرباء التراب، استأنست بالمجدوب به بعض من رائحة الغائبين، حملها بين يديه بحنان، وكان لونها وقد عكس لون التراب وجلده، متناغما ودافئا،، بكى في حضنها عتمة الجشع وسذاجة الجوع ،،،جشع ماكر ابتلع كل النور ،وجوع بلامنطق ولاعقل صدّق أن للوهم رائحة الخبز وفِي نشاز العبث عزف الملائكة،،، نظرت إليه حزينة بعينيها الجاحظتين، مسحت دموعه بلسانها الطويل.
وهي تهدئ من روعه، وتسرّ له بتعويذة تخلّص المدينة من العتمة ، تدكّ المتاهات، وتعيد للحرباء لونها الطبيعي،، قالت له مودّعة :-لون الحرباء كالخيتعور، لا يدوم على حال، وكالسّراب يضمحلّ، سرّ خلودها، وتبات لونها هو التصاقها بالأرض و التّراب،، وكلّما ابتعدت عنهما، خاصمتها الحقيقة ولبستها الظنون،، لون التراب حقيقتها،، وأنين الكادحين صوتها،، لذلك لا حياة لها بدونهما ولا لون،ولا صوت،،،،
كان المجدوب سعيدا وهو يدخل المدينة،لم يكن يمشي ،، كان يعانق الذكرى وكل الأمكنة تأتي اليه ،،،ولم يكن للذكرى عبيرٌ دون أنفاس الغائبين ،، مزيجٌ من مسك وعنبر وياسمين ،،ووفاء،،لم يكن يمشي،،، كان يحلّق بأجنحة من تراب حتى يلمس قوس قزح قد يبث بعضا منه لحلمه فيزهر،،،،
وهو يعدو نحو غايته ، كانت ذرات الثرى تثقل خطواته بقبلاتها الحارقة ،، لذلك كانت أقدامه الحافية تعانق الدفء وتبثه لقلبه الحزين ،، فيبتسم ،، يحلم بقبلة الشمس على ثغر مدينته تكون أكثر دفء من قُبْلة الأرض لقدميه ،، انتبه أن سكّانها أحياء أموات، نظراتهم فارغة ،جائعة بدون ضوء بعد أن سرق الجشع وحرباء المدينة كلّ الأمل و بريق العيون وغاصا في المتاهات،، وهناك خارج أسوار المدينة الملعونة، ابتعدت الشمس حزينة تنتظر أن تُدكّ الأسوار وتتبدد العتمة،،
أخرج المجدوب من جيبه الأيسر والأقرب إلى قلبه حفنة تراب دافء،، نثرها بالجوّ، وهو يتمتم بتعويذة لقّنتها له الحرباء الحكيمة، لشمس الدين التبريزي:
_ ” سلام على الذين يزهرون القلوب إذا نزلوا بها، وكأنّهم في بقاع الأرض أنهارا”.
ثم غير بعيد عن المتاهات، جلس القرفصاء ينتظر خروج الجشع والجوع وحرباء المدينة وقد استعادت لونها الطبيعي، لون الأرض والعهد،،، وفي ومضة صفاء ووفاء،، وهو يعكس كلّ أشعة الشمس التي تشبّع بها ذات لقاء، ابتسم المجدوب لعدالة حافية تقف مترنحة غير بعيد منه تكاد تفقد توازنها ،تنتظر أيضا ،،يحذوها أمل العثور على حذاءها الضائع ،،،