ماذا يحدث في غزّة؟

إعداد: سليم النجار- وداد أبوشنب

” مقدِّمة”

مفردة “السؤال” وحدها تحيل إلى الحرية المطلقة في تقليب الأفكار على وجوهها، ربّما هدمها من الأساس والبناء على أنقاضها، كما أنَّها من أسس مواجهة المجازر وحرب الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزّة والضّفّة، من قِبَل الاحتلال الإسرائيلي٠

في هذا الملف نلتقي بعدد من الكُتّاب العرب الذين يُقدِّمون لنا رؤاهم حول ماذا يحدث في غزّة؟

وما يستدعي الدرس والتمحيص والنقاش والجدال والنقد، لأنّ الأشياء تحيا بالدرس وإعادة الفهم، وتموت بالحفظ والتلقين٠

الإعلامي محمد محمود البشتاوي من الأردن يكتب لنا من زاويتها “ماذا يحدث غزة”؟

 

لا وجه آخر للحقيقة

محمد محمود البشتاوي /كاتب وإعلامي من الأردن

 

1-إعلام وفبركة

لا وجه واحد للإعلام، له ألف وجه! لأن الصورة يمكن اقتطاعها لتكون في إطار يُعبرُ عن جزئية محددة، أو في اختيار الزاوية التي يمكن أن تكون معبرة عن وجهة نظر طرفٍ ما، وحتى الصورة نفسها يمكن أن توظف في غير سياقها ضمن حملة موجهة، وهذا ما حدث مع الدعاية الصهيونية في بث أكذوبة “قطع رؤوس 40 طفلاً إسرائيليا”، حين اندفع بعض محبي الاحتلال في نشر هذه الكذبة وربطها بصور أطفال في عزة!، لكن “الثلج” ذاب سريعاً من حرارة الدم الفلسطيني، كشفت الكذبة، واضطر ناشرها لحذف الصور فوراً؛ لأن الجمهور تنبه لها، وتكرر الأمر مع أكثر من محاولة، حتى أنقاضُ غزة بعد القصف، لم تسلم من محاولة يائسة للفبركة!

لا يدور الحديث هنا عن أشخاص متعصبين، لا، الأمر يتعلق بـ”وسائل إعلام عالمية”، مثل سي أن أن، بي بي سي، وغيرهما، فكان الحذف والاعتذار حفاظاً على “ماء الوجه” الذي أريق في حربٍ لا أخلاقية، تحاول فيها وسائل إعلام أجنبية تجميل الوجه القبيح للاحتلال.

ومع التكرار، حتى أصبحت الصورة واضحة؛ “إسرائيل ترتكب إبادة وجرائم حرب ضد المدنيين”، اتبعت وسائل الإعلام الغربية، أسلوباً آخر، يقوم على التشكيك؛ فبعد قصف الاحتلال لحي في مخيم جباليا ارتقى بسببه 400 شهيد – في إحصائية أولية – نشرت سي أن أن الخبر على النحو التالي: “انفجار في مخيم جباليا”! ثم عادت وقدمت الرواية الإسرائيلية أن الاحتلال قصف الحي مستهدفا قائدا في المقاومة الفلسطينية، مؤكدا أنه لا يعرف إن كان قد قتل في هذا القصف أو لا!

 

2-الصهيونية.. وجذور تاريخية في توظيف الإعلام

لنعد إلى الوراء كي نفهم ما تقوم به وسائل الإعلام الغربية تحديداً اليوم؛ فقبل وضع مشروع احتلال فلسطين على الطاولة، ومعاينته، أنشأت بريطانيا صندوقاً عرفَ بـ”استكشاف فلسطين”، وبموازاة ذلك، وبدعم من دول غربية أخرى، مثل فرنسا، وبتنسيق من الوكالة اليهودية، بدأ العمل على التقاط صور محددة من فلسطين، تصوير تجمعات عربية في حالة يُرثى لها من الفقر والضياع، وهي حالة عامة كانت سائدة في مختلف دول العالم الإسلامي، سببها “الرجل المريض” الذي بدأ يسقط.. الدولة العثمانية، تصوير مناطق فارغة في فلسطين؛ جبال، أو صحراء النقب، تصوير الأماكن الدينية ذات “الرابط الروحي” مع الغرب مثل الكنائس، الآثار الرومانية، لإحياء “الطموحات الصليبية”، وكان الهدف من كل ذلك القول إن هذه الأرض “بلا شعب”، أرض خالية، غير مستعمرة، أي غير مسكونة، رغم وجود قلة من ساكنيها في حالة تخلف.

لم تتوقف الصهيونية في توظيف الصورة فقط في تزوير الحقائق، أيضاً وظفت الكتابة عبر الصحف، فأطلقت مقالات تتحدث عن أهمية قيام “وطن قومي يهودي” في الشرق العربي، الذي من شأنه أن يحقق الرفاه والتقدم الاقتصادي والازدهار للمنطقة، وفي سبيل ذلك، نشرت الوكالة اليهودية في ثلاثينيات القرن الماضي، مقالات في صحف سورية ولبنانية، عبر عملائها، تتمحور حول “الفلسطيني المخرب والإرهابي”، والمنفعة الاقتصادية، وعدم جدوى دعم الفلسطينيين في نضالهم، لأن فقراء حلب أولى، والإسكندرون أهم من فلسطين، والأمر نفسه ينسحب على توظيف السينما في ترسيخ “أحقية اليهود بهذه الأرض”.

عملت هذه الدعاية على قلب الحقائق، وتزويرها، وتسويق أهمية استثمار أرض فلسطين، واستعمارها، وإعادتها إلى أصحاب الوعد الإلهي، اليهود، وفي الوقت نفسه، قدم هذا الوطن للوكالة اليهودية، كتعويض عن اضطهاد الدول الأوروبية لهم، وليس فقط النازية في ألمانيا.

 

3-اختلاف الزمن

في ذلك الزمن، لم يكن العرب في إطار هذه المعركة؛ معركة الوعي، وتوظيف الإعلام، وتشكيل رأي عام عالمي في الغرب، والسبب، أن العرب كان محكوم عليهم بالهيمنة الغربية بحكم الاحتلال الذي سمي حينها “استعماراً”، أو “انتدابا”، وعليه لم يكن باليد حيلة.

في المقابل، كان اليهود أبناء المعازل “الجيتوهات”، منبوذين من الغرب، والبحث عن حل لهم، أمر لا مفر منه، لذا جاء مشروع الوطن “القومي” لليهود في فلسطين، يكون قاعدة احتلالية لتأمين مصالح الغرب، وفي الوقت نفسه، يحقق طموحات تيار الصهيونية ويحقق أحلام هيرتزل.

اليوم.. الأمر مختلف، ومحاولة ترميم صورة الصهيونية المتمثلة في “إسرائيل” لم يعد مقبولاً في ظل وجود آلاف المصادر، والناشطين في تفنيد أكاذيب الاحتلال، ليسوا عرباً، ولا مسلمين فقط، بل أيضاً من ديانات وثقافات مختلفة، وموزعين على مختلف أنحاء العالم، حتى إذا أرادت فرنسا [عاصمة الأنوار] تجريم التعاطف مع فلسطين، وجدت شوارعها وساحاتها تغص بعشرات الآلاف من المتظاهرين الغاضبين من الرئيس الفرنسي لانحيازه الفاضح إلى جانب الاحتلال، والأمر ذاته تكرر في بريطانيا، وفي الولايات المتحدة الأمريكية، فقد كان لافتاً، خروج المئات من اليهود الرافضين لربط جرائم الصهيونية القائمة في غزة، وما قبل غزة، بالديانة اليهودية!.

أصبحت الصهيونية اليوم.. نظير النازية والعنصرية، والسبب ليس فقط نشاط المتضامنين مع القضية الفلسطينية من شعوب العالم، أيضاً إعلان الكيان المحتل عن ثقافته بكل وضوح ودون مواربة؛ فالفلسطينيون هم “حيوانات”، وقصف المرافق الطبية والتعليمية مبرر، وقتل الآلاف من المدنيين “لا بأس به”؛ فالطفل الصغير حين يكبر سيصبحُ مقاتلا ضد “إسرائيل”؛ لذا فإن قلته وفق هذا المنطق الفاشي أمر مبرر.

يسأل صحفي أسترالي رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو: “حكومتنا تقف إلى جانبكم، لكن الشعب الأسترالي ينتقد قتل المدنيين في غزة؟!”، يجيب نتنياهو “هذه معركة بين العالم المتحضر والوحوش”، والخطأ في المعارك قائم، ويشبه ما جرى، بما حدث في الحرب العالمية الثانية حين قصفت القوات البريطانية خلال حربها مع النازية مستشفى قتل فيها 48 طفلاً بـ”الخطأ”!، وهنا يسأل نتنياهو: “هل هذه جريمة حرب؟” ويجيب على نفسه: لا”!، وما المثل الذي اتخذه نموذجا في إجابته، إلا لتعالي الأصوات عالميا، بالنظر إلى نتنياهو كـ”مجرم حرب”، أوغل في دماء الأطفال والنساء.

ولأننا لا نعيش في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، ولأن المجازر تبث على الهواء مباشرة، والتوثيق قائم لحظة بلحظة، فإن الخطاب الغربي، تراجع مجبراً عن تبني الرواية الإسرائيلية بالمطلق؛ لأنها تعرت وتآكلت وسقطت في مصداقيتها، ولم تعد تجد صدى إلا لدى المتعصبين من المسؤولين بخطاب الكراهية والعنصرية ضد العرب والمسلمين، وهذا ما دفع مستشاراً سابقا في البنتاغون، الجنرال دوجلاس ماكجريجور، الولايات المتحدة الأمريكية، إلى أن تحمي “إسرائيل” من تدمير نفسها بنفسها، أي من التدمير الذاتي، وذلك لأن سلوكها وتصرفاتها أصبحت تضر بها.

توماس فريدمان، الصحفي الأمريكي اليهودي، الصهيوني أيضاً، كتب مقالاً ينتقد فيه نتنياهو، لأن الرد الدموي والعنيف على غزة سينعكس مستقبلا على “إسرائيل”، ومصداقيتها، ويرى أنه كان أمامه “الحل الهندي” في استيعاب هجمات 7 أكتوبر (طوفان الأقصى)، وتحديد الرد تحت عناوين إنسانية مثل “أنقذوا رهائننا”، ولأن الرد كان عشوائيا وانتقاميا، فإنه دفع لظهور تيارات معادية لإسرائيل على مستوى العالم، في حين أن أهداف الحرب وتكلفتها التشغيلية عالية، علاوة على الأضرار على المستوى الاقتصادي وتوقف الحياة، بنظر فريدمان، لم تكن في حسبان نتنياهو.

 

الخاتمة: أصحاب حق

ثمة تحد يواجه المؤسسات الإعلامية الرسمية وشبه الرسمية في تلفيق الروايات، وتقدم الاحتلال بمظهر “المتنور” في بحر من ظلام الشرق، يتمثل في الإعلام الاجتماعي، والأصوات الحرة المؤثرة على شبكات ومنصات الإنترنت، وهذا جعل شعوب العالم ترى وتعاين مدى الظلم والعدوان الواقع على الشعب الفلسطيني.

ومع أهمية هذا التحوّل – على الصعيد الشعبي – من الضرورة الانتباه إلى أن من يتعاطف معنا من باب “كوننا ضحايا”، وهذا صحيح، لكن الأهم هو التأكيد على “أننا أصحاب حق”؛ لأن هناك من يساوي ويقول “المدنيين من الطرفين”، انطلاقاً من عدم معرفته بتاريخ هذه المنطقة؛ لذا كان الغضب كبير جداً على أمين عام الأمم المتحدة أنتونيو غوتيريش حين قال إن هجمات المقاومة الفلسطينية على الاحتلال الإسرائيلي لم تحدث من فراغ، مرجعا إياها إلى “ما عاناه الشعب الفلسطيني من احتلال خانق على مدار سنوات”، والحقيقة أنه احتلال منذ عقود.

أصحاب حق وليس مجرد ضحايا وأرقام، هذا ما يجب التركيز عليه، والتذكير عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والإعلام، على مجازر ما قبل قيام “إسرائيل” على يد عصابات صهيونية، اتبعت نفس السياسة التي تقوم عليها اليوم في العدوان المتواصل على غزة.

About محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!