إعداد: سليم النجار- وداد أبوشنب
” مقدِّمة”
مفردة “السؤال” وحدها تحيل إلى الحرية المطلقة في تقليب الأفكار على وجوهها، ربّما هدمها من الأساس والبناء على أنقاضها، كما أنَّها من أسس مواجهة المجازر وحرب الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزّة والضّفّة، من قِبَل الاحتلال الاسرائيلي٠
في هذا الملف نلتقي بعدد من الكُتّاب العرب الذين يُقدِّمون لنا رؤاهم حول ماذا يحدث في غزّة؟
وما يستدعي الدرس والتمحيص والنقاش والجدال والنقد، لأنّ الأشياء تحيا بالدرس وإعادة الفهم، وتموت بالحفظ والتلقين٠
أسيد الحوتري من الأردن يكتب لنا من زاويته “ماذا يحدث غزة”؟
تقديم
حين نتكلم عن ماذا يحدث في غزة؟ تقفز الى مخيلتنا للوهلة الأولى مجموعة من صور تلفزيونية غزت العالم واحتلت إدراكه٠ للتو يتلامح أمام أعيننا شبان يقاتلون ببنادق ضد آلة عسكرية جهنمية إسرائيلية مزودة بأحدث الأسلحة الأمريكية، التي تقصف البيوت وجنود يسيرون في مصفحات مدججة بأسلحة نارية وقنابل الغاز٠ تدعهم من الحوامات وجنود متعطشين لدماء الفلسطينيين وأموالهم وبيوتهم وأراضيهم ومياههم٠ وعلى المقلب الثاني في الضفة الفلسطينية نشاهد الجنود والمستوطنين بدأوا بإطلاق النار واعتقال الشبان وتكسير أطرافهم بالهراوات وتقطيع أعضاء الجرحى ومنع سيارات الإسعاف من نقل المصابين، وإذا رأينا الجنود يطلقون النار على المتظاهرين وعلى شرفات البيوت، ثم يقتحمون المنازل ويرمون على النساء والأطفال غازات سامة تخنقهم وتشل اعصابهم.. إذا رأينا كل ذلك عرفنا أنّ الفلسطينيين يتعرضون لإبادة جماعية، والعالم لا يملك غير التعليق على هذه الصور، وهكذا يتمّ عناق المضطهِد للمضطهَد( بالكسر فالفتح) في جو من التوبة لدى الأول والغفران والصفح من لدن الثاني، وتنتصر الإنسانية السمحاء والقيم العريقة٠٠٠ على أن القيم حين تنتصر تفيد قوماً على حساب قوم آخرين وهذا التأثير الجانبي للقيم هو الذي يحدد مدى أخلاقيتها والمنحى الواجب تطورها اليه٠ وفي هذا السياق وإن بدأ لبعض القرّاء أن ما طرحه الكاتب والروائي والمترجم أسيد الحوتري في قراءته لتجارب روائية هندية بعيدة عن موضوع ماذا يحدث في غزة؟ إلا قد يكون هذا القول على صعيد الشكل معقول، لكن إذا ما دققنا قليلاً نكتشف أننا لم نبتعد عن الموضوع فهذه تجارب إنسانية رصدت مقاومتها نفس المستعمر.
كما قرأ الحوتري في الروايتين فكرة أنّ العدالة الآلية عدالة عوراء، تنظر إلى ناحية واحدة: لديها ظالم ومظلوم٠ أما الإحساس بالإنصاف فهو إحساس شامل وإنساني حقاً، لأنّه يتطلّب نظرة شاملة إلى كل عناصر الموقف ومكوناته وتداخلاته مع فرقاء آخرين متعددين٠
الحوتري قدّم قراءة ثقافية لروايتين هنديتين تتماهي مع الرواية الفلسطينية من حيث المقاومة لنفس المستعمر وإن تغيرت الأسماء لكن في الجوهر هما يحملون ثقافة ورؤية استعمارية استعبادية للإنسان الباحث عن حريته وحقّه في الحياة بكرامة٠
سليم النجار
من الأدب الهندي: المقاومة الثقافية على الطريقة الهندية
أسيد الحوتري/الأردن
“عندما سمعهم (جوبلز)، العقل المدبر للدعاية النازية، وهم يتحدّثون عن الثقافة، أخرج مسدسه”
(إبرال، 1994)
1-المستعمرِ الغربي لا يملك إلا ثقافة الاستعمار
لقد سجّل التاريخ أن الاستعمار هو عبارة عملية ثقافية، وبالتالي فإن “التحرر الوطني هو بالضرورة فعلٌ ثقافي” أيضا (كابرال، 1994). ينقل التاريخ لنا أيضًا أن الاستعمار يتألف من قسمين:
1- الغزو الثقافي المادي: والذي يتم بواسطة القوات العسكرية التي تتمثل مهمتها في احتلال الأرض وتأمين المؤسسات الاستعمارية.
2-الغزو الثقافي المعنوي: وهو الغزو الأيديولوجي الفكري. إنه خطاب استعماري تُشكّلُهُ آراء وتصريحات وفنون جميلة وأدب، وبحوث “علمية” أو حتّى خيالية، ودراسات قامت بها القوة الاستعمارية حول الأمم (الدّول) التي سيتمّ استعمارها في المستقبل. الهدف من هذا الغزو الثقافي المعنوي هو إقناع كلّ من المستَعمِر والأمم المُستَعمَرة بأنّ الشعوب الأوربية بيضاء البشرة هي أعلى مرتبة من باقي شعوب العالم، ويؤكد هذا الخطاب الاستعماري على أنّ الرّب قد اختار الرّجل الأبيض ليحمل على عاتقه المهمة الإنسانية الجليلة والتي تتمثّل في إخراج شعوب العالم الأدنى مرتبة من الظلمات الجهل والتخلّف إلى النور العلم والحضارة. لقد دعم الرجل الأبيض عملية إقناع العالم بأهمية مهمته بمختلف منتجاته الثقافية المادية منها والمعنوية، دعمها بأمور مثل: التكنولوجيا، وسائل النقل والاتصال، الفن، الأدب، وما إلى ذلك. إن الغزو المعنوي يسبق دائمًا ويمهِّد الطريق إلى الغزو المادي (العسكري). لعلّ أهم ما نتج عن الغزو الثقافي المعنوي للمستعمر هو إنكار “العملية التاريخية للشعب المسيطر عليه” (المرجع نفسه)، بمعنى إنكار ومحو تاريخ الشعوب التي تمّت السيطرة عليها، ليعتمد المستعمر تأريخا جديدا يبدأ من لحظة وصوله للأرض التي فرض سيطرته عليها. إن عملية الغزو الثقافي المعنوي هي عملية مستمرة، بمجرد أن تبدأ فإنّها تستمر إلى الأبد. في النهاية، وجدت حركات التحرير نفسها أمام هذين النوعين من الغزو: الغزو المادي الثقافي (الغزو العسكري) والغزو المعنوي الثقافي (الغزو الفكري). لذلك قامت حركات التحرّر الوطني في جميع أنحاء العالم بتجنيد سياسييها، ومقاتليها المسلحين، ومقاتليها السلمييّن (ساتياغراهي) كما كان الحال في الهند، قامت هذه الحركات بتجنيد كلّ هؤلاء ضدّ الغزو الثقافي المادي، كما وجندت أيضا المثقفين والمفكرين، الفنانين والأدباء ضدّ الغزو الثقافي المعنوي.
يجدر بنا بداية تعريف كلمة “ثقافة” لكي نحصل على فكرة واضحة عن الدور الذي لعبته “الثقافة” في استعمار الشعوب وفي التحرر من هذا الاستعمار. الثقافة هي: “نظام المعتقدات والقيم والعادات والسلوكيات المشتركة التي يستخدمها أفراد المجتمع للتعامل مع عالمهم ومع بعضهم البعض، والتي تنتقل من جيل إلى جيل من خلال التعلم” (جيانغ، 2010). وهكذا، فإن الثقافة هي أفكار، ومشاعر، وأفعال مجموعة من الأشخاص، وهي تختلف عن أفكار ومشاعر وأفعال مجموعة أخرى من الأشخاص. الثقافة هي ثمرة أفكار، ومعتقدات، بعض الأشخاص عن الكون والإنسان والحياة، والتي ينتج عنها مشاعرهم، ومشاعرهم تخلق بدورها أفعالهم، وأفعالهم تقودهم إلى مصيرهم: السعادة أو الشقاء.
في هذا المقال، سأقدم أمثلة مفصلة من روايتين هنديتين كتبتا باللغة الإنجليزية، الرواية الأولى هي: (في انتظار المهاتما (Waiting for the Mahatma)، وهي للكاتب الهندي (راسيبورام كريشناسوامي نارايان)، أما الرواية الثانية فهي (كانثابورا)( Kanthapura) ، وهي للكاتب الهندي (راجا راؤو). سنتعرف في هذا المقال على الطرق التي هاجم بها المحتل البريطاني الثقافة الهندية لضمان استمراره، وكيف دافعت الثقافة الهندية عن نفسها، وقاومت الغزو الثقافي المعنوي البريطاني. من أجل تحقيق هذا الهدف، سيتم إلقاء الضوء على أربع ثقافات رئيسية كانت موجودة في عهد الاستعمار البريطاني، وعلاقاتها مع بعضها البعض؛ وهذه الثقافات هي: (1) الثقافة البريطانية. (2) الثقافة الهندية الجديدة التي تبنت إصلاح الثقافات الهندية ومقاومة مشروع المستعمر. تشمل هذه الثقافة الجديدة قسمين رئيسين: (أ) ثقافة غاندي التي تبنت المقاومة السلميّة. (ب) ثقافة المقاومة المسلّحة. (3) الثقافة الهندية المتشبعة بالثقافة الاستعمارية. (4) الثقافة الهندوسية، القديمة أو ثقافة “ما قبل الاستعمار”.
في روايتي (كانثابورا) و(في انتظار المهاتما)، قام كل من (رجا راؤو) و(نارايان) بتقديم البريطانيين المحتلين للهند كملاك للعزب. والعزبة هي مزرعة فيها قصر المالك أو داره وبيوت الفلاحين الذين يزرعون أرضه. في رواية (كانثابورا) كان اسم العزبة (اسكيفينجتون كوفي)، أما في (في انتظار المهاتما) كان اسم العزبة (ماثيسون). يعيش البريطاني المحتل في هذه العزب حياة فاخرة بين موظفيه، وخدمه وحشمه، وحراسه، حياة منعزلة تماما عن حياة الهنود الذين يعانون من والفقر البؤس والجوع والحرمان. قد تذكّر هذه الصورة القارئ بـ “ممارسة الفصل العنصري [التي] تأخذ شكل الاستغلال غير المقيد للقوى العاملة” (المرجع نفسه). وأقرب مثال لهذا الفصل العنصري هو ما يمارسه الاحتلال الصهيوني على الفلسطينيين في فلسطين المحتلة، وأفضل رمز لهذا الفصل هو جدار الفصل العنصري. على الرغم من اعتباره لنفسه متفوقًا، تؤكد الروايتان حقيقة أن البريطاني لم يكن إلا شخصية مادية حتى النخاع، شخصية تستغل الموارد الطبيعية والبشرية الهندية دون رحمة. سأستعرض في الأسطر التالية الكيفية التي تعامل بها البريطانيون مع الثقافات الهندية المتنوعة من أجل إطالة أمد الاستغلال الاقتصادي ونهب ثروات الهند.
أدرك البريطانيون أن ثقافة الأمة تحدد مصيرها، لذلك شنّوا حربًا لا هوادة فيها على ثقافة الأمة المستعمَرَة، واتبعوا في تلك الحرب عدة استراتيجيات، أهمها: (1) إنكار تاريخ وثقافة الأمّة المستعمَرة. (2) ترسيخ الجوانب السلبية لثقافة الأمة المستعمَرة، خاصة تلك التي تساهم في تقسيم الأمة. (3) تقويض الجوانب الإيجابية لثقافة الأمة المستعمرة، أو على الأقل إضعافها. (4) فرض الثقافة الغربية على الأمة المستعمَرة وخاصة الدّين واللغة والأدب والأزياء. كل هذه الاستراتيجيات كان لها هدف واحد هو الهيمنة: فرض السيطرة التامة.
وجد المهندس (كرمشاند غاندي) الذي كان الزعيم البارز لحركة الاستقلال الهندية نفسه وجهاً لوجه مع عقبة رئيسية واحدة حالت دون تحقيق الأمة الهندية لـ (السواراج) أو الاستقلال، وهذه العقبة هي: انقسام الأمة الهندية والذي كان له عدة أشكال: (1) تعدّد الأديان: الهندوسية، الإسلام، السيخية، البوذية، اليانية، إلخ. (2) تعدد اللغات: 23 لغة رسمية. (3) تعدد الأعراق: التركي-الإيراني، الهندي-الآري، العرق الدارفيدي، المنغولي، الزنجي، الخ. (4) مجتمع هندي مقسّم بسبب نظام الطبقات. (5) أسرة هندية مقسمة بسبب النظام الأبوي. (6) التعاون بين النخبة الهندية والحكم البريطاني الذي قسم الهنود إلى عملاء ووطنيين. (7) اندماج الكثير من الهنود في ثقافة المستعمر مما خلق مجموعة جديدة من الهنود وهي “المقلدون”، الذين يتصرفون كما يتصرف الرجل البريطاني. بالتأكيد، قام المحتل البريطاني بتعزيز جميع نقاط الفرقة والخلاف المذكورة أعلاه لما في ذلك من مصلحة له ولسياسته التي اتبعها دائما والتي هي: فرّق تسد. سنرى في الصفحات التالية كيف سيشكل غاندي ثقافته الهندية الجديدة بطريقة يمكن من خلالها توحيد الهنود وحل كل المشكلات المذكورة أعلاه.
تقدم الروايتان: (في انتظار المهاتما) و(كانثابورا) أمثلة متنوعة للمقاومة الثقافية المادية والمعنوية التي دارت في الهند. قامت هذه المقاومة على مستويين: (1) إصلاح وتحسين الثقافة (الثقافات) الهندية القديمة. (2) مقاومة الثقافة البريطانية من خلال: (أ) المقاومة الثقافية المادية: المظاهرات والمسيرات والمقاطعات، والاجتماعات، والاشتباكات المسلحة، إلخ. (ب) المقاومة الثقافية المعنوية: الفنون الجميلة بكل أشكالها، والأدب، والبحوث والدراسات المختصة في المقاومة.
بات (غاندي) على يقين من كون الاستعمار جزءً لا يتجزأ من الثقافة الغربية، وأكدّت المستعمرات الغربية حول العالم هذا الاعتقاد. لذلك، أكّد غاندي الذي “كان لديه فكرة واضحة عن قيمة الثقافة في إطار عمل النضال” (المرجع نفسه) أنه يجب شنّ حرب ثقافية ضد المستعمر من أجل تحقيق الاستقلال. لكن السؤال الكبير كان: أي ثقافة هندية ستتولى مهمة المقاومة؟ الثقافة الهندوسية؟ المسلمة؟ السيخية؟ ولكونه هندوسيًا، تبنى غاندي الثقافة الهندوسية، ولكن مع وجود نقاط ضعف خطيرة في الثقافة الهندوسية، لم تكن هذه الثقافة مناسبة لمواجهة ثقافة الرجل الأبيض. لذلك قرر (غاندي) إصلاح الثقافة الهندوسية من خلال الحفاظ على جوانبها الإيجابية وتمكينها، وتعديل أو تغيير جوانبها السلبية. سيتم تقديم هذه الثقافة الهندوسية التي تم إصلاحها على أنها ثقافة كل الهنود دون استثناء، ثقافة فضفاضة تناسب جميع الهنود دون استثناء. لقد كان هدف (غاندي) الرئيسي تأسيس ثقافة هندية جديدة شاملة تحتضن جميع الهنود من شتى الأصول والمنابت، على العكس من الثقافة الهندوسية القديمة الإقصائية المنغلقة على نفسها، قال (غاندي): “لا يمكن لأي ثقافة أن تعيش إذا حاولت أن تكون إقصائية”. (Brainyquote.com, 2015).
2-ثقافة غاندي السلمية ومحاربة المستعمِر له
بدأ غاندي مهمته الإصلاحية الثقافية بتأسيس دين واحد لجميع الهنود، وكان هذا الدين هو الحب. في رواية (في انتظار المهاتما)، يقدم غاندي “دينه الجديد” للهنود، “غيروا قلوبكم قبل أن تفكروا في مطالبة البريطانيين بالمغادرة” (نارايان، 2015). “صَفّوا قلوبكم وعقولكم وتأكدوا من أن الحبّ وحده يسكن هناك” (المرجع نفسه). الحبّ سيجعل كل الهنود يقبلون بعضهم البعض على الرغم من كل الخلافات، والاختلافات ومرارات الماضي، “تأكد من أنّ الماضي قد تمّ تصفيته من أي مرارات [آلام] مترسبة فيه” (المرجع نفسه). ولقد ذكر (راو) في روايته (كانثابورا) أيضًا أن الحبّ كان أحد مبادئ غاندي الرئيسية، “أحب الجميع…الهندوس، المسلمين، المسيحيين، المنبوذيين، فالجميع سواسية أمام الرّب” (راو، 2015). وقال غاندي أيضًا: “ليس هناك سوى حبّ واحد في الحياة هو حبّ الجنس البشري” (المرجع نفسه). حتّى أنّ غاندي دعا الهنود إلى حبّ أعدائهم، “يجب عليك حتى أن تحبّ أعداءك” (المرجع نفسه). بالتأكيد هذا الحب لا يعني قبول استعمار العدو، بل مساعدة العدو على وقف اعتدائه، وظلمه للآخرين.
بعد الحبّ، بنى غاندي ثقافته الهندوسية الجديدة على ثلاث كلمات “الغَزْل، المقاومة السلمية (أهِمسا) والحقيقة” (راو، 2015). وللحقيقة معنى وقيمة وطنية. يعتقد جميع الهنود أن الحقيقة هي مبدأ حيوي في دياناتهم، لذلك، تبنّى غاندي هذا العنصر المشترك الذي يمكن أن يوحد الهنود. تعني الحقيقة، بشكل عام، قول الحق والصدق. ومع ذلك، شملت الحقيقة بالنسبة لـ (غاندي) معنى إضافيا وهو التّحدث والشّعور والتّصرف كهندي حقيقي، لا كشخص يقلّد الآخرين. الحقيقة كانت تعني أن تكون على طبيعتك وألاّ تتجشّم عناء تقليد ومحاكاة الآخرين، وخصوصا البريطانيين.
جمع غاندي أيضًا الهنود حول قضية وطنية وهي الاستقلال (سواراج)، والتي لا تتحقّق إلا بالمقاومة السلمية (أهِمسا). في رواية (في انتظار المهاتما)، ينشر (سريرام) كلمات غاندي بين الناس ويكتب بعضها على جدران بعض القرى: “اتركوا الهند”، كما أعلنها غاندي في قراره في عام 1942، “يجب على بريطانيا ترك الهند” (نارايان، 2015). اعتقد غاندي أنّ اللاعنف (أهِمسا)، أو المقاومة السلمية، يمكن أن تضمن هدفين حيويين وهما: الاستقلال، ووحدة تراب الهند وشعبها.
أما بالنسبة للغَزْل فهو يرمز إلى الاستقلال الاقتصادي الوطني، ومقاطعة منتجات المستعمر. أصرّ غاندي على أنّ كل هندي يجب أن يصنع ملابسه الخاصّة بنفسه، أما الهندي الحقيقي فيرتدي (الخادي) وهو قطعة من القماش منسوجة يدويا من الألياف الطبيعية. قد يرمز الغَزل أيضًا إلى “القوى المنتجة [التي] هي القوة الدافعة الحقيقية والدائمة للتاريخ…[و] يحدث التحرر الوطني عندما تكون [هذه] القوى الإنتاجية الوطنية حرّة تمامًا” (كابرال، 1994). كان الحبّ، والحقيقة، والمقاومة السلمية، والغزل هي الأسس التي قامت عليها الثقافة الهندية الجديدة، وكانت أيضا هي الكلمات الخمس التي ستوحد جميع الهنود. أصبح (مورثي)، في رواية (كانثابورا)، أيضًا رجلا من رجال (غاندي)، وقام بنشر كلماته “بين ملايين القرويين البسطاء” (راو، 2015).
حارب المحتل البريطاني ثقافة غاندي الجديدة بعدة طرق: (1) تم تقديم غاندي على أنه مصلح اجتماعي وليس سياسيًا، “تركت صورته كمصلح اجتماعي دون أن يمسها أي أذى بل تضخيمها” (نارايان، 2015). (2) دفع المحتل البريطاني المال لرجال الدين الهندوسيين للعمل ضد غاندي. يقول (رانجانا) في (كانثابورا)، “هؤلاء البراهمة المسمنون يأخذون بتخويفونا بطردهم الديني، بمجرد أن تدفع لهم الحكومة جيدًا”. (راو، 2015). (3) تعرّض أتباع غاندي للاضطهاد، وللضرب، والاعتقال والسجن، “سبعة عشر رجلاً من كانثابورا … تم حبسهم خلف القضبان. وقام رجال الشرطة بلي أذرعهم وضربهم…وبصقوا في أفواههم” (المرجع نفسه). (4) حتى غاندي تم وضعه خلف القضبان، “هل سيفرجون عن مهاتما من السجن؟” (نارايان، 2015). (5) كما خدع البريطانيون غاندي، و”سيسمح لنفسه بأن يُخدع. ثق بعدوك…ثق به وحوله عمّا هو عليه” (راو، 2015).
على الرغم من المقاومة السلمية (أَهيمسا) التي انتهجها غاندي في صراعه مع المحتل البريطاني، فلقد ظهر (سوبهاس شاندرا بوس) والذي “انتخب مرتين (1938 و1939) رئيسًا للمؤتمر الوطني الهندي” (مونتغمري، 2017)، واتّخذ لنفسه منهاجا مخالفا تماما لنهج (غاندي) السلمي. لقد أنشأ (شاندرا بوس) الجيش الوطني الهندي لمحاربة المحتل البريطاني، أو كما ذكر كابرال حيث قال، “من أجل مواجهة العنف الاستعماري، يجب على حركة التحرير تعبئة الناس وتنظيمهم…من أجل اللجوء إلى العنف لتحقيق الحرية” (كابرال، 1994). نظرًا لأن غاندي رفض بشدة العنف، فقد تبنى المقاومة السلمية لأنه اعتقد بأنها ستؤدي بالتأكيد إلى الاستقلال، كما أنها ستمنع الهنود من إيذاء بعضهم البعض بعد تحقيق الاستقلال. قال غاندي، “إن الدولة التي تقوم ثقافتها على اللاعنف ستجد أنه من الضروري أن يكون لكل منزل أكبر قدر ممكن من الاكتفاء الذاتي.” (azquotes.com) في رواية (في انتظار المهاتما)، التقى الشخصية الرئيسية في الرواية (سريرام) بـ (جاغاديش) والذي تبنّى فكرة المقاومة المسلحة التي قادها (بوس). أخبر (جاغاديش) (سريرام) أن “البريطانيون سيغادرون الهند بسلام، إذا سحقنا العمود الفقري لإدارتها” (نارايان، 2015). هاجم (سريرام) الكثير من المحاكم، والمدارس، والمكاتب، وطرق السكك الحديدية مما تسبب بضرر كبير للهنود أنفسهم! حتى في نهاية رواية (كانثابورا)، يمكن لنا أن نلاحظ بسهولة أن المقاومة السلمية قد تحولت إلى مقاومة مسلحة. قال راشي، “باسم الإلهة، سأحرق هذه القرية” (راو، 2015)، وبالفعل لقد تمّ حرق قرية (كانثابورا). كما أنه بسبب المقاومة المسلحة التي تبناها عدد من الهنود احترقت الهند أيضا في يوم استقلالها! لقد قتل الآلاف، واغتصبت آلاف النساء، وتحوّلت آلاف من المنازل إلى رماد، وتحّولت الهند إلى كيانين: هندوستان، وباكستان، كما وقد تمّ اغتيال (المهاتما غاندي) بالرصاص! لا شك أن المقاومة المسلحة ساهمت في تحرّر الكثير من الشعوب، ولكن بعد انسحاب المحتلّ ارتدت كثير من هذه الأسلحة إلى صدور حامليها فقتلتهم! لذلك يجب على حركات التحرر الوطني أخذ الدروس والعبر من الماضي.
بالطبع، لم يظهر البريطانيون أي نوع من التسامح مع المقاومة الهندية المسلحة، فتعرض المنتسبون إليها للسجن، والتعذيب، والقتل، وهذا ما حدث مع (سريرام) الذي “كان محتجزًا في السجن المركزي” (نارايان، 2015).
3-العقل الغربي استعبادي وعنصري
توضح لنا رواية (في انتظار المهاتما)، أن والد (سريرام) كان جنديًا في الإمبراطورية البريطانية وتوفي في العراق أثناء خدمته للإمبراطورية. هذا يدلّ وبشكل لا يدع مجالا للشك على أنّ أسرة (سريرام) قد تشبعت وتشرّبت ثقافة المستعمر حتى آخر قطرة فيها! فها هو والد سريرام يرتضي أن يحمل السلاح ليشارك عدوه في تنفيذ أفكاره التوسعية. وكما رأينا فإن (سريرام) كان متيّما بصورة لامرأة بيضاء معلقة في متجر (كاني). لقد فَتَن خدّا المرأة المتوردان كالزّهر (سريرام) فحاول شراء هذه الصورة، لكن (كاني)، صاحب المتجر، رفض ذلك العرض جملة وتفصيلا، لأنه علّق هذه الصورة في متجره وهو على يقين من أنها ستجلب له الرزق الوفير، وأنها “ستضاعف عمله عشرة أضعاف” (نارايان، 2015). صورة لامرأة بيضاء تتحوّل عند هذه الفئة من الهنود إلى ربّ رزاق! مما لا شك فيه أن هذه الصورة ترمز إلى سيادة العرق والثقافة البريطانيَيْن. توضح قصة هذه الصورة التأثير الكبير للثقافة البريطانية على (سريرام) و(كاني) خصوصا وعلى الفئة التي تشرّبت الثقافة البريطانية من الهنود عموما. هذه الصورة تلقي ضوءا قويا على قضية الهوية. قدم الكاتب الهندي (ناريان) (سريرام) ووالده كشخصين فاقدين للهوية. (سريرام) العاشق الولهان لصورة امرأة بيضاء، ووالده المجاهد والشهيد الذي قضى نحبه في سبيل الرجل الأبيض! وهذا يذكرنا بالكاتب (فرانز فانون) وما وضحه عن عقدة الرجل الأسود الذي يريد أن يصبح أبيضَ بأي ثمن كان. أراد (سريرام) ووالده أن يكونا جزءًا من الثقافة البريطانية لأنه “بالنسبة للرجل [الملون]، هناك مصير واحد فقط. وهو أن يصبح أبيض البشرة”. (Brainyquote.com، 2015). يمكن أيضًا ملاحظة تأثير الثقافة البريطانية في رواية (كانثابورا)، حيث اعتادت (رامايا) على التدخين، وارتداء الملابس مثل الإنجليز تماما: البدلة، والحذاء، والقبعة؛ كما اعتاد (مورثي) أيضًا على “ارتداء الملابس الأجنبية” (راو، 2015) والذهاب إلى الجامعات الأجنبية وقراءة الكتب الأجنبية. كان هذا الاندماج في الثقافة البريطانية ثمرة الحرب الثقافية المعنوية التي شنها البريطانيون ضد ثقافة السكان الأصليين. نجح البريطانيون تمامًا في إقناع بعض الهنود بأن التاريخ الهندي قبل الاستعمار لم يكن أكثر من “فوضى، وفساد، وأنانية، فوضى، وفساد، وأنانية، كما أقول لكم” (المرجع نفسه).
كانت حركة التحرر الهندية تدرك خطورة تشرّب الهنود للثقافة البريطانية، لذلك قامت الحركة بمحاربة هذا التشرب الثقافي بوسائل مختلفة. طلب غاندي من الهنود السعي وراء الحقيقة لتجاوز قضية التشرب الثقافي، وكما وضحنا سابقا فالحقيقة كانت بالنسبة لـ(غاندي) أن يكون الهندي على طبيعته بعيدا عن تقليد ومحاكاة أيا كان. وعندما سأل (مورثي) (غاندي) عن كيفية البحث عن الحقيقة، أوضح غاندي قائلا: “أنت ترتدي ملابس أجنبية.. ربما تذهب إلى جامعة أجنبية”. تأثر (مورثي) بهذه الكلمات القليلة والمثيرة تأثرا كبيرا، فقد “ألقى بملابسه الأجنبية وكتبه الأجنبية في النار”، (المرجع نفسه). وفي رواية (في انتظار المهاتما)، طلب (غاندي) من (سريرام) “أن يتعهد بارتداء ملابس من صنع يده” (نارايان، 2015). بينما كان (سريرام) يرتدي (الخادي) [لباسه الهندي الذي من صنع يديه]، كوّم ملابسه الغربية في المنتصف في الشارع، وصب عليها نصف زجاجة من الكيروسين، وقذفها بعود ثقاب مشتعل” (المرجع نفسه). مرة أخرى، الحقيقة ليست فقط قول الحقيقة، بل هي التفكير، والتحدث، والتصرف كهندي حقيقي. الحقيقة هي التحدث باللغات الهندية: الهندية، والتاميلية، والأردية، وغيرها. الحقيقة هي أيضا ارتداء الملابس هندية: (الخادي) أو الخضار، (الضوتي)، الجبة، الساري، والصندل. الحقيقة هي قراءة الكتب الهندية: (باجافاد جيتا)، (تولسي رامايان)، وتلاوة (رام نام). الهندي الحقيقي لا يدخن، ولا يشرب المسكرات. حقيقة غاندي كانت دعوة لجميع الهنود للتمسك بثقافتهم الأصيلة المحلية وترك كل ما له علاقة بالثقافة الأجنبية.
في رواية (في انتظار المهاتما)، لم يخاطب (غاندي) الهنود باللغة الإنجليزية لأنها “لغة حكامنا. اللغة التي استعبدتنا” (المرجع نفسه). كما وعد (غاندي) الجماهير بأن “يكون قادرًا في المرة القادمة على التحدث…بلغة التاميل” (المرجع نفسه). في رواية (كانثابورا)، نجد أن (راو) دعا أيضا إلى التمسك بالثقافة الهندية ورفض ثقافة المستعمر، كما يوضِّح (مورثي) حين قال، “كل شيء أجنبي يجعلنا فقراء ويلوثنا” (راو، 2015)
إن الثقافة الهندية القديمة التي تظهر في الروايتين ليست ثقافة هندية عامة، بل ثقافة هندوسية خاصة، لها الكثير من الجوانب الإيجابية التي ساهمت في توحيد الهنود، مثل: الأعياد، والاحتفالات، والطقوس التي جمعت الناس، وتناول الطعام والشراب والاحتفال وممارسة الطقوس، “سنقرأ (سانكارا فيجيا) كل يوم، وسيقدم شخص ما عشاءً في كل يوم من أيام الشهر” (المرجع نفسه). بالإضافة إلى ذلك فإن “الحقيقة واللاعنف [اللذان تبناهما غاندي] قديمان قدم التلال” (Brainyquote.com، 2015)، مما يعني أنهما جزء من الثقافات الهندية القديمة، ولا سيما اللاعنف أو السلمية (أَهِمسا) التي تعد “مبدأً هامًا من مبادئ اليانية والهندوسية والبوذية” (ويكيبيديا، 2017). وهكذا، فإن للثقافات الهندية والهندوسية القديمة الكثير من الجوانب الإيجابية. مع ذلك، فلهذه الثقافات القديكة بعض المعتقدات سيئة السمعة، والتي كانت غير مقبولة أبدا على المستويات الأخلاقية والسياسية والاجتماعية من قبل الغالبية العظمى من الناس في جميع أنحاء العالم. ومن هذه المعتقدات السلبية: نظام الطبقات الهندوسي الذي لعب دورًا خطيرًا في تقسيم وتفريق الطائفة الهندوسية والأمة الهندية. يبدأ الجزء العلوي من هرم النظام الطبقي بالبرهميين: الكهنة والعلماء، وهم يمثلون فمّ الرّب؛ ثم تأتي طبقة (Kshatryia)المحاربون والملوك يرمزون إلى أذرع الرّب. في الطبقة الثالثة تأتي (Vaishya) التجار والمهنيون وملاك العقارات الذين يمثلون لباس الرّب الضيق. أخيرًا، تأتي طبقة ((Sudra الفلاحون والعمال والخدام الذين يمثلون أقدام الرّب. ومع ذلك، تبقى هنالك فئة من الناس وهم المنبوذون، وهم خارج النظام الطبقي الهندوسي! إنهم منظفو الشوارع، ومنظفو المراحيض، إنهم لا يمثلون أي جزء من أجزاء الرّب! إنهم منفصلون عن الرّب تماما. مع ذلك، فلقد دعاهم غاندي أبناء الرّب (الهاريجان). النظام الطبقي الهندي مغلق تمامًا: لا يوجد تنقل بين الطوائف، على الأقل في هذه الحياة. هذا النظام الطبقي له جوانب سلبية متعددة منها: (1) يؤكد على غياب المساواة. (2) يحافظ على سيادة رجال الدّين البرهميّين. (3) العلاقة بين المنبوذين والطوائف الأخرى علاقة السيد بالعبد بكل ما تحمله الكلمة من معنى! لقد دمر هذا النظام الطبقي المنبوذين (الباريا)، وجرّدهم تمام من إنسانيتهم، وخلق بينهم وبين الطوائف الأخرى هوة لا يمكن ردمها. لا يستطيع المنبوذون دخول المعابد، ولا يمكنهم الزواج من الطوائف الأخرى، وإذا لمسهم أحد ما، فيتوّجب عليه أن يغتسل! حتى أن (مورثي) بعدما زار أفراد من هذه الطائفة “اغتسل ولبس ملابسه” (راو، 2015). بالإضافة إلى ذلك، يعتبر الهندوس أي شخص غير هندوسي منبوذًا يجب ألاّ يمس، إن تم لمسه وجب الاغتسال لإزالة النجاسة! “ألا تعتبر (الدارما ساسترا) [النصوص المقدسة] الأجانب منبوذين؟” (المرجع نفسه). لسوء الحظ، “أي شخص لا ينتمي إلى الطبقات الأربعة هو منبوذ ولا يجب لمسه.. من المفترض أن يكون جميع الأجانب وغير الهندوس منبوذين” (دانيال، 2005). لفتت هذه العقيدة الهندوسية المكرّسة للفُرقة انتباه المستعمر البريطاني، فاستخدمها لتوسيع الفجوة بين أبناء الشعب الهندي. كما اعتاد المستعمر البريطاني على التبرّع بالأراضي ودفع أجور لرجال الدين البرهميين، وخاصة لمعلمي الدين الهندوس (السواميين)، “للقيام بعملهم القذر” (راو، 2015). وهذا الفعل يذكرنا بمصطلح علماء السلاطين، فلكل سلطان حتى ولو كان محتلا علماؤه. اعتاد المستعمر البريطاني أيضا على أن يحكم الهنود من قبل النخب الهدية، وأن يقمع النشاط الثقافي للطبقات الدنيا، وأن “يعزز وأن يحمي المكانة والتأثير الثقافي للطبقة الحاكمة” (كابرال، 1994). في رواية (كانثابورا) نلاحظ مرة أخرى وبشكل واضح الطريقة التي قام فيها المحتل البريطاني بدعم وتعزيز الجوانب السلبية للثقافة الهندية القديمة: “الطريقة القديمة للعرق [الهندوسي]” (راو، 2015). في ميدان (غاندي)، صعد أحد معلمي الدين الهندوس إلى المنصة قائلا، “إذا تَرَكَنا الرجل الأبيض غدًا…سيحكمنا (الرافانا) [الملك الشيطان] ذو العشرة رؤوس” (المرجع نفسه). وأضاف معلم الدين الهندوسي (سوامي) أنه قبل قدوم البريطانيين، كانت “الفوضى والفساد والأنانية…[ثم] جاء[البريطانيون] لحمايتنا…ولحماية القانون والنظام الكوني (دارما)” (المرجع نفسه). في رواية (ممر إلى الهند A Passage to India، يخبرنا الهندوسي (جودبولي) أن (كريشنا) رفض القدوم إلى الفتاة العذراء التي كانت تناديه، لكن معلم الدين الهندوسي (سوامي) المحترم يخبرنا بأن (كريشنا) قد لبى نداء الفتاة وجاء بالفعل من خلال البريطانيين، “أينما كان هناك جهل وفساد، أتيت، لأنني، يقول كريشنا، أنا المدافع عن دارما [القانون والنظام الكوني] “(المرجع نفسه). جاء البريطانيون لحماية الدارما، “هذا ما قالته الملكة (فيكتوريا) العظيمة ذلك عندما وضعت تاج بلادنا المقدسة” (المرجع نفسه). هذا يعني أن البريطاني المحتل هو الرّب (كريشنا) المتجسِّد، لذلك يجب أن يُعبد، ولا عجب لأن “الهند تحب الآلهة” (فورستر، 2005). يكشف خطاب الـ(سوامي) أيضًا عن العلاقة الوثيقة بين الـ(سوامي) والمستعمر البريطاني، “عندما ماتت [الملكة فيكتوريا] …اسأل أجدادك عن الكافور الذي تم حرقه…كم عدد نيران القرابين التي تم إشعالها … كم صوتًا ارتفع بالنشيد إلى السماء” (راو، 2015). يعتبر معلم الدين الـ(سوامي) الملكة فيكتوريا أفضل من أي أمير هندي مسلم حكم الهند، “ألم تحمي [الملكة فيكتوريا إيماننا] أفضل من أي أمير مسلم على الإطلاق؟” (المرجع نفسه). بالإضافة إلى ذلك، لم يُظهر الـ(سوامي) تسامحًا مع الاختلاط الطبقي، “ما أخشاه في الغد [هو]…فساد الطوائف…لا تدع مثل هذا الارتباك الطائفي يغضب سادتنا” (المرجع نفسه). واصل (سوامي) حديثه وقبل النهاية صرخ أحدهم قائلاً: “لقد استلم الـ(سوامي) للتو ألف ومئتين فدان زراعي من الحكومة” (المرجع نفسه). اعترف الـ(سوامي) بالرشوة ووصفها بأنها هدية مَلَكِيّة (Rajadakshina). كما اعترف بأن الحاكم قد استقبله، وأوضح أن النصوص المقدسة (دارما ساسترا)، تقول إن الملك هو حامي الإيمان، وصرخ: “يعيش الإمبراطور جورج الخامس!” (المرجع نفسه). أما في رواية (في انتظار المهاتما)، فتمثل جدة (سريرام) الثقافة الهندية القديمة مثلما مثلها معلم الدين الـ(سوامي). كانت جدة (سريرام) “أرثوذكسية لدرجة أنها لم تدع الزبال [المنبوذ] يقترب منها أكثر عشرة ياردات” (نارايان، 2015). كانت جدة (سريرام) أيضًا معارضة لـ(غاندي) لأنه “حاول جلب المنبوذين إلى المعابد، وأدخل الناس في اشتباكات مع الشرطة” (المرجع نفسه).
كان غاندي مدركًا لأخطار هذه التقاليد القديمة وقرّر وضع حدّ لها، وإنشاء ثقافة هندية جديدة يمكن للهنود من خلالها تحقيق استقلالهم والحفاظ على وحدتهم، قال (مورثي)، “يجب أن تتذكروا، سواء كانا برهميين أو بائعي أسوار، منبوذين أو كهنة، فكلنا واحد” (راو، 2015). رفض (غاندي) “القواعد الاجتماعية والدينية والمحرمات التي تمنع تطور النضال [السلمي]” (كابرال، 1994). كما أنه بلا شك رفض الحصول على أي امتيازات من المستعمر. في رواية (كانثابورا)، تقول (رنجانا) Ranganna إن (غاندي) “تخلى عن الأرض، والشهوة، والشرف، والراحة، وكرس حياته للبلد” (راو،2015). بالإضافة إلى ذلك، وفي رواية (في انتظار المهاتما)، يرفض (غاندي) البقاء في منزل الرئيس، ويقرر البقاء في كوخ أحد المنبوذين، “احتل غاندي كوخًا له مدخل منخفض” (نارايان، 2015). رفض (غاندي) النظام الطبقي الذي يقسم الهنود، حيث قال: “لا توجد طبقة ولا عشيرة ولا عائلة، هم [المنبوذون] يصلون مثلنا… قد يتزوج البرهمي منبوذا ومنبوذ قد يتزوج بَرْهَميا” (راو، 2015). أما بالنسبة للمسلمين، فقد نظرت الثقافة الهندوسية القديمة إلى المسلمين بازدراء وحرمت الاختلاط بهم. في رواية (كانثابورا)، قالت (بهتاري)، “اليوم سيكون منبوذًا، وغدًا سيكون مسلما… يجب أن نوقف هذا” (المرجع نفسه). على الرغم من هذا التمييز، اعتقد (غاندي) أن الهندوسية والإسلام متوازيان، “روحي كلها تثور ضد فكرة أن الهندوسية والإسلام يمثلان ثقافات ومذاهب معادية” (azquotes.com). في رواية (كانثابورا)، يؤكد (راو) أن “(سواراج) [الاستقلال] له ثلاثة عيون: تزكية النفس، الوحدة بين الهندوس والمسلمين، (الخادي)[اللباس المصنوع يدويا]” (راو ، 2015).
الثقافة الهندية القديمة اضطهدت وقمعت النساء. زواج الأطفال، المهر الذي يدفعه أهل العروس، تطبيق الـ(ساتي) والذي هو “عادة الجنائزية هندوسية تقضي بأن تضحي الأرملة بنفسها فترمي نفسها مع جثة زوجها المحترقة أو تنتحر بطريقة أخرى بعد وقت قصير من وفاة زوجها” (Wikipedia.com ،2017) أو “أن تحلق شعرها وتعيش حياة منعزلة تماما “(بيريرا، 1992). في (كانثابورا)، عندما توفيت (سافيثراما) زوجة (بتّاه)، جاءته عروض للزواج، وكان أحد هذه العروض ابنة (بورنايا) التي تبلغ “اثني عشر عامًا ونصف… [وكان المهر] ألف روبية نقدًا، وخمسة أفدنة من الأراضي الرطبة” (راو، 2015). والمهر عند الهندوس يدفعه أهل العروس إلى العريس. كان (بتّاه) أحد الأشرار في كانثابورا. (بتّاه) راهب هندوسي استغل الدين لكسب المال وتعاون مع الـ(سوامي) ضد (مورثي) الصالح. كما انتقد (بتّاه) الأرملة (راتنا) لأنها تتجول في الشوارع بمفردها، وتصفف “شعرها إلى اليسار مثل محظية و[ترتدي] أساورها وخواتم أنفها وأقراطها” (المرجع نفسه). هذا وقد تزوجت (راتنا) عندما كانت في العاشرة من عمرها. حارب غاندي كل هذه التقاليد القديمة الظالمة، مع ذلك كان مؤمنا بأن المرأة “ملزمة بواجبها في خدمة زوجها، وعائلاتها، وبلدها” (بالي ماهابال، 2017). عندما أسست (رانغاما) ونساء (كانثابورا) منظمة المتطوعين (سيفيس) لمقاومة الاحتلال البريطاني، اشتكى رجالهم من أن زوجاتهم لا يعتنين بهم كما اعتادوا من قبل، فكررت (رانغاما) فكرة (غاندي) عن دور المرأة وقالت: “لن ننسى أطفالنا وأزواجنا” (راو، 2015).
لقد كان غاندي “محاطا أيضًا بنساء قويات، وفصيحات، وموهوبات” (بالي ماهابال ، 2017). بلا شك تمثل (بهاراتي) واحدة من هؤلاء النساء، وهي فتاة مخلصة وقوية اتبعت أوامر (المهاتما) وكانت أيضًا معلمة (سريرام) الروحية! لقد تمكن (غاندي) من تحسين دور المرأة في منازلهن وفي المجتمع أيضًا. أعاد هذا التحسين توحيد الأسرة والمجتمع الهندي، وجعلهم قادرين على مقاومة المستعمر.
4-أصالة الآداب في مواجهة الظلم وتعريته
مرة أخرى، تتكون ثقافة المقاومة من جانب مادي: المظاهرات، اللقاءات، المقاطعات، إلخ؛ والجانب المعنوي: الفنون الجميلة والأدب. لقد شارك (نارايان) و(راو) في المقاومة المعنوية ككتّاب تابعين للمدرسة الما بعد كولونيالية. كلا الكاتبين استخدم وسائل المستعمر لمقامة المستعمر ولرد الصاع بالصاع، فلقد استخدم كلا الكاتبين الرواية، للرد على الكتابة بالكتابة، وخلق خطاب مضاد. كما قد أدان محتوى روايتيهما الحكم البريطاني وعملائه، واحتفيا بالثقافة الهندية وعززا المقاومة السلمية. يمكن للقارئ ملاحظة المقاومة المعنوية التي خاضها الكاتبان في الروايتين عبر النظر في أسلوب الروايتين. قال رجا راو: “لا يمكننا أن نكتب مثل اللغة الإنجليزية. لا ينبغي لنا” (راو، 2015). من خلال أسلوبه، حقق راو ما يلي: (1) ابتكر لغة إنجليزية هندية مميزة وملونة، لغة شبية بالإنجليزية الأمريكية أو الإنجليزية الأيرلندية. (2) غرس (راو) الإيقاع السريع للحياة الهندية في التعبيرات الإنجليزية باستخدام جمل طويلة مليئة بحرف العطف (و). (3) كما استولى على اللغة الاستعمارية وغزا النص الإنجليزي بالمفردات والعناصر الهندية (التعبيرات والاصطلاحات والأمثال) وكل ذلك لاستعمار لغة الرجل الأبيض. (4) قدم (راو) الكثير من الأوصاف من أجل الوصف ولا علاقة لهذا الوصف بحبكة الرواية، وكان هذا الوصف احتفاء بالثقافة الهندية من خلال تصوير المهرجانات والطقوس الهندية. (5) ركز (راو) كثيرًا على الجغرافيا الهندية: قرية (كانثابورا)، مقاطعة (كارا)، (غاتس)، ساحل (مالابار)، (مانجالور)، (بوتور)، إلخ، وكان كل هذا لإظهار أنّ “الأرض بتتكلم هندي”، وإنّها ليست ملكية إنجليزية. (6) طُبعت بعض الطبعات اللاحقة من الرواية بدون فصول لتعكس “التدفق غير المنقطع للرواية [الهندية] الشفوية” (ألين وتريفيدي، 2010). روى كل من (راو) و(نارايان) التاريخ من منظورهما الخاص وليس من منظور المستعمر الذي تقوم روايته على الباطل. كلتا الروايتين تحتويان على قدر كبير من الفخر القومي: القومية والأمة. كان (راو) و(نارايان) يفخران بالثقافة والهوية الهندية وقدماهما كبديل للثقافة والهوية الاستعمارية.
رغم الجهود التي بذلتها حركة التحرير الهندية، فقد ارتكبت هذه الحركة خطأً فادحًا واحدًا وواضحًا تمامًا في كلتا الروايتين. روّج (راو) و(نارايان) لكلمات (غاندي) حول الوحدة بين الهندوس والمسلمين، لكنها لم يمارسا ما بشرا به في روايتيهما. يمكن لقارئ الروايتين أن يلاحظ بسهولة وجود قوتين فقط تسيطران على أحداث الروايتين: والاحتلال البريطاني، المقاومة الهندوسية. لقد أهمل (نارايان) ذكر المسلمين الهنود تمامًا، بينما جعل (راو) المسلم (بديع خان) شخصية شريرة رئيسية في روايته، ولم يقدم (راو) في روايته أي شخصية مسلمة وطنية أو خيرة! لذلك، كان انقسام الهند بعد الاستقلال إلى الهند وباكستان نتيجة طبيعية تمامًا لمثل هذا الخطأ الذي لا يغتفر.
في الختام، الاستعمار والمقاومة كلاهما ظاهرتان ثقافيتان. لذلك التقت الثقافة الهندية الجديدة مع الثقافة البريطانية في عدة معارك منها: (1) بينما أنكر الاحتلال البريطاني تاريخ وثقافة الهنود، بنى غاندي ثقافته الجديدة على قيمتين رئيسيتين: الحقيقة (ساتي) والسلمية (أهيمسا) والتي لها جذور عميقة في التاريخ الهندي. (2) عزّز البريطانيون الجوانب السلبية للثقافة الهندية القديمة، على سبيل المثال، تقوية النظام الطبقي من خلال دعم البرهميين ومعلمي الدين الهندوس ماديًا ومعنويًا؛ فتبنى غاندي الحب، وجعله “دينه الجديد”، ورفض النّظام الطبقي من أجل توحيد ما حاول البريطانيون تقسيمه. (3) قوض البريطانيون الجوانب الإيجابية للثقافة الهندية مثل قدرة الهندي على الإنتاج وصنع ملابسه بنفسه وأقنع الهندي بشراء وارتداء ملابس بريطانية الصنع. وفي مواجهة ذلك قام غاندي بتمكين الجوانب الإيجابية للثقافة الهندية، فطلب من الهنود الغزل وارتداء الملابس الهندية المصنوعة يدويًا. (4) سعى البريطانيون إلى فرض ثقافتهم على الهنود، لا سيما الدين واللغة والأدب والأزياء، لكن غاندي من خلال الحقيقة التي نادى بها دعا إلى التفكير، والشعور، والتصرف كهندي حقيقي. كانت إستراتيجية الثقافة البريطانية هي: فرّق تَسُد، بينما كانت إستراتيجية الثقافة الهندية الجديدة هي: توَحّد، تُقاوم، تنتصر. أخيرًا، وبفضل الثقافة الهندية الجديدة التي أخرجها (المهاتما غاندي) للنور، تمكنت الرّبة (كنتشاما) من العودة، كما تروي الأسطورة، والقتال مرة أخرى، وكسب الحرب، والتخلص من الشيطان الأحمر الذي “جاء ليطلب أبنائنا الصغار كطعام، وشاباتنا كزوجات” (راو، 2015).
قائمة المراجع
اقتباسات من الألف إلى الياء. (بدون تاريخ). المهاتما غاندي اقتباسات عن الثقافة. [عبر الإنترنت] ، متوفر على: [http://www.azquotes.com/author/5308-Mahatma_Gandhi/tag/culture] [28 مارس 2017]
بالي ماهابال ك. (2009). هل كان المهاتما غاندي نسويًا؟ عالم واحد جنوب آسيا. [عبر الإنترنت] ، متاح على: [http://southasia.oneworld.net/peoplespeak/was-mahatma-gandhi-a-feminist#.WOpq1UV97IU] [3 أبريل 2017]
Brainyquote. (2017). ونقلت المهاتما غاندي. [عبر الإنترنت] ، متوفر على: [https://www.brainyquote.com/quotes/quotes/m/mahatmagan165367.html.] [25 آذار (مارس) 2017]
Brainyquote. (2017). ونقلت المهاتما غاندي. [عبر الإنترنت]، متاح على: [https://www.brainyquote.com/quotes/quotes/m/mahatmagan402081.html] [26 مارس 2017]
كابرال، أ. (1994). التحرير الوطني والثقافة. في: Williams، P. and Chrisman L. ed.، الخطاب الاستعماري ونظرية ما بعد الاستعمار. نيويورك: روتليدج، ص 55، 53، 56، 62، 63، 64، 58.
دانيال، أ. (2005). غير الهندوس في نظام الطبقات. موقع معلومات Adaniel. [على الإنترنت]، متاح في:
[http://adaniel.tripod.com/foreigners.htm] [25 مارس 2017]فورستر، إي (2005). ممر إلى الهند. لندن: مجموعة بينجوين، ص. 45.
مونتغمري، أ. (2017). سوبهاس شاندرا بوس ونضال الهند من أجل الاستقلال. معهد المراجعة التاريخية. [عبر الإنترنت]، متاح على: [http://www.ihr.org/jhr/v14/v14_montgomery.html] [01 أبريل 2017]
نارايان، ر. (2015). في انتظار المهاتما. تشيناي: Sudarsan Graphics Pvt Ltd، الصفحات 32، 102، 41، 5، 68 ،189، 7، 67، 99، 27، 17، 31، 62، 52، 210، 1.
بيريرا، س. (1992). نحو تحرير محدود: المرأة في فيلم “Kanthapura” لراجا راو. مراجعة للأدب الإنجليزي الدولي. [29 آذار / مارس 2017]
راو، ر. (2015). كانثابورا. نيودلهي: مطبعة جامعة أكسفورد، الصفحات 12، 73، 77، 36، 95، 89، 188، 84، 6، 92، 36، 92، 36، 17، 7، 77، 95، 94، 93، 92، 95، 10، 24، 32، 110.
تريفيدي، هـ. (2010). قومية غاندي: Kanthpura. In: Allen، R. and Trivedi، H. ed.، Literature in Context: Britain and India-Colonialism to Independence. ميلتون كينيز: الجامعة المفتوحة، ص. 108.
ويكيبيديا. (2017). البوذية والجاينية. [عبر الإنترنت] ، متاح على: [https://en.wikipedia.org/wiki/Buddhism_and_Jainism] [27 آذار (مارس) 2017
ويكيبيديا. (2017). ساتي (ممارسة). [عبر الإنترنت]، متاح على:[https://en.wikipedia.org/wiki/Sati_(practice)] [27 مارس 2017[