إعداد: سليم النجار- وداد أبوشنب
” مقدِّمة”
مفردة “السؤال” وحدها تحيل إلى الحرية المطلقة في تقليب الأفكار على وجوهها، ربّما هدمها من الأساس والبناء على أنقاضها، كما أنَّها من أسس مواجهة المجازر وحرب الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزّة والضّفّة، من قِبَل الاحتلال الإسرائيلي٠
في هذا الملف نلتقي بعدد من الكُتّاب العرب الذين يُقدِّمون لنا رؤاهم حول ماذا يحدث في غزّة؟
وما يستدعي الدرس والتمحيص والنقاش والجدال والنقد، لأنّ الأشياء تحيا بالدرس وإعادة الفهم، وتموت بالحفظ والتلقين٠
إسماعيل أبو البندورة من الأردن يكتب لنا من زاويتها “ماذا يحدث غزة”؟
ماذا يحدث في غزة بين الأمس واليوم؟؟
إسماعيل أبو البندورة
1- تشريد شعب بقي محافظا على تاريخ وطنيته:
تحدث في غزّة في هذه اللحظات الجارحة حالة المعنى والحقة انعطافية ومعركة أسطورية بين قوة همجية فاشية عنصرية اقتلاعية لا مثيل لها في تاريخ الفاشيات وشعب أعزل شرد من وطنه وحوصر بكل أنواع الحصارات وبقي متمسكا بمعنى وطنه التاريخي وحقه في تقرير مصيره ومستقبله وواصل الدفاع عن هذا المعنى والحق الشرعي المرتبط به ما يقارب القرن في ظلّ اختلال واضح بين قواه المادية ومحدوديتها وإرادته الفائقة المضمرة والقادرة على الحضور في كل اللحظات وبين القوة الغاشمة المنطوية على القتل والجريمة وقتل الأطفال والأبرياء وهي التي أريد لها أن تكون قلعة مدججة بالقوة الغاشمة وكراهية الآخر ومشروعا استعماريا متواصلا في قلب الوطن العربي يجهض نهضته ويمنع وحدته ويبقيه في توتر وانشغال دائمين.
كانت غزة طوال الحقب الماضية ولا تزال تمثل المعنى الوطني التاريخي الكلّي لفلسطين وشعبها وتاريخها وكانت نموذجية في بطولتها واستبسالها وصمودها المديد وصبرها ودفاعها عن الكرامة وكل القيم والمثل النبيلة في الأمة، وغدت بهذه المثابة “الإسبارطية” الخنجر الذي يقضّ مضجع الأعداء ويدعوهم للابتهال على ألسنة قادتهم- بأن يبتلعها البحر ولا يعود لها وجود!! – بعد أن كبدتهم خسائر وخيبات هائلة جعلتهم يهربون منها صاغرين، ولذا كانت غزة هدفا عدوانيا افتراسيا مستمرا لهذه الكيان الفاشي وكابوسا يؤرقه في حاضره ومستقبلة ويهدد أحلامه وأوهامه بالزوال والتبدّد..
ولا غرو بأنّ ما يجري في غزّة الآن من إبادة جماعية وجرائم حرب هو تجسيد لضلالات وعماءات واستيهامات هذا العقل الصهيوني الفاشي وتجلياته العنصرية الإجرامية بأن يبيد غزّة وأهلها ويردم غزّة الأرضية المحصنة – التي لا تزلزلها أوهام وادعاءات القوة الفاشية – وكل ما تمثله من معان ومحفزات ومؤشرات واستشرافات لاستنهاض لحظة حرية في حياة فلسطين التاريخية والأمة بأكملها وتحرير العالم الجائر الساكت عن الجرائم والمغذي لها بالاستمرار والتفاقم وتحرير ذاته من عقدة ما سمي بالمسألة اليهودية والإثم الأوروبي ومحارق اليهود المزعومة ..
2- من لا يقارن لن يعرف:
تكشف غزة الكاشفة في لحظتها الراهنة عن زيف المحارق اليهودية وتهافت أطروحاتها ومسوغاتها لتؤكد حقيقة محرقة فلسطينية أكثر هولا وإبادة تجري أمام الأنظار وهي أشد بشاعة وإيلاما من كلّ المحارق وتكشف عن حقيقة أن ما تقوم به الدولة العنصرية يلقي بكلّ أطروحاتها حول المحارق والمظلوميات وصفة الضحية التي تبتزّ بها دول وشعوب العالم قاطبة في مزبلة التاريخ، وتقول غزّة الآن لكل العالم “أن من لا يقارن لن يعرف” أي لن يميز بين الحق التاريخي والحق الأسطوري.. بين الحق وبين الباطل.. بين الزيف والحقيقة.. وأن من لم يرَ بعين مدققة صور الجرائم والمقتلات التي تجري في غزة منذ أمد بعيد بعين إنسانية نزيهة وموضوعية فسوف يبقى محكوما وأسيرا لعماءات وضلالات الدولة العنصرية المجرمة وقاتلة الأطفال وافتراءاتها ولوثات أساطيرها..
وانبثقت في ومن غزة وملحمتها العديد من السناريوهات الغريبة والمفزعة التي يأتي في مقدمتها الفراغ والخذلان العربي الذي تطاول في العقود الأخيرة وتمدّد وأصبح يشير إلى حالة استثنائية من الانهيار والانهزامية، وغدا حالة جديدة من الاستعصاء في حياة الأمّة جعلها تكون أمّة فرجة لا تلوي حتّى على الكلام وساد فيها ما يؤلم من النكوص والتردّد والانسحاب من -فلسطين.. القضية المركزية – واعتماد الحياد والصمت والتذلل أحيانا سبيلا لإرضاء من يحركون الشر في العالم ويقهرون الشعوب ويعاضدون الفاشية في كلّ مطارحها ويقدمون لها كل ألوان الدعم والمساندة.. ذلك مشهد استظهرته غزة بكلّ غراباته وأسئلته وضرورات الحثّ على إدانته واستنكاره ووضعته أمام عقل الأمة شعوبا وحكاما، وأصبح العربي في هذا الزمن الخؤون وفي ظل حالة الخنوع التي تغشى البلدان ينتظر “أردوجان وعبد اللهيان” لكي يتحدثوا عن فلسطين وباسمها ويساندوها على الأقل باللسان وبما هو أضعف الإيمان ولا يضاهيهم ويجاريهم أحد بالذي هو أدنى وأقل أي بالكلام واللسان!!
3-انقلاب الموازين والقوى:وعلى رغم كل ما جرى وما يجري في غزة وحول غزة سابقا ولاحقا وكل ما أحاط بأهلها من قتل وتشريد لم يشهد له التاريخ مثيلا لا بد من القول (بما أننا نتغيا هنا أن نفتوالعربية -ي العميقة الغائبة ولا نلاحق فراشات إعلامية تائهة وأفكار شاردة) أن ملحمة غزّة واختراق مقاومتها الباسلة لجدران القلعة العنصرية يوم السابع من تشرين قد أفصحت عن تغيير حقيقي لموازين القوى والمواقف فتقدمت المقاومة على كل الخيارات وأسقطت خيار “الحياة مفاوضات” سيء الصيت وأعادت حضور القضية الفلسطينية على الصعد المحلية – الفلسطينية – والعربية-والدولية.
ووضعت الجميع أمام هذا السؤال وأحرجت واستجوبت كلّ صور التراجع والتردد وأبانت كيف أنّ فئة صغيرة يمكن أن تهزم فئة باغية وكبيرة وأعادت للكيان العنصري سؤاله المؤرق عن لا شرعية وجوده والتاريخية والرغبة القومية الدفينة بتفكيكه وإعادة الأمر إلى صوابه التاريخي..
الأرض للطوفان محتاجة لعلها من درن تغسل..