حاوره : عبد الرقيب طاهر
في مطعم متخصص للوجبات الشعبية اليمنية في المملكة العربية السعودية ، كنت دوماً المحه بالقرب من الزاوية يجلس متربعاً مع بعض أصدقائهِ منتظراً طلبه من نادل المطعم … يجلس بهدوء مرتدياً شماغه الأبيض يوزع بسماته على الجميع ويصافح كل من يقابله ، تشعر بأن الكل في هذا المطعم يعرفونه ويحترمونه أيضاً .. رجل يكسو ملامحه الوقار ويعلو محياه الهدوء قليل الكلام كثير الإستماع تحس بأن له خِبرة السنين عاش الحياة بطولها وعرضها … الكثير من الناس تعرفه بإسم ابو عبده … وقلة منهم من يناديه بالعم محمد …. لم أعد أستطيع مقاومة فضولي الزائد لمعرفة هذا الرجل عن قرب ومعرفة سبب حب الناس له في هذه البلاد الشاسعة المترامية الأطراف الذي يخضع كل شيء فيها للمادة والعمل المطلق …. يابو عبده متى موعد السفر ؟؟ يجيب عليهم هو بهدوء وعيناه تفيض بالدمع كلما سمع كلمة السفر يرد بإجابة يكسوها الحزن بصوت خافت قريباً إن شاء الله … أحسست من نظرات عيونه الحزينة كأنه كره هذا السوال وسأم الجواب عليه وكأنه لايريد أحداً أن يذكره بموعد السفر .
لذلك أقتربت منه بغرض التعرف عليه ومحاولة كشف أغوار هذه الشخصية المحبوبة عند كثير من الناس .. فكان هذا الحوار بيننا .
**محمد عبد القوي ( أبو عبده ) كيف حالك ياغالي ؟.
– الحمد لله على كل حال .
** كم لك هنا بسعودية ؟.
= أبتسم وقال شكلك ناوي تعمل معي حوار ضحكت وقلت هذا الشيء الذي أريده بالفعل يا بو عبده بالطبع إذا سمحت لي أن أتعرف عليك وانقل عنك بعض ماستجود به علينا من حياتك في هذه البلاد الشاسعة والمترامية الأطراف بعيد عن الأهل والوطن والأصدقاء ؟ .
= ضحك هو بصوت عال وقال ما عندي مشكلة .
**قلت له نرجع الآن لسؤالنا الأول فعلاً أريد أن أعرف كم لك هنا مغترب في السعودية ؟
= أشار إليا بيده فاتح أصابعه الخمس قلت له خمس سنوات ، ضحك بقهقهه عالية وقال خمسون عام يا إبني ……. يا إلهي …. خمسون عام …..قلتها بعد أن تملكتني الدهشة واصابتني الحيرة .
** يعني عاصرت كم من ملوك السعوديه ؟.
=عاصرت خمسة ملوك سعوديون هم خالد وفيصل وفهد وعبدالله والآن سلمان حفظه الله وعلى الباقين رحمته ومغفرته .
** ممكن تشرح لي كيف كانت بداية دخولك السعودية وفي أي عام ؟.
= دخلت عام 1968م وانا عمري مايقارب عشر سنوات مع والدي القدير الله يرحمه ويسكنه الجنة وكان طريقة دخولي إلى السعودية بمثابة( إضافة) على جواز والدي يرحمه الله تعالى .
** أين كانة بداية عملك وماهو أول عمل زاولته في السعودية ؟.
= كان أول عمل لي صبي في منزل إحدى الأسر السعودية في مكة المكرمة و ( الصبي) تعني الفتى الذي يخدم في المنزل ثم كبرت قليلاً وانتقلت بالعمل إلى عامل في فندق من فنادق مكة المكرمة وبعدها عملت مندوب مبيعات في عدت شركات وطنية وزاولة أيضاً كثير من ألاعمال التجارية حتى اليوم .
** أبو عبده أنت عشت عمرك في هذا البلد الكبير كيف تلخص تجربتك ؟ .بالأصح نقول كيف تلخص حياتك التي قضيتها هنا في هذا البلد الكبير ؟
= صمت للحظات .. بعد تنهيدة من أعماق صدره قال لي .. يا إبني هذا سوال صعب وكبير ومجلدات وكتب لن تفي بالغرض أنت تسألني عن وطن عشت فيه كل عمري السعودية لم أتوقع خروجي منها إلا للقبر فقط .. كانت هي بلدي الحقيقي فأنا لم أعرف اليمن مثلما أعرف السعودية تخيل معي خمسون عاماً إطرح منها بعض الإجازات المتفرقة في رأس كل سنتين أو ثلاث أحياناً بضع شهور معدودة فقط نقضيها في اليمن ومن ثم نعود إلى هنا إلى هذا البلد الذي عشت فيه كل سنوات عمري و صباي وشبابي وكهولتي وأجمل سنوات عمري ذهبت هنا فأنا أشعر بأن البلد هذا هو بلدي ولا أقول إلا كما قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حينما خرج من مكة مهاجراً نحو المدينة ما أخرجني غير أهلك ..أو كما قال .
** أبو عبده كيف تشعر الآن وأنت في هذه اللحظات الأخيرة تفارق هذا البلد الكبير الذي عشت فيه عمرك كله لتعود إلى مسقط رأسك وإلى وطنك الأول اليمن الذي ربما قد تجده غريباً عنك ولم يعرفك ؟!.
= ياإبني دعني أبدأ معك من حيث أنت أنتهيت فقد قلت مسقط رأسك الذي قد تجده غريباً عنك ولم يعرفك. حقيقة مؤلمة أن تجد وطنك لا يعرفك وطنك الحقيقي الذي تحمل هويته وتحمله معك أينما ذهبت. يا إبني اذا تحاكمنا الي قاض عادل أيهما قصر بحق الآخر انا أو الوطن ؟ لوجدتنا كلانا قصر بحق الآخر انا نسيته وتعاملت معه وكأني مستغن عنه وهو لفظني ولم يوفر لي لقمة العيش الكريم الذي أطمح إليها وأحلم بها … اللصوص وقطاع الطرق تربعوا على كرسي الحكم فكان هذا هو حال اليمني مغترب في أصقاع الأرض وكل بلدان العالم تجد فيها اليمني يشقي ويكدح طلباً لرزق والعيش الكريم .
**ماهو أصعب شيء قابلته في الغربة ؟.
أصعب شيء قابلته في الغربة هي الغربة نفسها يا إبني الغربة قطعة من النار الغربة تسرقك من نفسك من روحك من حياتك من أهلك … الغربة يابني قاسية تعطيك شيء وتسلب منك أشياء كثيرة …. صمت للحظات وشعرت بأن ثمة غصة في حلقة لايستطيع الاستمرار بالحديث وكأن الرجل يريد البكاء ولكنه يخشى أن تسقط منه الدموع ويخونه الجلد فينفجر باكياً كطفل فقد لعبته … أعطيته كوباً من الماء وقلت له هون عليك يابو عبده أفهم وأعلم ماذا تريد قوله فأنا اشاركك ياسيدي الاغتراب والمشاعر أيضاً ….. شرب كأس ماء وعاد للحديث قائلاً الغربة تعتبر سجن كبير يا إبني الغربة أن تقدم تنازلات كثيرة من كل شيء من صحتك من قلبك من عاطفتك من كل شيء .. قاطعته أنا بسوال آخر .
** ماهو سبب رحيلك حالياً ؟.
=أبتسم وقال أنت تعلم وغيرك يعلم الوضع الحالي في المملكة تغير الآن وتبدل ولم يعد كما الأول .. وظروفي المادية لا تسمح لي في البقاء هنا بعد أن رفعت الحكومة السعودية رسوم الإقامات ومكتب عمل .
** هل استفزك هذا الشيء يابو عبده بمعنى آخر هل أنت غاضب لما يجري حالياً من رفع رسوم للإقامة ومكتب العمل ؟.
= اولا أن تغضب أو لا تغضب لا أحد يهتم لأمرك يابني وأما عن مشاعري لست غاضب أبداً مثل ما انا حزين لنفسي أولاً ومن ثما لوطني وبلادي اليمن التي حالياً ترزح تحت وطأة الحرب والحصار …. انا عاتب ولست غاضب كان من الأولى أن يساعدونا أهلنا واخوتنا في المملكة ويصبروا علينا حتى تنتهي هذه الحرب المجنونة وخاصة للمغتربين اليمنين على أرض المملكة …. أبتسم وقال رحم الله زمان كان اليمني يعامل مثل السعودي في كل شيء وكانت البركة موجودة والمحبة والخير موجود … ولكن هكذا هي حال الدنيا لا تبقى على طبيعتها ويوم لك ويوم عليك …. الشعوب متحابه ومتقاربه وما وجدنا من الشعب السعودي والحكومة السعودية إلا كل خير جزاهم الله خير الجزاء وحفظ الله المملكة شعباً وحكام .
** هل تود أن تخبرني عن شيء قبل أن أغادر ؟.
= نعم أريد أن أشكر كل الشعب السعودي الذي عشت معظم عمري بينهم وبفضل الله لم يروا هم طول هذه السنين ما يعكر صفوهم أو يقلق سكنيتهم ولم أدخل طول حياتي قسم شرطة أو مخفر شاكي أو مشتكي وهذا بفضل الله تعالى وكرمه … وأريد أن اقول للشعب اليمني الله الله بالوطن حافظوا على وطنكم إلا تقولوا بلاد الناس هي بلادكم مهما كنتم مرتاحين بها سيأتي اليوم الذي تحتاجون إلى بلادكم وارضكم وموطنكم فكونوا مع الوطن .