آفاق حرة للثقافة
تقف هذه السلسلة من الحوارات ، كل أسبوع، مع مبدع أو فنان أو فاعل في إحدى المجالات الحيوية، في أسئلة سريعة ومقتضبة حول انشغالاته وجديد إنتاجه، وبعض الجوانب المتعلقة بشخصيته، وعوالمه الخاصة.
ضيف حلقة الاسبوع الكاتب والناقد نجيب العوفي
** كيف تعرّف نفسك للقراء في سطور ؟
كاتب ( أدركته حرفة الأدب ) بكسر الحاء وضمّها في آن . ومن معاني الحُرفة بالضمّ النكد
وسوء الحظ . ومعلوم ان حرفة الأدب تُضْني صاحبها أكثر مما تغنيه . وقد أدركتني أو أدركت
هذه الحرفة على صِغَر، قارئا وكاتبا للقصة . ولازالت ملازمة لي على كبر ، “قارئا” فحسب
للنتاج الأدبي ، وقارئا لأحوال الوقت . ولا تنس قول الراجز/
ثلاثة مُهْلكة للعبد / أنا ومعي وعندي
** ماذا تقرأ الآن ، وما هو أجمل كتاب قرأته ؟
أعود الآن إلى الحديقة الخلفية لمكتبتي ، وأنتقي أعدادا من المجلّة الثقافية – المتخصّصة
الشهيرة ( تراث الإنسانية ) التي كانت تصدر دوريا في ستينيات القرن الماضي من القاهرة ،
أيام العزّ الناصري ، وكانت تُعنى بتعريف وقراءة وتحليل روائع من الكتب التي أثّرت في
الحضارة الإنسانية قديما وحديثا . وكان يشرف على تحريرها صفوة من ألمع الباحثين
والمفكرين ، كعباس محمود العقاد وزكي نجيب محمود وعلي أدهم وابراهيم الإبياري وعبد
الحليم منتصر وإبراهيم زكي خورشيد الخ .. ومنذ هذه الستينيات اليانعات إلى الآن ، قرأتُ كتبا
جميلة من شرق وغرب ، أي مما تيسّر من التراث الادبي للإنسانية . ومن الصعب بالنسبة إليّ
المفاضلة بين الكتب الجميلة التي قرأتُ .. وحالي هنا يصدق فيها قول ابن الرومي في صاحبته
“وحيد” المغنية /
يسهل القول إنها أحسن الأش / ياء طُرّا ويصعبُ التحديد
** متى بدأت الكتابة ، ولماذا تكتب ؟
وقد أطرح السؤال على نفسي بصيغة أخرى ، بعيدا عن أي تواضع مفتعل ، وهل بدأت
الكتابة فعلا ؟ .. حيث تبدو لي الكتابة وهي ممْهورة بتاء التأنيث ، كغانية لعوب تُبدي وتصدّ .
ومع أني أكتب نقدا أي كتابة مفهومية أو ميتا ء لغة كما يقال . . إلا أني أحسّ في كل مرة وكأني
مع الموعد الأول أو الدرس الاول مع الكتابة .
ولهذا يعيد الكتّاب الجولة من من جديد مع الكتابة .. بحثا عن آتيها الذي لا يأتي .
فنحن اذن في تمرين مفتوح ومستمر مع الكتابة . وليس فينا من قالت له الكتابة “هيت لك” ..
ويعود تمريني على الكتابة إلى أوائل الستينيات من القرن الفارط ، كاتبا للقصة القصيرة ،
أيقونة الحداثة وكذْبة العصر التي تختصر أسرار العصر ، حسب منظّري هذا الجنس الأدبي .
لماذا أكتب ؟
أكتب لأحافظ على بعض التوازن في عالم غير متوازن . ولأقرأ بتُوءدة بعض ألواح مرْحلتي .
إن الكتابة كما قال ماريو فارغاس يوسا ، أفضل ما ابتكره الإنسان لمقاومة التعاسة .
وقد تكاثرت التعاسات القيمية والروحية والإنسانية في ظلال النيوء ليبرالية المتوحّشة .
** ماذا تمثل مدينة الناظور بالنسبة إليك ؟
اسمح لي أن أستعيد هنا ، أبياتا شعرية حارة من الأيام الخوالي لشاعر الناظور الكبير
الحسين القمري شفاه الله وعافاه /
( هل قلت إن شوارع الناظور مُوحشة
وإن هواءها متلوّث بمقاولات الزور
والبؤس المعتّق في كؤوس الشاي
فاشرب يا رفيقي في مقاهيها المرارة سلسبيلا
اشرب وحدّق في بواطنها طويلا .. )
ولكن الناظور الآن ، وبفضل شبابها المثقف الصامد والواعد ، أضْحت حاضرة ثقافية بامتياز ،
سواء على الصعيد الوطني أو العربي . من خلال ملتقياتها ومهرجاناتها الثقافية والفنية المختلفة
التي أعادت الروح إلى هذه المدينة المهمّشة ، المجاورة لأختها السليبة مليلية .
ولمنازل الناظور في القلب منازل .
** هل أنت راض عن إنتاجاتك ، وما هي أعمالك المقبلة ؟
وعين الرضا عن كل عيب كليلة / وعين السخط تُبدي المساويا
ولا أخفي أن عين السخط كثيرا ما تشُوب عندي عين الرضا . فأحاول من جديد مواصلة سباق
الماراطون ، مهما كانت النتائج . وإنما العاجزُ من لا يستبدّ .
وفي سياق هذه الرحلة الماراطونية – الوجودية ، أعيد الآن ترتيب ومراجعة أربعة أعمال أدبية
للنشر ، نسجا وتنويعا على الكوجيتو الديكارتي ( أنا أكتب ، اذن أنا أفكر ، اذن أنا موجود ) .
** متى ستحرق أوراقك الإبداعية ، وتعتزل بشكل نهائي ؟
يُحيلني سؤالك على التوّ ، إلى تجربة الأديب والمفكر العربي أبي حيان التوحيدي الذي
أحرق أوراقه وبعض كتبه في أخريات حياته .
ومع تقديري الفائق لأبي حيان التوحيدي وإعجابي بفكره وأدبه ، أجده أنانيا وعُصابيا وعدميا ،
حين اجْترأ في سوْرة غضب ، على إحراق أوراقه وكتبه .
فكيف تطلب مني أن أحرق نفسي وأحفر رمسي وأهرب من حياتي ، وأنا حيّ أرزق ؟
لا تنس مرة أخرى ، ان الكتابة حليفة الحياة ونقيضة الموت .
** ما هو العمل الذي تمنيت أن تكون كاتبه . وهل لك طقوس خاصة في الكتابة ؟
هو العمل الذي أحلم به ، ويحمل توقيعي الخاص . . وأنفُك منْك ، ولو كان أجدع .
وطقوسي في الكتابة كالتالي / قلم وورقة وطاولة ، سواء في آناء الليل أم في أطراف النهار .
داخل المنزل أو في زوايا وأطراف المقاهي الهادئة .
** ما ذا يعني ان تعيش عزلة إجبارية ، وهل العزلة قيد أم حرية بالنسبة للكاتب ؟
العزلة بالنسبة إليّ ، رفيقة ومؤنسة قديمة ووفيّة تبادلنا الألفة والودّ منذ زمان .
والجحيم في كثير من الأحيان هم الآخرون كما قال سارتر .
وحين نتأمل في الكوميديا البشرية اليومية ، نجد أن رأي سارتر لا يخلو من صدْقية ووجاهة ..
فكثير من الناس ، للأسف ، يُستحسن اتّخاذ مسافة منهم . إذا لم يأت منهم فيروس كورونا ، أتت
منهم فيروسات أشد مضاضة وفتكا .
عوى الذئب فاستأنستُ بالذئب إذْ عوى / وصوّت إنسان فكدتُ أطير
** ماذا كنت ستغير في حياتك لو أتيحت لك فرصة البدء من جديد ولماذا ؟
كنت سأعيد نفس الأخطاء . وأقطع نفس السكّة . ولا بدع في الأمر ، فقد /
مشيناها خطى كُتبت علينا / ومن كُتبت عليه خُطى مشاها .
10 / أجمل وأسوأ ذكرى في حياتك .
لن أذهب بعيدا . والمناسبة شرط كما يقال .
أسوأ ذكرى هي جائحة الألفية الثالثة ، جائحة كورونا التي ما تزال جاثمة على الصدور .
والتي جبّت ( أي قطعت) ما قبلها من جوائح .
وأجمل ذكرى ، هي التي ننتظرها على أحرّ من الجمر ، بزوال ورحيل هذه الجائحة .. وعودة
الحياة إلى الحياة .
** كلمة أخيرة أو شئ ترغب الحديث عنه .
دأب كثير من الباحثين والكُتّاب ، على القول بأن زمن كورونا سيؤثر لا محالة على الأزمنة
المقبلة ، وسيخلخل كثيرا من المسلمات والعوائد وأنظمة الحياة السائدة .
وأنا أتابع هذا السيناريو – السوريالي الذي فرضته علينا الجائحة فرضا ، يعتريني إحساس ،
بأن العالم سيعود إلى سابق عوائده وأحواله ، وصغائره وكبائره ، وكأنّ شيئا لم يكن .
فتعود حليمة إلى عادتها القديمة .
يعتريني إحساس بأن العالم لم يبلغ بعدُ سن الرشد .
وكأن التاريخ لم يبدأ بعد ، كما عبّر فردريك أنجلز ، ذات يوم بعيد .