”صدى الأرواح في دهاليز الزمن: يحيى القيسي وحكاية البحث عن الخلود”
في روايته “حيوات سحيقة”، ينسج الكاتب الأردني يحيى القيسي خيوط الحكاية من نسيجٍ روحيٍّ وفلسفيٍّ بديع، ليقدّم عملاً يتجاوز حدود الواقع نحو فضاءاتٍ أكثر عمقًا وإيحاء. الرواية، التي تتخذ من شخصية “صالح” محورًا لأحداثها، تفتح أمام القارئ بوابة نحو الماوراء، حيث تتقاطع الأزمنة وتتداخل الحيوات، في رحلة لا تبحث عن المكان بقدر ما تنقّب في طبقات النفس البشرية.
يُسقط القيسي على نصّه هالة من الواقعية السحرية الممزوجة بالفكر الصوفي، فتغدو الأماكن — من البتراء إلى الكهوف الغامضة — رموزًا للعبور من الجسد إلى الروح، ومن الحاضر إلى ماضٍ قد يكون حياةً أخرى. وبين السطور، تتناثر تأملات فلسفية تستدعي ظلال سقراط وأفلاطون، لكنها تتجذّر في أسئلة الإنسان المعاصر الباحث عن معنى وجوده وسط ضجيج الحداثة وفقدان اليقين.
”حيوات سحيقة” ليست رواية تُقرأ بعين المتعة وحدها، بل تُعاش بالقلب والعقل معًا؛ فهي دعوة للغوص في أعماق الذات، حيث الماضي ليس مجرد ذكرى، بل مرآة تعكس ما كان وما سيكون.
في عالم يضجّ بالسطحية، يذكّرنا القيسي أن الرحلة الأهم هي تلك التي نسافر فيها إلى داخلنا.
** تتناول روايتك “حيوات سحيقة” فكرة “النفس الأثيرية”، وهي فكرة مركزية. كيف توصلت إلى هذا المفهوم، وما الذي تريد إيصاله من خلاله؟
ـ روايتي “حيوات سحيقة” هي الخامسة في مسيرتي السردية الروائية، وهي تعكس طبيعة ما وصلت إليه تجربتي الروحية الخاصة، أو “العرفانية” إضافة إلى قراءاتي وتأملاتي الوجودية، ومن يطلع على التجربة منذ الرواية الأولى “باب الحيرة” وحتى الأخيرة سيجد خيطاً رابطاً بينهم جميعا، وهو البحث في الماورائيات، والانشغال بعوالم النفس البشرية وغموضها، وبالتالي فقد تناولت فيها إمكانية أن يكون لنا وجود روحي أو نفسي سابق على وجودنا الجسدي، وأن نكون قد شهدنا حيوات سابقة منذ فجر التاريخ في تلك الحالة، وما علينا إلا أن نغوص عميقا في داخلنا ونتذكرها.
لا يتعلق الأمر بما يسمى التقمص أو التناسخ بل بوجود النفس ذاتها في رحلتها الخاصة عبر التجسدات المادية على الأرض، وهي فكرة قمت بتوظيفها فنيا لصالح العمل الروائي، ففي النهاية انا لا أقدم حكاية أو معلومات بل رواية فنية مكتملة الأركان محمولة على المعارف العميقة التي تظهر بشكل اساسي في نسيجها السردي.
** كيف يمكن تصنيف “حيوات سحيقة” من حيث النوع الأدبي، وما هي العناصر التي تجعلها متميزة في هذا التصنيف؟
ـ لا يوجد شك بأنها “رواية” فهذا أمر واضح بالنسبة للمتلقي، وبالنسبة أيضا للباحثين والنقاد والقراء، صحيح أن المعارف فيها كثيرة، وخصوصا في الجانب التاريخي، لكنها لا تثقل الرواية كثيرا أو تجعل منها كتاب تاريخ. إنها رواية مكتملة الأركان أولاً، ثم كما أشرت تقوم على المعارف التي فيها، والتجليات الخاصة بالماورائيات من خلال التخييل والشخصيات التي بعضها واقعي من زماننا، وبعضها متخيل ولكنه له جذور تاريخية مثل ابن نبي الله نوح، والحلاج، وغيرهم.
** ما الحدث المحوري الذي يطلق شرارة الأحداث في الرواية، وكيف يؤثر على مسار حياة البطل “صالح”؟
ـ صالح هو الشخصية الأساسية في الرواية، ومن حوله تنبثق الأحداث الخارجية مثل حركته في الأمكنة والمدن كالبتراء وعمان والزرقاء ولندن، وعلاقته مع الشخصيات الأخرى كفريق التلفزة البريطاني، وصديقه المخرج، والفتاة التي قامت بدور في الفيلم والتقته في البتراء ولندن.
من الصعب على الروائي أن يعيد انتاج روايته شرحا وتفسيرا وهذا أمر غير مطلوب منه أساسا، فالمفترض أن النقاد والباحثين والمتلقين من مختلف التوجهات لديهم مقاربتهم الخاصة لأحداث الرواية، ولكن إذا صح لي أن أصف الحدث المركزي في الرواية فهو الذي قاد صالح إلى التحولات الداخلية أولاً أي وقوعه عن الجبل باتجاه الجرف وما طرأ عليه من أحوال غريبة وعجيبة بعدها أو تخيلات جامحة، هذا من جهة جانبه النفسي أو الداخلي، بينما الحدث الخارجي الذي قاده إلى التغيير أيضا فهو علاقته مع النمس، ذلك الشخص المتطرف “التكفيري”، ونظرته إلى المجتمع من حوله، وتقسيمه العالم إلى فسطاطين “الإيمان والكفر”، كما أن علاقته بالغرب من خلال صديقته البريطانية ساهمت أيضا في طرح الأسئلة الكبرى عن ثنائية الشرق والغرب وكيف يلتقيان أو يتفارقان وما أسباب ذلك.
** كيف تعكس شخصية “صالح” الصراع بين الحاضر والماضي في الرواية؟
ـ “صالح” هو ابن الحاضر جسدياً وواقعا، فهو ابن هذا الزمان، لكنّه مثقل بالماضي الذي يحمله في أعماقه، والذي بدأ بالانبثاق أمامه بين الحين والآخر، ومطاردته في حاضره.
إن الإرث الهائل الذي اكتشفه صالح في أعماقه من خلال لحظات الغيبوبة، أو من خلال قراءته للتاريخ “الأسود” الذي يشكل واقعنا، سواء قبلنا ذلك أم لا، فهو موجود في كتبنا التي وصلتنا من أجدادنا، وإنني إن كنت أوضحت شيئا من هذا الإرث المحظور أو المحرم في روايتي الأولى “باب الحيرة” من خلال نبش التابو في موضوعين شائكين وهما “الجنس” و”الإلحاد” في تاريخنا العربي والإسلامي، وكيف يتسللان بقصد أو بدونه إلى حاضرنا اليوم، فإنني في روايتي الأخيرة “حيوات سحيقة” نبشت إرث الاغتيالات والتعذيب والمؤامرات التي وصلتنا في المرويات التاريخية لأجدادنا، وبالتالي من الضروري التعامل مع هذا الإرث الصعب ومحاولة فهمه والتصالح معه بدلاً من قمعه وإنكاره.
** ما دور الشخصيات الثانوية مثل “أليس” و”غاريث” في تعزيز الموضوعات الثقافية والروحية للرواية؟
ـ مثل هذه الأسئلة مناسبة جداً للباحثين المتخصصين في الرواية والنقاد، لكني سأحاول الإجابة عن ذلك بقدر الإمكان ككاتب لهذه الرواية وقارىء محايد ربما، فحين يكتب الأديب عمله الروائي لا يضع في حسبانه معادلات التلقي والدلالات للشخصيات وغير ذلك. إنه يبدع كتابة ً ما يراه مناسبا حسب قدراته الإبداعية في اللغة والأسلوب وتحريك الشخصيات ونوعية الفضاءات وغير ذلك، لكن بعد انتهاء العمل، وبدء التلقي النقدي له يبدأ بالانتباه إلى ما يقوله القراء، وحفريات النقاد، وهي قليلة بالمناسبة، فمعظم ما يكتب اليوم تحت مظلة النقد يقع في خانة الإخوانيات والعلاقات الشخصية، وليس الحفر العميق في النص وبيان جمالياته وانكساراته.
في كل الأحوال فإن شخصية أليس ظهرت في مرحلة ما، وبدت امرأة عقلانية تبحث عن مصلحتها ولم تذهب عميقا في الجانب العاطفي، فيما كان صالح يظن غير ذلك، وبالتالي فإن الاستمرار في هذه العلاقة كان مقدرا له الانفصال، وقد أوضحت ذلك في بعض أقوالها من أن صالح يعيش في الماضي مثل بقية العرب ولم يستطع التخلص من إرثه السلبي وبقي عالقا فيه، بينما هي والغرب عموما يعيشون الحاضر ويحاولون بناء المستقبل دون الوقوع في فخ الماضي والبقاء أسرى له.
شخصية غاريث من جهة أخرى كانت أيضا عقلانية، لكنها لا تنكر الأشياء الماورائية، وهي شخصية مساندة للأحداث التي جرت لصالح، وساهمت في بناء الحبكة الخاصة به فنيا، وهي مثل بقية الشخصيات الغربية لها أخلاقياتها الخاصة، ونظرتها الوجودية العملية “البراغماتية” نحو الواقع.
** ما الدور الرمزي للمكان (مثل البتراء أو الكهف) في تعزيز الدلالات السردية في الرواية؟
ـ من الواضح أن فكرة الكهف الغامض في منطقة لها خصوصيتها كالبتراء تحمل الكثير من الدلالات، وقد حاولت أن أوظفها في سياقها النفسي والغرائبي. وكما أسلفت من قبل سأترك للنقاد والباحثين المتخصصين الحفر عميقا في دلالات الأمكنة والفضاءات التي تتحرك فيها الشخصيات، ومن المؤكد أن الكثير من الإشارات ستبدأ بالظهور للمتلقي بعد ذلك بخصوص هذه الأمكنة القصية والحادة.
ليس صدفة بالطبع أن يتحرك صالح مع الفريق باتجاه جبل هارون، ويسقط هناك في جرف هاو قبل أن يتم انقاذه حينما كان يحاول التقاط صورة لغروب الشمس من جهازه الهاتفي المحمول، الذي سقط وتحطم في الوادي السحيق، والطريف في الأمر أن أحد النقاد الناقمين الذين لا يجيدون قراءة النص، أو ربما لم يقرأه أصلاً، تساءل في مقال له عن لماذا لم يستخدم صالح هاتفه النقال من اجل اسعافه، وتم أخذ هذا الأمر على أساس أنه منقصة في الرواية، إضافة إلى أمور أخرى تكشف أن الرجل لم يقرأ النص أساساً، وإن قرأه لم يستوعبه.
** كيف يعتمد السرد في الرواية على الحوار الداخلي والإسقاطات النفسية لتفسير الأحداث؟
ـ من حق الروائي أن يختار ما يراه مناسباً لإيصال أفكاره داخل عمله، فهناك تقنيات سردية معروفة، من بينها الحوار الداخلي”المونولوغ”، والحوار الخارجي “الديالوغ” والاسترجاع “الفلاش باك” والتداعي الحر، والتناوب في رواية الشخصيات، والرواي العليم أو المشارك ..الخ، وبالنسبة لي وجدت أثناء كتابتي للعمل أن هذا الشكل هو الأنسب لما أرغب بقوله في هذه الرواية من أفكار. لقد سبق أن وظفت تقنيات سردية كثيرة في رواياتي السابقة، وهي كما قلت تحتاج إلى دراسة ورصد من قبل المتخصصين، ويبقى الإبداع حالة حية تخرج كنوزها للمتلقي بقدر ثقافته وقدرته على التأمل في النص والقراءة بين السطور.
**ما هي العناصر التي تجعل “حيوات سحيقة” رواية “معرفية”، وكيف تتجلى هذه العناصر في السرد؟
ـ الرواية المعرفية من وجهة نظري لا تقدم الحكاية فقط للمتلقي بل تقدم وجبة معرفية جديدة ومبتكرة له، وبالتالي تحتاج إلى بحث وتقصي وتأمل من قبل الراوي، فإن كان يكتب رواية تاريخية أو تستند إلى التاريخ ينبغي له أن يقدم هذا التاريخ بشكل شائق وعبر قراءة مغايرة للسائد، وأن لا يثقل على النص السردي الروائي فيتحول إلى كتاب تاريخ أو يقدم شيئا ناقصا أو مضللا، وبالنسبة لي في هذه الرواية أو في رواياتي الأخرى “بعد الحياة بخطوة”،و “الفردوس المحرم”، و”أبناء السماء”، و “باب الحيرة” قد حرصت على القراءة المكثفة ومشاهدة الأفلام المتخصصة والوثائقية والبحث في بطون الكتب، بل والسفر ومقاربة الموضوعات من قبل المتخصصين بشكل مباشر، حتى استطيع تقديم شيء مقنع، وعسى أن أكون قد نجحت في ذلك.
بالطبع كل ذلك محمولاً على الحكاية ومخلوطاً بالخيال الشاسع واللغة القوية السلسة، والتقنيات السردية المتنوعة، ويبقى الحكم في ذلك على المتلقي ومقدار قبوله لهذه الأعمال.
في “حيوات سحيقة” مثلاً اضطررت لقراءة الكثير عن حياة الحلاج الصوفي الشهير الذي تم صلبه وتقطيع أطرافه بشكل بشع نتيجة لمواقفه السياسية ونظرته الدينية، كما أنني قرأت الكثير من الكتب التي ترصد تاريخ العرب والمسلمين وما فعله الحكام بالمحكومين، ولعل في فهم الماضي ورصده نستطيع فهم جذور التطرف في حاضرنا ومقدار تسرب ذلك التاريخ القاسي
والبشع إلى حاضرنا المرتبك والمثير للشفقة.
يحيى القيسي
(سيرة مختصرة)
روائي، وباحث، وإعلامي من مواليد قرية حرثا شمال الأردن 1963
درس اللغة الإنجليزية في جامعة فيلادلفيا بمرحلة البكالوريس، ثم تابع دراساته العليا في الترجمة في الجامعة الأردنية.
عمل في وزارة الثقافة الأردنية خلال الفترة من 1996- 2006 مدير تحرير لعدد من المجلات الأدبية والفنية مثل صوت الجيل، مجلة الفنون، أفكار، ومديراً للدراسات والنشر، ومديراً للتبادل الثقافي إضافة إلى عضويته في العديد من اللجان المتخصّصة مثل التخطيط والنشر وغيرها.
عمل في الصحافة التونسية، والخليجية، والأردنية، واللندنية، مراسلاً ومحرراً منذ العام 1990 وحتى العام 2009 كما قام بالكتابة والإعداد لنحو 25 فيلماً توثيقياً للتلفزيون الأردني بعنون “سيرة مبدع” عن أبرز الشخصيات الفكرية والأدبية الأردنية.
عمل في هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام مديراً للشؤون الثقافية، ونائبا للمدير العام 2013-2016 وأشرف على العديد من المؤتمرات الإعلامية المتخصصة والمهرجانات الفنية والملتقيات والمعارض، وقام بتأسيس الموقع الإخباري “الفجيرة نيوز”، ومجلة “الفجيرة الثقافية”.
على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية انشغل بالقراءات في التصوّف والماورائيات والفكر الديني إضافة إلى تطوير تجربته الروحية، وتفرّغ تماماً خلال الفترة من 2016 – 2018 لقراءة متعمّقة لكتب الشيخ محيي الدين بن عربي، وأصدر الجزء الأول من كتاب يراجع هذه التجربة.
عمل في بريطانيا خلال الفترة من 2018-2024 ضمن فريق مؤسسة غير حكومية تعنى بالفكر والتنمية البشرية وحوار الأديان.
أنجز مئات الحوارات مع عدد من أبرز الأدباء والكتاب العرب إضافة إلى كتابة المقالات.
مؤسس ومدير تنفيذي لمنصة ألف كتاب وكتاب في بريطانيا والمتخصصة بالكتب العربية الرقمية.
أصدر في الرواية:
- حيوات سحيقة – دار خطوط للنشر والتوزيع – عمّان – 2020
- بعد الحياة بخطوة – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 2017
- الفردوس المحرّم – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 2015
- أبناء السماء – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 2010
- باب الحيرة – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 2006
وفي القصة القصيرة:
- رغبات مشروخة – دار النسر للنشر والتوزيع – عمان – 1996
- الولوج في الزمن الماء – دار طبريا للنشر والتوزيع – إربد – 1990
- كيف تمسك أرنباً؟ – مجموعة قصصية – اصدارات وزارة الثقافة 2024
وفي المجال الثقافي والبحث الفكري:
- ابن عربي في الفتح المكي: الانتقاص من القدر المحمّدي – مؤسسة أونيكس – بريطانيا – – 2019 – الطبعة الثانية 2022 المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمان.
- حمّى الكتابة – حوارات في الفكر والإبداع – منشورات الدائرة الثقافية لأمانة عمان 2004
