آفاق حرة
يسرنا اليوم أن نستضيف في هذا الحوار شاعراً سورياً قديراً، يحمل في قلبه نبض وطنه وفي روحه شعلة الإبداع. إنه شاعر ذو ثقافة واسعة وجذور أدبية عميقة، جعل من كلماته مرآة تعكس آلام وآمال الإنسان في هذا الزمن المعقد. برؤى ثاقبة وأسلوب ساحر، استطاع أن ينقل عبر قصائده تجارب الحياة بكل ما فيها من أفراح وأتراح.
نرحب بكم في هذا اللقاء الخاص مع شاعر جليل مثقف و رائع ، نستكشف معه عوالم الشعر والفكر ونغوص في بحر كلماته الراقية .
يتميز شاعرنا الكبير إبراهيم الأسود بلغة جميلة متفردة تنبض بالحياة، لغة تجمع بين الأصالة والحداثة، حيث تتدفق كلماته كالنهر العذب، لتنساب إلى وجدان القارئ بسلاسة وعذوبة. يتقن فن اختيار المفردات بدقة، فتأتي جمله الشعرية محملة بالرموز والإيحاءات، مما يجعل نصوصه غنية بالدلالات ومفتوحة على تأويلات متعددة.
ثقافته الواسعة تتجلى في عمق نصوصه، فهو قارئ نهم للتاريخ والفلسفة والأدب العربي و العالمي، مما ينعكس في غنى أفكاره وتنوع موضوعاته. كما أن إلمامه بمختلف التيارات الأدبية والفكرية يجعله قادراً على صياغة رؤى شعرية تتجاوز الحدود الزمانية والمكانية، فتلامس القضايا الإنسانية بعمق وصدق. هذا المزج الفريد بين لغة راقية وثقافة واسعة، هو ما يجعل من شعره تجربة فريدة لا تُنسى.
معنا الشاعر السوري الكبير
إبراهيم الأسود
إبراهيم عبد الحميد الأسود ،
مسلم ، عربي ، سوري
من مواليد ١٩٥٢ ،
عضو إتحاد الكتاب العرب ، عضو جمعية الشعر بدمشق ،
عضو رابطة الأدباء والكتّاب الكويتيين- عضو رابطة أدباء الشام ،
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.
له اثنا عشر ديواناً مطبوعاً، وعدة دواوين مخطوطة، ورواية مطبوعة وروايتان مخطوطتان. وكتب أخرى في الأدب لم يطبع منها شيء.
لا انتماءات جهوية أو فئوية أو حزبية عنده أو إيديولوجية ، ولا انتساب إلا إلى الدين والوطن والأمة العربية.
كان لنا معه هذا الحوار القيم الماتع ..
**كيف بدأت رحلتك مع الشعر؟ وكيف أثر محيطك وعائلتك على إبداعك الشعري؟
·· يبدو الحديث شجوناً من أوَّله؟.
ليبدأ المرء رحلةً يجب أن يُحدث النية ويُحدِّد الوجهة ويعقد العزم ويُعِدَّ العُدّة ويأخذ الأُهبة ويملك الزاد والراحلة ويختار الرفقة؛ هذا كله يجب أن يسبق الانطلاق في رحلةٍ يريد منها من يريد القيام بها المتعة والفرجة، أما رحلة في الشعر أو مع الشعر فهي رحلة لا أحسب أن أحداً يتمنى أن يكون منها في عير أو نفير، إلا من كان جاهلاً بشقائها ممن تتراءى لهم صفة «شاعر» صفةً مُغوِيَة، وما أكثرهم، لكن المراهق المندفع في تيار الرغبة الخادعة، لا يملك التؤدة ليميِّز بين ما هو أدنى وما هو خير، ولو كانت لديه كفاءةُ وعيٍ أوكفايةُ فكر، لتجنَّب أن يزجَّ بشبابه في قضيةٍ فحواها عتاب للزمن ومشاكسة للواقع وتأثر بالأحداث، ولأدرك -وأنّى له أن يدرك- استحالة تقويم عِوَجِ أمورٍ لا تستقيم، ولا هو معنيٌّ بتقويمها أصلاً، ولكن الشعراء قومٌ بُلْه.
ما عرَّفتِها أنتِ «رحلتي مع الشعر»، قد يكون تعريفها الأصح أنها انخراطة قسريَّة في قدَرٍ جارفٍ كنت نائماً في طريقه، ثم لم أستيقظ إلا وأنا أتدحرج في أجناسٍ من الأشياء وغرائب من الأحياء، لا يشبه بعضها بعضاً، ولا يعرف بعضها بعضاً.. ثم حين استقر قرار السيل إذا بي قد علق بي شيء من الغُثاء؛ وما إن نفضتُه تطاير ليرتسم على ناصية الأفق سطوراً لها رفيف ولها زَجَل، قال أناسٌ إنها أسراب قَطا، وقال آخرون إنها قصائد شعر، وسكتُّ أنا وقد راق لي كذب القوم، فلم أقل لهم إنها هُنَيّاتُ زَبَدٍ تلتمع.
: «محيطك» و «عائلتك» و «كيف أثَّرَت» قد لا تعبِّر عن معانيها إذا حشرناها في نفس مواضعها من السؤال، ولكني -اتكالاً على فهمك- سأقول: إن من سار في رحلةٍ وكان له رفقةٌ تتفقده، فيُفتَرض أن يبيت معهم على سَراة الجبل لا في سَرارة الوادي، لئلاّ يغتاله الليل أو يجتاله السيل؛ إذاً فكأنكِ بـ «المحيط» و«العائلة» ومفردات أخرى شائعة قد افتُضِحت، وكشف الواقع عن أنها محض اصطلاحات اجتماعية، تواطأ الأقدمون على دمجها في اللغة، إمّا للتحلية أو للتسلية، وأنها لا تطالُ «الإبداعَ» بطائل، ومن رجع إليها في قواميس الأدب فسيجد أنها أسماء لأشياء، لا أشياء قائمة بذواتها.
وإذا افترضنا رحلةً وآلةً وانطلاقةَ بدءٍ، فإن ذلك يستتبع تساؤلاً رديفاً، وهو أن موهبةً شَبَّت عمياء كالمعرّي، وشابت صمّاء كبيتهوڤن، ماذا ستُجدي عليها الحياة في نعشٍ تحت كلٍّ من مساميره البارزةِ بُقعةُ موت، وماذا سيُجدي عليها المشي خلف جنازتها بتراتيل من رسالة الغفران، أو بترانيم من السيمفونية التاسعة!
** من هم الشعراء الذين أثروا في تطور أسلوبك الشعري؟ وأي عصر من العصور برأيك بلغ الشعر مجده؟
·· هذان سؤالان يَحسُن أن نجيب على الثاني منهما أولاً:
بلغ الشعر مجده في مراحل زمنية متقدمة في الجاهلية سبقت عصر الأفوه الأودي والشنفرى الأزدي، إلا أن كل مجدٍ لا يُكتب لا يكتب له الخلود، لذلك شاع بناءً على ما في أيدي الناس من تاريخ، أن الشعر لم يبلغ مجده إلا في عصر امرئ القيس وجيل المعلقات، وهذا غير صحيح، لأن الشعر خُلق ماجداً منذ خُلق، وكل شيء إنما يُخلق على حالة الكمال ثم ينضوي تحت قاعدة (ومن نُعمِّره نُنكسه في الخلق)، وإن قانوناً يشمل الدهر لا يجوز أن يستثني الشعر، بل كلٌّ له شباب وكهولة وشيخوخة، وعليه فهل يخالجك شك في أن هذا العصر في أوكس درَكات المجد!
: أما تأثري بالشعراء فبالأقدمين أكثر، لأني قرأت لهم أكثر، ولديَّ «لاماتُ تعليلٍ» كثيرة لو عدَّدتُها لم تَبق لاستكمال الحوار مساحة كافية.
أنا شَنفريُّ الشعر أعشى المنتمى – متمكنٌ من أوعَر الأثباجِ
وإذا نسجتُ قصيدةً أحكمتُها – فأتت كوَشْيِ الخَزِّ والديباجِ
ولقد ورثتُ اليوم نعلَيْ حُندُجٍ – وسُلبت حقّاً لي بإرث التاجِ
ورقى إلى قُلَلِ المعالي أعجَمٌ – وظللتُ مقبوراً أنا ونتاجي
فلعنتُ عصراً أصبحت فيه الذُرى – نهباً لكل منافقٍ ومُداجي
** ما هي القيم الأساسية التي تسعى لنقلها من خلال قصائدك؟
·· لا أجحد لشعري سُهمةً في بعض نقوش الحكمة، ولا أنفي عنه تهمة القصور عن إتقان الصورة البيانية في بعض الأحيان، وأنا بحمد الله لست ممن (زُين له سوء عمله فرآه حسناً)، بل كثيراً ما يَحدث أن أحمل نفسي على خطةٍ حسنة فتجنح عزمتي ولا تنجح.
وقالوا فزتَ بالقِدْحِ الـمُعَلَّى – بنَثرِ الرافعيِّ وشِعرِ شوقي
وطُوِّقتَ الفخارَ، فقلت كلاّ – بودّي غير أني ما بطَوْقي
هما الصقران والعبدُ القِرِلّى – وتحتُ أَخامِصِ الرجُلَيْنِ فوقي
وعلى أن الإنسان بفطرته متنازَعٌ بين تَـمَنّي الخير في نفسه، وتَنَمّي الهوى في طبيعته، لم أجد بي نزعةً لأن أدَّعي أنني أصلحُ لمهمة نقل القيم عن لوحها المحفوظ وأدائها إلى الناس، ملخص دعواي أنني شاعر، إن صح أنني شاعر، والشعر قريب إلى النَّبْوَة بعيدٌ من النُّبُوَّة، وحَرِيٌّ أن يأتِيَهُ الباطل من بين يديه ومن خلفه؛ والقصيدة -ولو كانت الأوديسة- لا تصنع القيم ولكن تدعمها، والشاعر -ولو كان فرجيل- يبقى قاعداً في حَيِّز قاعدةِ «في كل وادٍ يهيمون» و «يقولون ما لا يفعلون» وصدق الله العظيم.
**كيف ترى دور الشعر في المجتمع العربي المعاصر؟ وكيف تؤثر الأحداث السياسية والاجتماعية على أعمالك الشعرية؟ وهل يستطيع الشعر أن يكون بناء في تغيير المجتمعات؟
·· لكي ننصف الفكرة: يجب أولاً أن يكون المجتمَع العربي «مُجتمِعاً» لتصح الصيغة الاصطلاحية للتسمية، ومن ثَمَّ أن يكون له دورٌ ليكون للشعر دورٌ فيه.
وإذ لم يكن ذلك، فليت الشعر والمجتمع (بينهما برزخ لا يبغيان)، ليتاً مبررةً من جهتين:
الأولى: خوفاً من المجتمع على الشعر، لأننا نقرأ لمؤلِّفين مغلَّفين، يروون لامرئ القيس أبياتَ «تعلق قلبي طفلةً عربيةً» ويَنسبون إلى الأصمعيَّ قصيدة «صوت صفير البلبلِ» ويبهَتون سيدنا علياً كرم الله وجهه بـ «حظيت يا عود الأراك بثغرها».
والثانية: خوفاً من الشعر على المجتمع، لأن في مواقع التواصل فيروسات شعرية مثقفة، لو تمشّى أو تفشّى بعضُها في الناس لتمخَّض عن متحوِّراتٍ خطرة، تعجز أمريكا -التي صنعَتها- عن لجمها حتى عن «المليار الذهبي» الذي تريد اختصار أو اقتصار العالم عليه.
أيها الأستاذة الكريمة، بربكِ ألا تخيفكِ هذه القصيدة؟
[تقول لي
مجنونة أنا يا حبيبي
للحد الذي أبكي فيه من إبرة التحاليل
ومعتوه أنت
للحد الذي انكسر كبرياؤك
ولكن بعد فوات الأوان].
وعن الشِّق الثاني من سؤالك: طبيعي أن تؤثر الأحداث السياسية على ما أكتب، الطَّرْقُ على النحاس يسبب ألماً للرأس، فكيف الطَّرْقُ على الرأس بالنُّحاس! إنه ما من بيت شعرٍ قلتُه، إلا وفي كل حرفٍ منه ضربةٌ بسيف أو طعنةٌ بسِنان.
شعري تضَرَّج من جراح مشاعري – فإذا رأيت الحرف ينزف فهو لي
عَيْـنٌ أصابت عَيْـنَ حظّي مِن أُلي – حسدٍ رأوني في الرعيل الأوَّلِ
قال لي الشاعر الأوحد أحمد مطر وقد أسمعته أبياتاً أثناء مقابلة أجراها معي سنة ١٩٨٠: [إنك تطرح صورة شهيد]، ومنذئذٍ وأنا أشاهد موتة الشهيد تتكرر في حياة الشاعر عند كل معركة يفرضها فجور السياسة.
ولقد كان الشعر يستطيع تغيير المجتمعات، حين أطلق الحارث بن عبادٍ صرخته:
قرِّبا مربط النعامة مني – إن بيع الرجال بالشسع غالِ
فأصبح كل بكريٍّ على ظهر جواده.
وكان الشعر يستطيع تغيير المجتمعات، حين ثارت حمية الجاهلية في نفس خالد بن الوليد لما ارتجزتْ هند:
نحن بنات طارق – نمشي على النمارق – إن تقبلوا نُعانق
خلا أن عصرنا هذا خلا -أو يكاد يخلو- من كل مَن وما هو نبيل.
الآن لا تستطيع الأمة بأسرها فك أسرها، من أيدي لصوص فسَقةٍ جاءوا من «هناك»، وخائنين مرتزقة خرجوا من «هنا».
الآن لا تستطيع مؤسساتنا الثقافية العتيدة الإجابة على الإيعاز بتغيير المناهج التعليمية إلا بالاستجابة.
لا تستطيع قياداتنا الرشيدة إلا هدم ناطحات السحاب التي شُيِّدَت بإباء آبائنا على قواعد العزة، وإلا دعم المجهود الحربي كلما سقطت دولة عربية، بنشر ألف ديوانٍ يحض على النضال بعويل الأوزان وصليل القوافي.
الآن العروبة كلها لا تستطيع، ولا تستطيع معالجة أسباب أنها لا تستطيع، خوفاً من أن تعود تستطيع كما كانت تستطيع!
: لم تفهمي شيئاً؟
: ولا أنا.. إنما قرأتُ لك نبذةً من مفهومِ واقعٍ غير مفهوم.
** كيف توازن بين الأسلوب التقليدي والتجديد في شعرك؟ وهل هناك موضوعات معينة تجد نفسك تفضل الكتابة عنها؟
·· أنا رجل أمارس الشعر بنصف موهبة ونصف مهارة، أي أنني لست شاعراً مطبوعاً، ولا أحمل شهادة مدرسية، ولا اسماً مسبوقاً بحرف الدال، إلا أنني أمتلك «عصاميةً معرفية» بها سطوت على مفاتح الأدب فاكتلتُ منها كيلاً وافياً؛ ولأنني نشأت محباً للشعر حُب غريزة، هُديتُ إلى تتبُّع فنونه وأساليبه وألاعيبه، فما هي إلا هنيهة حتى فقهتُ في فن المواءمة بين خصائص التقليد والتجديد، فالآن من يعرفني يعرف أن لديَّ حساباً جارياً في «بنك» اللغة، ودفتر «شيكات» وبطاقة خضراء صالـحَيـْن للسحب والإيداع، ورأسَمالٍ متداولاً في سوق الأسهم بلغ ٢٣مؤلَّفاً، ١٢منها مطبوعة، و ٢ على وشك الصدور؛ و ٩-١٠ مخطوطات.
وعلى الرغم من زهوي تارةً ما بسلاسة قريحتي، تجدينني تارةً أخرى عند الشروع في مشروع قصيدة، أتملق للَّفظ وأتلطف للمعنى وأكاد أصنع لهما وليمةً ليتواكبا ويتراكبا، وتارةً أحتار أيّ الكلمات تكون أنسبَ لسد الثلمة في البيت الشعري لئلاّ يظهر التكلف في صياغته، وتارة أستنجد الحاسة [السابعة] لعمارةِ عبارةٍ أو لاختيار لونٍ يناسب الصورة المتخيَّلة، كأنني مهندس بناء أو مصمم أزياء، وتارة أخيرة ألجأُ مضطرّاً إلى مـُمادَّة النفَس الشعري، فأُلقي حبل السجيةِ على غاربها وأترك لـما يسمونه شيطان الشعر حريته، إن شاء حضر ساعة الإنشاء، وإن شاء غاب جمعةً أو شهراً أو سنةً.. لا أعجلُ ولا أوجل.. ثم لا ينفضُّ المولد إلا بعد التي واللَّتيّا؛ وفي كل هذه «التارات» لا أُعنَى إلا بأن تكون فكرة النص «متوازنة» مع نص الفكرة التي أكتبها، تحمل سِمات «التجديد» و «التقليد» معاً.
لا تستخفُّني الرغبة في هواجس المتحررين المتنمرين، الذين درَجوا على دَرَج الشهرة، لأنهم كشفوا ثوب القصيدة إلى ما فوق الركبة أو ما تحت السرة، لماّ اكتشفوا أن السواد الأعظم من الجمهور، يحبون مشاهدة القوافي كاسياتٍ عاريات.
ولا تعجبني وساوس بعض المتعبِّدين المتعبَّدين، الذين إذا أراد أحدهم أن يُنتج قصيدة، أنتج لها مما يظن أنه (لباس التقوى) جلباباً وحجاباً، وكذَّب بآيات الحُسن كِذّابا، وأيْبَسَها إلى درجةِ أن قرّاءها (لا يذوقون فيها برداً ولا شرابا)، فإذا قصيدته تصيح من العفاف/ الجفاف: (يا ليتني كنت ترابا).
: سؤالك عما إذا كانت هناك موضوعات أفضِّل الكتابة فيها؛ لامَس في نفسي شعوراَ مكتتماً، وهو شعوري بقلة الموضوعات أو ربما بعدمها، تقولين لماذا وكيف؟ حسناً، امنحيني مهلةً للجواب، ثم أنصتي وأنصفي:
الحب والغزل: مرحلة أهلَّت ثم ولَّت واضمحلَّت كالغيمة العابرة، وقد أنصفتُها حين كانت شِرَّةُ الشباب جذعة.
قلتُ فيها من القصيد عيوناً – هُنَّ كالكحل في عيون الغواني
وبها قد وجدتُ وَجدَ مطيع بـ – ـنِ إياسٍ بنخلتيْ حُلوانِ
كان شيخاي حُندُجٌ والمعري – أوَ شَكٌّ في ما روى الشيخانِ
سقى الله زماناً قلت فيه:
أفدي الحبيب الذي ذكراه في خَلَدي – وشخصُه في مآقي العين قد رُسِما
المطعِمي من جَنى خديه فاكهةً – ومن لَمى شفتيه كوثراً شَبِما
والمُفرِشي من حمى نهديه مُتَّكَأً – وما أحل لغيري ذلك الحَرَما
لكنَّ السبعين نسخت قولاً بقول، وبدّلت غناءً برثاء:
ونقدتُ عُمري قلتُ أنت مجرَّدٌ – من زينةِ الدنيا وترفلُ بالمُنى
يا زهرةَ الدِّفلى فلا عِطرٌ ولا – ثمرٌ وإن جَذَبَتْ إليها الأعيُنا
ولقد وَجِدْتُ لَدُنْ وَجَدْتُ علاقةً – فطريَّةً تُغري المنايا بالـمُنى
كالطفلِ فوق الشاطئ الرَّمْلِيِّ يَبـ – ـني ثم ما يألو فيهدِمُ ما بَنى
حال الجريض دون القريض، وهاهو الزمان يطعن خاصرتي بمِخصَرَة التشفّي، ويقهقه على جثة الحُلُم الميِّت ساخراً وهو يقول لي معنِّفاً: «ذُق عُقَق».
القيم والأخلاق: من الموافقات اللغوية اللافتة أن مضيِّفينا الأتراك يطلقون اسم «قيمة» على اللحم المفروم؛ ومنها أن العرب يسمون الأشياء البالية «أخلاقاً».. ولعل في ذلك إلماحة إلى شيءٍ من العِبَر الكُبَر.
المجتمع: هذا الهالكُ الحرَض، المصاب في كل عضوٍ بمرض، الذي لم يعد للنفس الشاعرة فيه غرَض، إلا أن تُضمر يأسها قائلة: عليه العوض ومنه العوض.
السياسة: ما عسى أن أقول فيها أكثر مما قلت:
مكةٌ أُجِّرَت إلى أمَريكا – والأقصى احتلَّته إسرائيلُ
ثم حِرنا مِن بعدُ أين نصلّي – ولو انَّ الإيمان فينا هزيلُ
شارون هَدَّد كل قادةِ عُربِنا – مستثنياً مَن كان مِن ولَد الزِّنا
فتحيَّر الملعون يضرب مَن ويتــ – ـرُكُ مَن وقد ضَجّوا جميعهمُ أنا
الوطن: أي وطن؟ الذي ولدتُ فيه أمس، أم الذي تشردتُ فيه اليوم، أم الذي ما زال يُهَيَّأُ في رَحِم الغيب لأموت فيه غداً؟
أي هذه الموضوعات ترين أنني أفضل أن أكتب عنه؟ إنني لا أفضل الكتابة عن واحدٍ منها، مع أنني كتبت فيها كلها؛.. فوارحمتا لقلبٍ أدمَنَه وجَعُ الحب، حتى أدمنَ حُبَّ الوَجَع.
**كيف تتعامل مع النقد الأدبي لقصائدك؟ وهل ترى النقد الأدبي يسهم في تحسين جودة الأعمال الأدبية والقاء الضوء على النقاط الإبداعية للشاعر؟
·· ذكَّرتِني باسمٍ لامعٍ «من قطر عربي» فاجأني منذ سنين برسالةٍ من صفحات كثيرة، تناول فيها قصيدة لي بثناءٍ مسهب، واصفاً دعج عينيها ولمى شفتيها وتورُّد خديها وترنح قرطيها ونعومة كفيها ونهود ثدييها واهتضام كشحيها وثقل ردفيها وامتلاء ساقيها ورنين حِجليها ولطافة قدميها ونفاسة نعليها وطرب الأرض التي تمشي عليها، وذيَّل رسالته بطلب “مبلغ” لم يبالغ فيه «كما قال هو»، بل لا يكاد يساوي أجرة الخط أو كفارة الكذِب «كما قال ابن الرومي»، عارضاً خدمته شبه المجانية ليتناول جميع قصائدي بمثل هذا النقد البنّاء.
غيره لا أعرف أحداً تعرض لشعري بدراسة نقدية، وغيري لا يَعرفُ أحدٌ ما تنطوي عليه أنفاقُ الشعر والنقد من نِفاق.
وما شعراء اليوم إلا كما ترى – براذين في الميدان حسرى وظُلَّعا
إذا رُزْتَ مطبوعاتهم أو طباعَهم – فلن تلقَ مطبوعاً ولا متطبِّعا
وهذا يسمّى مُفلِقاً ومجدِّداً – وذلك يُدعى عبقريّاً ومبدعا
ونُقّادهم ماهم سوى نَقَدٍ من الـ – ـشِّياهِ زهاها السهلُ ماءً ومرتعا
ولو كان ثَمَّتَ نقاداً وكانوا أُمناء، لكان حريّاً أن يسهم النقد في جودة الأعمال الأدبية، أما أن يكون التعامل على مبدأ بيع النقد بـ «النقد» فهذا مما يَطمِسُ على «النقاط الإبداعية» عند الشاعر إن وُجدت.
** هل الشعر صناعة؟ أم أنه كما يقال بأن الشاعر يكتب القصيدة بحبر الروح؟
·· من قال إن الشعر صناعةٌ «محضاً» فهو جاهل، ومن قال إنه يكتب بمداد الروح، أي إلهاماً «بحتاً» فهو كاذب؛ الشعر -أكاد أقول- موهبةٌ انتُقصت من خصائص الشيطان عقوبةً، وزيدت في مزايا الإنسان تكرمةً، حين امتنع إبليس عليه اللعنة من السجود لآدم عليه السلام، ووجود الشعر في الوجود الآدمي، أشبه ما يكون بطفلٍ أُلقيَ في عهدة أبوين مجازيين تبنَّياه ولم يلِداه، ألجأه إليهما اليُتم وألجأهما إليه العُقم، فهما يتعاهدانه، الأم بالرضاعة والأب بالصناعة، فمنه ما يَنْشَـأ عن فطرة جامحة وفكرةٍ قادحة، وهو غالباً شعر ذوي القرائح التي لا ترى أربابها إلا معذبين.. وإلا مهذبين؛ ومنه ما (يُنَشَّأ في الحلية، فذلك في الخصام غير مبين)، وهذا الأخير سيكون خيراً له ولأبويه لو وُئِد منذ وُلِد.
يا مكثراً زهواً بشعرك إنني – لأراك قد أبعدت في الغُلواءِ
الشعر ما يأتي عن الوجع المُلِــ – ـمِّ، وليس ما يأتي من الوَجْعاءِ
والشعر مثل الناس بعضٌ منــ – ـه أعيانٌ، وأكثرُهُ من الدَّهْماءِ
جِدْ شاعراً صقراً تجِدْ بإزائهِ – في القوم ألفَيْ شاعرٍ بَبْغاءِ
ثم إنه لا يعيب الشعرَ أن يكون صناعة إذا كان صناعة متقَنة، وهل كان زهيرٌ حين يُعَتِّق القصيدة حولاً كريتاً إلاّ يصنعُها؟
العيب أن لا يعبأ قائل بما يقول، كأولئك الذين يزعمون أن القصيدة تكتبهم ولا يكتبونها، لا يُدركون شناعة أن ينطلق الشعرُ عن أفواههم أصواتاً سدىً، كالنقيق أو كالنعيق أو كالنهيق، لا إرادة ولا إدارة.
** ما رأيك بالحركة الأدبية بعد انتشار وسائل التواصل الإجتماعي السريعة؟ وكيف تستطيع أن تقيم الشاعر؟ وهل نحن بحاجة لترتيب الشعراء وفق درجات؟
·· الحركة التي في أوساطنا الثقافية الآن ليست أدبية، بل سياسية تجارية توجيهية غوغائية بنِسَبٍ متساوية، إرجِعي فيها البصر، فلن تجِدي أدباً وستجدين سياسةً تُنتج شذوذاً مُربِحاً، ثم ارجِعي البصر كرتين تعلَمي أن وسائل التواصل الإجتماعي يوشك أن تُنبت أشجاراً تثمر زنابير!
: أمّا تقييم شاعرٍ فأمرٌ لا ينبغي، لأن المجنون أكثر الناس إعجاباً بعقله، قرأتُ في التراث أن ابن عبّادٍ رتَّب الشعراء في كتاب، فلم يذكر للمتنبي في سواد كتابه سواداً قط! ووجدتُ في «الفيسبوك» من يقترح على زُهَيرٍ تعديل نصف بيتٍ من معلقته بنصف بيتٍ تصدَّق به عليه صاحب التعليق! وسمعتُ بأذُني من ينفي شاعرية أشهر ثلاثة شعراء في ثلاثة أزمان متقدمة، ويشيد بشعر «فلان» من المعاصرين، ولنقُل إبراهيم الأسود على سبيل المثال!
: وأمّا ترتيب الشعراء وفق درجات فلا غاية مُجديةً له، لأنه يُخشى أن يقتتل الشعراء على إحراز الدرجة الأولى، كما سيقتتل الناس على جبل من ذهبٍ يوشك أن يحسِرُ عنه الفرات.
**ماهي وظيفة الشعر في تصوركم؟ وهل مازالت القصيدة تحقق الحضور المطلوب منها؟
·· الشعر منذ زمن الخليفة المتوكل أُعفيَ من وظيفته، وأصبح
مكتَّفاً في قفَصٍ بين وصيفٍ وبُغا – يقول ما قالا له كما يقول الببَّغا
ولكونه ابن اللغة الخالدة فقد ورث عنها الخلود، غير أنه في زماننا هذا لم يعُد مؤهلاً لأن يقول ها أنَذا، وإنما يقول كان أبي.
وللجواب عن حضور القصيدة، احضُري أي أمسية ما في أي بلدٍ عربي ما، وستعلمين أو تتعلمين كل ما يتعلق بجَذْر المادَّةِ «حَضَرَ»، من حضور وإحضار واحتضار وحضارة وحضَرات، ومفردات أخرى بعضها ليست في معاجم اللغة.
ولو لم يكن للقصيدة حضور، لما كنت سأحضر «خائفاً» إلى فرع «الأمن» بعد ساعةٍ من إلقائي قصيدة [الرواية العصرية لمعلقة عمرو بن كلثوم التغلبيّ] وقد قلت فيها:
ملكنا كل أسباب المعالي – ولم نبلُغ كِعاب الأرذلينا
ويُرهبُنا الدجاجُ إذا يُقاقي – وفي الإرهاب نحن مصنَّفونا
سحقنا أنف أمْريكا جِهاراً – بهمَّةِ قادةٍ متأَمرِكينا
وكل الغربِ إن طاروا وحَطّوا – فهم بإزائنا متخلِّفونا
إذا هم أطلقوا قمَراً جديداً – إلى المريخِ، أطلقْنا الذقونا
وإن هم طوَّروا يوماً سلاحاً – دعوناهم إلى التجريب فينا
إلى آخر القصيدة، وهي طويلةٌ جِدّاً.
** ما هو تأثير الترجمة على الشعر العمودي من حيث الحفاظ على المعنى والجمالية؟
·· الترجمة من وإلى العربية الفصحى والعامية لا تؤدي المعنى أداءً صحيحاً، فكيف إذا كانت من لغة أخرى؛ وكيف إذا كانت في الشعر!
وأنا أُعجَب كثيراً بما يتسنّى لي قراءته لأدباء غربيين من أقوال مترجمة، مع العلم الأكيد أن من نقلها لم يُحِط ببلاغتها كما هي بِلُغَتها، ولكن هذا المعنى القليل الذي بقي فيها بعد «المرمطة» لا يقال له قليل.
وعلى السيرة، أظن أن أكثر من تأثر من الشعراء «إيجابياً» بالترجمة، هم بعض المتمكنين من بعض اللغات الأجنبية، حيث أضافوا إلى «ألبوماتهم الشعرية» شيئاً من الصور الغريبة عن ثقافتنا العربية، فحققوا بذلك لأنفسهم نوعاً خاصّاً من التميُّز والشهرة.
ولعل بعض شعراء الغرب لو اطَّلع على هذا الأمر، لقال كما قلت أنا:
السارقون لبعض أشعاري ارتقَوْا في غفلةٍ لمراتب الشعراءِ
مع أن «DNA» لدى التحليل لم يُثبت يقيناً أنهم أبنائي
** هل تعتقد أن النثر يمكن أن يصل إلى مستوى الشعر العمودي من حيث العمق و التأثير؟
·· إذا كنت تقصدين بالنثر القصة والخاطرة والنص المسرحي مثلاً، والتآليف في الآداب الأخرى غير الشعر، فيمكن جداً، ولنا في آثار ابن المقفع والجاحظ ودانتي وديستوفسكي ومصطفى صادق الرافعي أبلغ الحُجج.
وإذا أردتِ ما يُطلَق عليه «القصيدة النثرية» فلا يمكن أبداً؛ تأملي مجرد التسمية تجِدي أنها من لِفْقَيْـن غير متجانسين، فكلمة «قصيدة» وكلمة «نثرية» ينقض مفهوم إحداهما مفهوم الأخرى بديهياً، وقد يجوز في اللغة أن يقال أشقر أحمر، أو أخضر أسمر، ولا يجوز أن نقول أبيض أسود، ولا أن نقول شعرٌ نثر، فإمّا هذا وإمّا هذا، وإلا كان التعريف باطلاً، وكانت قضية المقارنة بين المستويَيْن ملغاةً من أساسها بالضرورة.
وإليك هذا المقطع النثري للرافعي: الإنسان من الهم في عمر دهرٍ لا يموت، ومن السرور في عمر لحظة تشب وتهرم وتموت في ساعات، والحي كأنه من هذه الدنيا فرخٌ في بيضة، ملئت به وخُتمت عليه، فلن يزيد فيها غير خالقها، وخالقها لن يزيد فيها.
فهذا ليس شعراً كما ترين، ولكنه استحوذ من البلاغة المشبعة بالجمال الإنشائي، على ما يجعله في مصاف الشعر، أو ربما أعلى مستوى.
** ما رأيك بالمسابقات الشعرية؟ وما مدى نزاهة لجان التحكيم؟ وماهو رأيك بالألقاب التي يتبناها الشعراء ويطلقونها على أنفسهم؟
·· أخصَرُ وأقصَرُ ما يقال عن المسابقات الشعرية، أنها مشاريع تجارية مشرعة لتحقيق أهدافٍ ربحية، وقد لا يكون السبب في انحطاطها هو مزاولة التجارة ونُشدان الربح، ولكن هو أن الوضعاء وضعوها في عهدة لجان تحكيم أكِفّاء غير أكْفاء، منزَّهين عن كل معنى من معاني النزاهة، ومن أين للكفيف أن يثبت كفاءته في ثقب اللؤلؤ وحَفِّهِ وصَفِّهِ!
هذا من بابة، ومن بابة أخرى: ليس في شعرائنا على تعدد دولهم من يستطيع الزعم أن أسياف قومه يقطرن من نجدةٍ دماً، سيكذبه ما جرى ويجري منذ غروب الخلافة العثمانية إلى شروق الطائفية المجوسية؛ وأيضاً ليس في لجان التحكيم مَن أهلُه لهم جفَنات، ليعلم الفرق بين أن يلمعن بالضحى وأن يبرقن بالدجى وأيهما أبلغ في الفخر.
أنا مع -ولست ضد- أن تقوم للشعر أسواق، وأن تقام فيها مسابقات، وأنا ضد -ولست مع- أن يُدفن [عكاظ وذو المجاز ومجَنَّة والمربد] في ركام العصور، بل حَبَّذا لو تُبعث من مراقدها تلك الأمجاد الغابرة فتعطي الحضارة نضارة؛ ولكن هيهات يُكَرِّر التاريخُ نفسَه، مادام يَقبض زمامَهُ (أميّون، لا يعلَمون الكتاب إلاّ أمانيَّ، وإن هم إلاّ يظنّون).
كل معطَيات واقعنا المؤسف تقول أنَّ هذه الضجَّة الفجَّة، ليست إلا تُرَّهات، وتجارة مخدرات، وهاك وهات؛ وتقول أنها مكيدةٌ لا تـُحَس، تعمل عملها في أمةٍ لا تُـحِس، فالظروف تقترح، والشاعر يغنّي، والحاكم يسكر، والجمهور يرقص، والحليمات الذوقية في اللسان العربي أصبحت معطلة، ولم يعُد لدى شاعرٍ حُلم أكبر من لقب «أمير الشعراء»، ولا نغمةٌ أجمل من عبارة «يا غلام أعطه ألف درهم» ولا متعةٌ ألذ من الراحة في شاطئ الراحة.
** من ترى من الشعراء في عصرنا يستحق لقب شاعر، وماهي صفات الشاعر الفذ؟ وهمسة منك في أذن الشعراء على كثرتهم؟
·· الشعراء الذين يستحقون لقب شاعر ماتوا بموت القرن المنصرم، آخرهم أبو ريشة في ١٩٩٠، والجواهري ٩٧، ونزار في ١٩٩٨؛ ولا أرى أنه نبغ بعدهم من يملك الكفاءة لحمل هذا اللقب، وإن كان لابد فأنصافٌ وأثلاثٌ وأرباع.
أما عن صفات الشاعر الفذ، فامتحني أنتِ هذه الكثرة الكاثرة، فمَن وجَدتِهِ يعرف المعاني الثلاثة لكلمة «فذ»، فهو الشاعر الفذ.
وهمستي إلى الشعراء: من أراد منكم أن يكون شاعراً حقيقياً، فليشحَن حافظته وليشحَذ موهبته، بقراءة عشرة كتب، قبل أن يفكر في كتابة عشرة أبيات.
** ما رأيك بمكانة المرأة العربية؟ هل نالت حقوقها أم أنها مازالت تعاني وينقصها الكثير؟ وهل أثبتت نفسها كشاعرة أم أنه مازلنا ضمن مصطلح أدب ذكوري وأدب نسائي؟
·· فيما يخص المرأة العربية أنا أشك في براءة السؤال.
فإن كنت تقصدين حقوقها الاجتماعية فهي لم تكن مقصورة عنها في حقبة من حقب التاريخ القديم، أذكري إن شئت بلقيس ملكة سبأ، إذا قال لها رجال قومها: (نحن أولو قوةٍ وأولو بأسٍ شديدٍ والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين)، واذكري زليخا امرأة العزيز وكم كانت تملك من الحرية حين قالت: (أنا راودته عن نفسه) ومن الجرأة التي لم يصادرها عليها أحدٌ حين قالت: (ولئن لم يفعل ما آمرُه ليُسجننَّ وليكونن من الصاغرين) ، وهلُمَّ نظراً في القرون الستة بعد المسيح، من الزبّاء بنت عمرو بن الظرِب وسطوتها بجذيمة الأبرش، إلى ماوية بنت عفزر التي طلقت حاتماً الطائي، إلى أم قرفة التي سار بها المثل في الشرق حتى قيل «أعز من أم قرفة»، وغير هاتيك من المخضرمات كالخنساء وهند بنت عتبة، اللواتي كان السلطان لهن وليس عليهن رغم الجاهلية، ثم جاء الإسلام فأعلى مكانة المرأة وعزز دورها في المجتمع، بدعم من القرآن العظيم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأنا أربأ بك أن تكوني قصدتِ مساواتهن للرجال في الميراث، أو في هبة أجسادهن، أو في شيءٍ من الحريات المنفلتة، التي لو تبنّاها عرف أو دين لكان من العقوق لا من الحقوق.
أما إذا كان المقصود هو الشعر خاصة، وتعنين أن هناك من ينظر إلى أن شعر الرجل أعلى جودةً من شعر المرأة، فتلك نظرةٌ ضحلة لا يقول بها ذو نظرٍ نافذ ولا يؤيدها المنطق، لأن معيار الجودة هو الإتقان والمهارة وليس الذكورة والأنوثة.
وهل سمعتِ أن أحداً غض من شأن جليلة بنت مُرَّة، أو تماضر بنت الشريد، أو ليلى الأخيلية، أو ليلى بنت طريف، أو علية بنت المهدي، أو ولادة بنت المستكفي؟ وحتى اليوم ما يزال لدينا شواعر هن في المواكب كالكواكب، ولا شك أن لكِ مثيلاتٍ مُثْلَياتٍ، نَثَرن فأعربن وشَعَرن فأطربن، تعرفينهن ويعرفهن كل من له حضور في الوسَط الأدبي.
** القصيدة لديك تحمل بعداً ذاتياً وبعداً وطنياً وبعداً إنسانياً، فهلاّ حدثتنا عن أبعاد قصائدك؟.
·· الأصلُ أن تُنسب «الأبعادُ» إلى النفس لا إلى القصيدة، فإذا نُسبت إلى القصيدة فمن قبيل الاستعارة ليس إلا، فالقصيدة هي وهَجُ النفس وليست النفسَ ذاتَها، من خلاياها تكون، وفي أعماقها تكمن، وعن حرارتها تنفصل، وإلى جَوِّها تتصاعد، فإذا استوت في سماء الشعور فبحسب إلقاح الريح الطارئة على النفس، إذا كانت رُخاءً كَوَّنت مطراً، وإذا جاءت عاصفاً تكوَّنت صاعقة، والحالة الأخيرة «لديَّ» هي الأغلب.
فقصيدي حرائقٌ أنشبَتها – في ضميري حُدَيْئَةٌ وسْطَ غابِ
ورصيدي تفجُّعٌ ورثاءٌ – وعويلٌ كبومةٍ في خرابِ
كلما قلتُ للقريحةِ جودي – خَرَّ جودي مُقَرِّحاً أهدابي
خذ يدي قبل غَطّةِ الموجِ إني – غارقٌ في خضمِّ بَرٍّ عُبابِ
في دُوارٍ في سكرةٍ في عَجاجٍ – في ضبابٍ في لـُجَّةٍ من ترابِ
لا فحيحُ الحيّاتِ يهدأُ في رأ – سي لأَهدا ولا عواء الذئابِ
هكذا تتردد أبعاد قصائدي -ككل قصائد الشعراء- بين باصرة المتلقي وبصيرته، تبدو ثلاثة وهي أربعة، بُعد ذاتيّ وبعد وطنيّ وبُعد إنسانيّ، وبُعدٌ خفيٌّ يُحَسُّ ولا يكاد يـُمَس، وهذا البعد الرابع ليس «الزمكاني» الذي تطرق إليه أينشتاين، ولكنه الذي لو سألتِه عنه فلربما قال لكِ: إنه استطاع أن يَعرِفَه ولكنه لم يستطع أن يُعَرِّفَه.
ولولا شيوع أن الناس اشتقّوا اسم الشعر من الشعور، مع أنني أراه اشتقاقاً قاصراً، لقلت إن البُعد الرابع للشعر هو «الشاعرية».
** هل هناك فارق بين شعراء المهجر والشعراء المقيمين في الوطن من حيث الإحساس و الشوق و الحنين والتأثر بكلمة (وطن)؟
·· شعراء المهجر ماتوا كلهم على حد علم الشعر، والزمرة الموجودون الآن «وأنا منهم» أَجْدِرْ بهم أن يُسَمَّوْا شعراء اللجوء، والفرق بين الفريقين، كالفرق بين المُهاجر والمُهَجَّر، فالمهجَّر مأخوذٌ بالجريض عن القريض، بينما المُهاجر في سَعَة ودَعَة كأنه بين طُوَيسٍ والغَريض.
وبالقياس، لا أظن أحدنا يبلغ من البلاغة شأوَ جبران خليل جبران حيث يقول في بعض تأملاته: [ليس أصعب من حياة المرأة، حين تجد نفسها واقفة بين رجل يحبها ورجلٍ تحبه].
ولا قولة ميخائيل نعيمة: [إن وراء كل هدفٍ تخطئونه، هدفاً آخر تدركونه إذا نفيتم عن قلوبكم الشعور بالخيبة].
ولا نبوءة إيليا أبوماضي، وهو يُحشرِج بمثل قعقعةِ البَرَدِ منصَـبّاً على هشيم البَرْدِيّ:
وطنٌ يضيق الحُرُّ ذرعاً عنده – وتراه بالأحرار ذرعاً أضيَقا
وحكومةٌ ما إن تُزحزح أحمقاً – عن رأسها، حتى تولّيَ أحمقا
بغدادُ في خطرٍ ومصرُ رهينةٌ – وغداً تنال يدُ المطامع جِلَّقا
** كلمة أخيرة تحب أن توجهها للقراء؟
·· أحب أن أعتذر عن كلمات وردت في السياق، مثل «أنا أرى» و «أنا أقول» و عبارات فيها «انتقاد للعصر» و «استقلال لجيد الشعر» وأشياء من هذا القبيل؛ مع إتاحة [الاحتفاظ بحق الرد] للقراء الكرام، على آراء قد لا يتفق معها الأكثرون.