آفاق حرة
حاورته / نوار الشاطر
ضيفي اليوم شخصية استثنائية للغاية فللروح حضور آسر في حنايا كلماته ، وللمعاني عمق خلاب يأخذك إلى أقاصي الحقيقة لتغوص في جواهر الفكر والأدب ،
تراه شاعراً تتدفق المشاعر في قصائده برقة وعذوبة ،
وتراه مفكراً يخاطب في فكره الإنسانية الواعية ويستنهضها لترتقي نحو السمو ،
وتراه أديباً في رواياته يصور معاناة شعب اغتصبت أرضه ومازالت الجراح فيه تنزف كل يوم ،
هو مناضل حقيقي لم يكسره الأسر ولم يثني عزيمته أبداً ،
عندما تقرأ له تشعر أنه حر حر حر وأنك ربما سجين نفسك ،
فالحرية الحقيقية أن يكون داخلك حر من أي قيد ،
هو شعلة أدبية فكرية ثورية ، ويعتبر من رواد أدب المقاومة في هذا العصر .
هو الكاتب والمفكر والشاعر الروائي كميل أبو حنيش المحكوم بالمؤبد تسع مرات ، الأسير منذ ١٧ عاماً .
-كميل ولد نابلس عام 1975 حاصل على بكالوريوس بالاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة النجاح الوطنية ، حاصل على ماجستير في الدراسات الإقليمية والإسرائيلية من جامعة القدس أبو ديس حيث أكمل دراسته داخل السجون الإسرائيلية .
الكتابة والشعر هوايته منذ الصغر وتم تطوير هذه الهواية في داخل سجون الاحتلال ، كما أنه يشغل منصب مسؤول فرع الجبهة الشعبية داخل سجون الاحتلال وأحد قيادي الحركة الأسيرة.
صدر له رواية خبر عاجل رواية بشائر رواية وجع بلا قرار رواية الكبسولة ، كما له عدة مؤلفات قيد الطباعة كتاب (جدلية الزمان والمكان في الشعر العربي ) ، رواية (أرض السماء )
و ديواني شعر (على شاكلة الفجر ) و ( مناخات ماطرة )
-من داخل السجون الاسرائيلية يطل علينا الكاتب كميل أبو حنيش في هذا الحوار الخاص والشيق جداً :
• كيف يُقّدم الأستاذ كميل أبو حنيش نفسه للقارئ العربي؟
_ كميل ينتمي إلى قضية شعبه وكفاحه الطويل، هويته الشخصية أجدها بمسمى مناضل، وعلى هامش الحياة النضالية أجد نفسي متعلماً وقارئاً وكاتباً، وهي تتقاطع بالضرورة مع هويتي كمناضل، أما عن وصفي كاتب أو روائي فأنا لم أهوى يوماً هذه الصفات، ولم يدر بخلدي يوماً أنني سأصير شاعراً أو كاتباً، مثلما أسلفت فإنني أجد في الكتابة مهمة نضالية وشكلاً من أشكال المقاومة.
• تعرضت لعدة محاولات اغتيال و حكم عليك بالمؤبد ٩ مرات هلا حدثتنا عن تجربتك النضالية؟
– لا أجد في تجربتي النضالية استثناءً عن حالة شعبي الثائر الذي يواجه غزوة استعمارية صهيونية منذ أكثر من قرن، فقد تفتحت عيناي على معاناة شعبي تحت الاحتلال، وتفتح وعيي الوطني منذ الانتفاضة الأولى عام 1987 وكنت حينها في الثانية عشر من عمري، وشاركت أسوة بأبناء جيلي وعموم الشعب بفعالياتها وأنشطتها المقاومة طوال سبع سنوات. لقد كانت الانتفاضة حدثاً ثورياً وشعبياً جارفاً، شكّل قطعاً مع مرحلة السجود والرضوخ لسياسات الاحتلال وممارساته، كبرنا معها وساهمت في إنضاجنا وتثقيفنا وصقل شخصياتنا في سن يافع قبل أن تأتي مرحلة أوسلو التي شكّلت صدمة لجيلنا الذي لم يستوعب هذا التحول من فكر المقاومة والانتفاضة إلى فكر التسوية والسلام، وطوال سبع سنوات عجاف من عمر التسوية تراجعت الأوضاع وبات الهم الذاتي هو المحرك للغالبية العظمى، وفي تلك المرحلة وجدت نفسي منخرطاً في النشاط الطلابي بالجامعات حيث تداخل النضال الطلابي مع النضال الديمقراطي والسياسي ضد ممارسات السلطة مع النضال الوطني واستحقاقات التصدي لممارسات الاحتلال إلى أن اندلعت الانتفاضة الثانية التي انخرطت في أنشطتها المسلحة منذ الأيام الأولى، واعتقلت مدة ثلاث سنوات على أيدي قوات الاحتلال وتعرضت لعدد من محاولات الاغتيال، وخلال هذه المرحلة اعتقل كافة أشقائي وهدم منزلي، وخلال هذه الانتفاضة فقدت على المستوى الشخصي عدد من الأصدقاء شهداء في الميدان، إلى أن تمكنت قوات الاحتلال من اعتقالي عام 2003، وحُكم عليّ بالحكم المؤبد عدة مرات، وأجد نفسي في ساحة جديدة من ساحات النضال. ومن عاش تجربة السجن الطويلة يعرف مدى تعقيدات هذه الساحة وكثافاتها، بدءاً بتطوير الذات وتصويبها لتتمكن من الصمود ومروراً بتنظيم ساحات السجون وما تنطوي عليه من إشكاليات وتناقضات وخلافات وليس انتهاءً بمواجهة إجراءات السجان اليومية الذي يحاول إفراغنا من محتوانا الإنساني والوطني وكي وعينا وكسر إرادتنا، الأمر الذي يستدعي منا التحفز الدائم للمواجهة وابتكار أدوات وأساليب نضالية تتوافق مع شروط النضال الاعتقالية من تنظيم وتعبئة وتثقيف واضرابات عن الطعام. هذه باختصار تجربتي النضالية حيث أجد نفسي مشتبكاً على الدوام، وعلى هامش الاشتباك أعثر على مساحة للقراءة والكتابة والتي أجدها جزءاً لا يتجزأ من العملية النضالية.
• ما هو وضع الأسرى في السجون؟ وما هو دور الأمم المتحدة والمؤسسات الحقوقية؟ وفعاليتها في حماية الأسرى الفلسطينين في سجون الاحتلال الاسرائيلي ؟
– أوضاع الأسرى في السجون هي ذات الأوضاع التي يعيشها شعبنا تحت الاحتلال، وميدان السجن له ظروفه الخاصة والمعاناة، ومنذ أكثر من عشر سنوات يتعرض الأسرى لسياسة تنكيل دائمة وأداة دائمة للتحريض السياسي والمزايدات الحزبية والانتخابية. وفي إطار الاستعداد للانتخابات العامة في دولة الكيان هذه الأيام فإن الهجمة تزداد شراسة ضد الأسرى لقضم المزيد من الحقوق التي يمكن وصفها بأنها اقل من شروط الحد الأدنى للحياة الإنسانية، وحالياً نخوض مواجهة مع السجان بعد تركيبه لأجهزة تشويش تنبعث منها اشعاعات تترك أثرها على صحة الأسير بذريعة التشويش على أجهزة الهواتف الخلوية التي تدعّي مصلحة السجون وجودها، لكن الأخطر هو التلويح بمزيد من العقوبات التي تستهدف حقوقنا الإنسانية من تقليص الزيارات العائلية، ومواد الكانتينا والفورة وغيرها .
أما عن المؤسسات الدولية فهي لا تبالي بأوضاعنا ويوجد تقصير حقيقي في إيصال صوتنا لهذه المؤسسات ولا يوجد ضغط حقيقي للجم سياسات إدارة مصلحة السجون، ومن ورائها سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.
• كيف أثرت تجربتك النضالية على فكرك وكتاباتك وأدبك ؟
– المناضل ليس مجرد مقاتل يحمل السلاح فحسب، بل هو يحمل فكراً ثورياً، ولو لم يعتنق فكرة تُشكّل سلاحاً له لما كان بوسعه المقاومة والصمود لأن دروب النضال طويلة ومتعبة وموجعة وشائكة ويتعين العمل باستمرار على تعزيز الذات وشحنها فالمناضل إنسان في نهاية المطاف يمر بالمتاعب والخيبات والاحباطات وربما تحوّلات وانهيارات وتراجع وتباكي على سنواتنا الضائعة، ولا سبيل أمامنا لنا في هذه الحالة سوى الصمود والتسلح بالمبادئ والقيم والأحلام، ومجرد أن تصل إلى هذه الحالة تكون قد تجاوزت حالة الهزيمة الذاتية واحتفظت بمعانٍ وقيمٍ إنسانية ونضالية، فسنوات الأسر الطويلة تطور لدى الأسير احساساً عميقاً بالزمن والتاريخ، ويجد نفسه على تماسٍ مع قيم وجودية ومعاني نضالية وظلم إنساني تخلق لديه تعاطفاً وانتماءً لكل القضايا الإنسانية العادلة، وفضاءات جديدة تتجاوز إطار العائلة والبلدة والحزب والوطنية والقومية والدين والمذهب، ويجد المناضل نفسه يُحلق في فضاءٍ أرحب. وهذا لا يعني الانسلاخ عن هويته وقضيته بل يشعر أنه جزء من نضال إنساني عالمي، وأنه امتداد لكل المناضلين والثوريين في التاريخ وينحاز إلى كافة القضايا العادلة، ولأن المناضل يتبنى موقفاً ثورياً من التاريخ والحاضر والمستقبل يجب أن ينعكس هذا الموقف في كتاباته إذا كان كاتباً وفي أدبه إذا كان أديباً، والأدب والفكر ليس منفصلاً عن الواقع بل يجب أن ينعكس مع هذا الواقع، لذلك أجد نفسي منسجماً مع هويتي الفكرية والنضالية، وينعكس ذلك في كتاباتي.
•الكلمة هي الضوء وسط العتمة …ماذا عن كتاباتك داخل السجون؟ وكيف ترى كتاباتك خارج السجون؟
الكتابة بالنسبة للأسير تُشكّل متنفساً مهماً تُعبّر عما يجوس في داخله وهو يواجه قسوة الأسر والحرمان من الحياة الطبيعية، وبهذا فإن الكتابة التي اصطلح على تسميتها أدب السجون لها سماتها الخاصة، كما يحدثه واقع الأسر من تفاعل في أعماق الأسير وتترك أثرها على أحاسيسه ومشاعره وبالتالي لغته الأدبية. كما أن الأسير بوصفه مناضلاً يرغب بالتفاعل مع القضايا الملحة على الساحة الوطنية ويجد من واجبه أن يكتب ويتفاعل. على صعيدي الشخصي أخصص يومياً ساعتين أو ثلاثة للكتابة تشمل قضايا خاصة بالأسر من تقارير ورسائل ونشرات وإعداد جلسات ثقافية، أما الكتابات الخاصة المتعلقة بالإبداعات الأدبية والثقافية والبحثية والسياسية فلها مساحة هي أيضاً من وقتي، وقد أصدرت حتى الآن أربعة روايات وكتاب عن تجربة السجون ولدي أيضاً بضعة إصدارات أدبية وشعرية وسياسية قيد الطباعة، فضلاً عن المقالات السياسية والدراسات وقصائد الشعر، وهذا عدا عن بعض الكتابات التي صادرها السجان طوال السنوات.
الكتابة تمثل لي متنفساً وحاجة إنسانية في قلبِ عالمٍ مغلقٍ كالأسرِ، وأيضاً مواجهة نضالية للتفاعل مع القضايا والتطورات السياسية، فالقلم والثقافة هي سلاح في عالم الأسر، وكي تكون كاتباً جيداً عليك أن تكون قارئاً جيداً، وهذه الحياة الثقافية تُشكّل مكتباً للأسير الذي يسعى إلى تحويل قصته في السجن لمراكمة المزيد من المكاسب على هذا الصعيد.
أما كيف ترى هذه الكتابة، فهي إحدى أهم الهواجس الخاصة إذا كان كاتباً فهو يخشى على كتاباته من الضياع والمصادرة أثناء التفتيشات، ولهذا نحرص على ابتكار وسائل لإخراجها خارج أسوار السجون، إما من خلال الأسرى المحررين الذين في بعض الأحيان تجري مصادرة ما في حوزتهم من كتابات عند تحررهم، وإما من خلال الرسائل الصغيرة، ففي السنوات الأخيرة أصبح بوسعنا إخراجها إلى النور من خلال وسائل حديثة مع أن هذه الإمكانيات غير متوفرة بشكل دائم وتواجه تحديات ومعيقات في الآونة الأخيرة خاصة بعد قرار إدارة مصلحة السجون بتركيب أجهزة تشويش متطورة في السجون.
• ما دور العائلة في حياتك الأدبية، وخاصة شقيقك الأستاذ كمال الذي يتولى نشر ومتابعة كتاباتك ؟
– العائلة وما تمثله للإنسان لاسيما إذا كان أسيراً يفتقد للحياة الطبيعية تُشكّل مسألة حساسة وعاطفية ووجدانية، على صعيدي أفخر بعائلتي التي شكّلت حاضنة معنوية وعاطفية تركت أثرها البارز على نفسي وصقلت شخصيتي، أبدأ بالجدة التي كان لها تأثيراً كبيراً عليّ وإذا كان لي نصيب من الإبداع فالفضل الأول يعود إليها، فقد كان لحكاياتها وقصصها الشعبية التي كانت تقصه عليّ في طفولتي أثراً بالغاً في تطوير ملكاتي الأدبية، وكذلك الأم والأب وبساطة الحياة والعلاقات العائلية وفرت لي مناخاً نفسياً وعاطفياً، والأشقاء والصديقات وروح التضامن والتعاون فيما بينهم كان لها دور في التشجيع والإسناد. وأخص بالذكر شقيقي كمال الذي يتولى بمبادرة وإصرار متابعة كتاباتي ونشرها لترى النور.
كما يجدر بي أن أذكر الابنة العزيزة صفا التي ظهرت في حياتي قبل أقل من عام، فصفا فتاة سورية في العشرينات الأولى من عمرها والتي عانت من مأساة الحرب السورية، وفقدت جزءاً من عائلتها وحالياً تعيش حياة التشرد واللجوء في تركيا. فتلك الفتاة كانت تتابع كتاباتي وتراسلني وأحبت أن أكون أباً لها، فكان لهذه المبادرة تأثيراً بالغاً في قلبي ووجداني، وكان دخولها إلى حياتي هو الحدث الأبرز لي في سنوات الأسر، تراسلنا وتحادثنا ولامست أنها تتعامل معي كأب وأنا أشعر فعلاً أنها ابنتي، فقد حجزت صفا مساحة كبيرة ومشتركة بيني وبينها في اللغة الأدب والشعر، أحببتها وأحببت اسمها وتعاطفت مع مأساتها وأعُجبت بإرادة الحياة فيها وهي تصر عن مواصلة حياتها وتعليمها رغم قسوة ظروفها، وأتخيل أنها أول قارئ يقرأ كتاباتي، فقد أحسست أن اسمها يتعلق بفؤادي وكانت أشبه بالشمس التي أشرقت في عتمة زنزانتي، وأوجه لكم من خلالها تحياتي وأشواقي وآمل لها من كل قلبي التوفيق والنجاح والعودة إلى ربوع بلدها سوريا بعد أن يعود إليها الاستقرار والعزة والكرامة والحرية.
• صدر لك عدة روايات ودواوين شعرية وكتابات أخرى أين تجد نفسك أكثر ككاتب ؟
– مع إنني أكتب في مواضيع متنوعة تتناول الأدب والسياسة والثقافة والدراسة والشعر لا أدري إن كان هذا التنوع في مجال الكتابة يُعد ميزةً أم نقيصةً إلا أنني أحبذ الكتابة أكثر في المجال الأدبي، فالتنوع في الكتابات يعكس التنوع في القراءات، أحببت الأدب كثيراً لأنه يلامس بقعةً حساسة في داخلي، ولأنه يعكس عالماً داخلياً كبشر، ويُعبّر عما يجوش بداخلنا، كما أنني أحب الشعر وأحفظ آلافاً من الأبيات والنصوص الشعرية والأدبية، ولي دراسة مطولة في هذا الشأن لم تصدر بعد، إضافةً لدراسات أدبية أخرى وعشرات القصائد الشعرية والمقالات الأدبية، ومع ذلك أقول بصراحة أنه لا تستهويني الألقاب على شاكلة “روائي وشاعر وكتاب ومثقف” وغيرها من مسميات.
• تعتبر روايتي “وجع بلا قرار” و”الكبسولة” من المفاصل الحقيقة في أدب المقاومة والذي نفتقد وجوده على الساحة الأدبية المعاصرة ،حدثنا عنهما ؟
-رواية ” وجع بلا قرار” هي الرواية الثالثة لاقت آذاناً عند القارئ مع أنها لم تنشر خارج حدود فلسطين بعد، فهذه الرواية ليست من محض الخيال وإنما تعكس حكايات واقعية حدثت ولا زالت تحدث في الأسر، وهذه الرواية منحازة للمرأة تحديداً وقد حاولت من خلالها معالجة إشكالية حقيقية ربما لم تحظى بالاهتمام الكافي، فالأسير يجري التعامل معه كبطل وأسطورة ولذلك أنا ركزت في الرواية على أنه انسان عادي يعيش لحظات انكسار وضعف وإحباط. أما القضية التي حاولت إبرازها تتعلق بالمرأة كزوجة أو خطيبة أو حبيبة للأسير وهي تمضي عمرها انتظاراً وتقاوم كل الرغبات والاغراءات والحياة وشوقها لزوجها أو حبيبها معلنةً عن وفاء استثنائي يعبر عن اصالة المرأة الفلسطينية وثوريتها، فهذا النموذج الحقيقي وليس خيالي، فثمة زوجات أو حبيبات ينتظرن لسنوات طويلة تجاوزت ثلاثين عاماً في بعض الحالات. ففي الوقت الذي يجري التركيز على الأسير وامتداح صموده وصبره وبطولاته لا نجد من يكتب عن هؤلاء النسوة، ويتحدث عن معاناتهن فكانت ” أنهار” بطلة الرواية تعكس شخصية الفتاة والمرأة المبدئية والعاشقة والثورية التي لا تقل بطولة عن الأسير، وانتهت حياتها بالموت جراء المرض العضال وأخفت خبر مرضها عن حبيبها كي لا تفجعه، وفضلت الموت صمتاً.
أما رواية ” الكبسولة” فالاسم هو جزء من تاريخ وثقافة السجون، و”الكبسولة” هي رسالة مكتوبة بخط صغير جداً على ورق شفاف ورقيق يجري لفها بعناية وتغليفها بمادة بلاستيكية حتى تصبح بحجم حبة الدواء، ولهذا سميت ” الكبسولة” ومنذ أكثر من خمسين عاماً منذ بداية تشكيل الحركة الأسيرة لعبت ” الكبسولة” دوراً مهماً في المراسلة بين السجون وفي الخارج، ومن خلال هذا النوع من الرسائل حملت كتب ونشرات ومواد تنظيمية وأمنية وتعبوية بين السجون، وجرى التنسيق للإضرابات والأنشطة وتبادل الآراء. وبوسعنا القول أن “الكبسولة” كانت إحدى الأدوات والمواد التي ساهمت في بناء ثقافة الأسر، فالكبسولة التي تنقلت بين السجون. وأنا كنت من الذين عايشوا هذه التجربة، وخاصة الرسائل التنظيمية والحزبية والأمنية التي كنا نتلقاها أو نرسلها، وباتت هذه القضية هي جزء لا يتجزأ من داخل الأسر، وقد تراجع دور ” الكبسولة” في السنوات الأخيرة لصالح الرسائل العادية، وأدوات الاتصال الحديثة. ومن هنا جاء لي الإلهام حول هذه الرواية، وكأنني أدافع عن مرحلة مهمة في حياة الأسر.
أما عن مضمون الرواية فهي تروي حكاية كبسولة خرجت من السجن وضاعت، وأنفق صاحبها أربعين عاماً بحثاً عنها، وهي تروي أيضاً مسألة مهمة من تاريخ الثورة الفلسطينية، وهي معززة بالنصوص الشعرية ولغة شعرية، وتتضمن بعض المسائل الفانتازية الحالمة، كما أنها تدرج هاجساً إنسانياً ووجودياً يرتبط بمعنى الحياة ولغز الانبعاث، ومن المفترض أن يجري طباعتها طبعة ثانية في الفترة القريبة القادمة.
• الكتابة رئة ثالثة ، وشيء من الحياة ..كميل أبو حنيش … لمن يكتب؟ ولمِ يكتب ؟
– بالطبع أكتب للناس، أكتب محاولة لتأريخ ووصف تجربة وجودنا بالسجون، فنحن كأسرى في السجون الصهيونية نعيش تجربة إنسانية استثنائية مكتظة بكل ألوان الوجع والمعاناة، ونواجه عدواً يستهدف إرادتنا ووعينا. نحن نكتب ليكون كل من يهمه أمرنا على تماسٍ من حكاياتنا وأوضاعنا ومعاناتنا، أكتب لأن الكتابة هي أمر إنساني وحضاري ونضالي، وهناك آلاف الحكايات والتجارب والأحداث ولدت بين جدران السجون، وهي أحداث وتجارب درامية بكل المقاييس، ومع الأسف تظل شفوية مع الوقت يطويها النسيان، وقد درجت على إعادة تشجيع الأسرى على الكتابة، وأن يرووا حكاياتهم وتجاربهم الشخصية، وحكايات الحب والأوجاع لأننا شعب يجب أن يؤرخ حكاية كفاحه ومعاناته، ولهذا أجد من واجبي الكتابة كمناضل وإنسان، أما العامل الآخر الذي يحثني على الكتابة فيتعلق بالسجان ومحاولاته الدؤوبة وسياساته المصممة بعناية لاستهداف وعينا وتحطيمنا وتحويلنا إلى مختبرات لتجاربه في استدخال الهزيمة إلى أعماقنا، وتصويرنا بأننا مجرد قتلة وإرهابيين نصل إلى حالة الندم والتباكي وطلب الغفران من الجلاد، وفي هذا الإطار فإن الكتابة تعتبر شكلُ من أشكال الدفاع عن الذات ومواجهة إجراءات السجان وسياساته المتواصلة.
•صدر لك كتاب ” التجربة التنظيمية والاعتقالية” الذي نقل تجربة حية لواقع السجون ، أخبرنا عنه ؟
– هذا الكتاب كتبته باشتراك مع رفيقي ورفيق دربي الأسير وائل الجاغوب، وهو يروي تجربة الجبهة الشعبية داخل السجون في السنوات العشر الأخيرة، بعد أن قمنا بتشكيل منظمة الجبهة بالسجون وانتخاب قيادة موحدة، وهي خطوة كانت رداً على واقع الانقسام والشرذمة والتي حاولت أن تكرسه مصلحة السجون كواقع بديل عن الوحدة والتلاحم.
وقد كلفتنا هذه الخطوة غالياً نجم عنها هجمة ضدنا وفرض عقوبات علينا كالعزل والزنازين والتنقلات والحرمان من الزيارات، واحتجنا لخوض أربعة إضرابات طويلة عن الطعام حتى انتصرنا وتمكنا من فرض هذه الحالة المنظمة.
ويسجل الكتاب هذه التجربة من ناحيتين التنظيمية والاعتقالية، فمن الناحية التنظيمية يسجل الكتاب طريقة أدائنا ومؤسساتنا وهيئاتنا وآليات عملنا التنظيمية.
أما من الناحية الاعتقالية فيسجل الكتاب كيفية إدارتنا لمعاركنا مع السجان وتجاربنا مع إجراءات وتكتيكات مواجهة إجراءات هذا السجان.
• ختاماً أشكرك على هذا الحوار الراقي ، وأترك الكلمة الأخيرة لك ؟
– ما أود قوله بالختام هو ضرورة الاهتمام بالأسير الفلسطيني، وهي دعوة للإعلام العربي والسينما والنخب الأدبية والثقافية والسياسية في إيلاء الاهتمام بقضية الأسير الفلسطيني بوصفها تعكس حالة نضالية وإنسانية وسياسية وأخلاقية مميزة ومشرفة، وأيضاً الاهتمام بإبداعات الأسير الثقافية والأدبية، والسعي لدعمها، وتسليط الضوء عليها من كافة الزوايا، فثمة أسرى شارفوا على إنهاء أربعة عقود في الأسير، وثمة أسرى يترجلون شهداء كان آخرهم الشهيد فارس بارود، ولدينا حالات ثقافية وأدبية مبدعة، وحالات إنسانية كالمرضى وكبار السن والأطفال والنساء وهو ما يستوجب دراسة للقضايا وتسليط الضوء عليها.