يحمل عنوان قصيدة محمد صوالحة “راحيل” إيحاءً دينيًا وتاريخيًا عميقًا، إذ يستدعي شخصية راحيل، زوجة النبي يعقوب وأم النبي يوسف عليهما السلام، تلك الأم التي خُلِّدت في النصوص المقدسة بوصفها رمزًا للفقد والألم. منذ الوهلة الأولى يضعنا العنوان أمام فضاء أمومي مكلوم، حيث تتحول صرخة الأم القديمة إلى نداء يتجاوز الزمن، ليصبح مرآةً لوجع إنساني متكرر.
يفتتح الشاعر نصه بنداء يفيض حزنًا: “وإذ تنادي راحيل غائبها بني لا تعد”، فتتجلى مفارقة مؤلمة؛ فالأم التي عادةً تنتظر عودة ولدها وتتشبث بكل خيط أمل، هي هنا تأمره ألا يعود. إنه انقلاب على المألوف يشي بخراب داخلي جعل العودة بلا جدوى. تتوالى الصور التي تكشف حجم هذا الخراب: “فأرض الروح احترقت”، “البصر من عينيّ فُقد”، “الشوق أنهك قلبي وأذبل مني الجسد”. جميعها عبارات قصيرة، مكثفة، كأنها شهقات متقطعة لأم بلغت أقصى حدود الألم.
لغة النص محكومة بمعجم ناري قوامه الاحتراق والاشتعال والانطفاء: احترقت، اتقد، اشتعل، انطفأ. يقابله معجم الفقد والانكسار: فُقد، أنهك، أذبل، هشّ. هذا التناوب يرسّخ ثنائية الحياة والموت، النور والظلام، الشوق واللاجدوى. الأفعال الماضية تمنح الحدث صبغة حتمية، بينما الجمل القصيرة المتلاحقة تعكس توتر اللحظة وانقطاع الأنفاس. حتى البنية النحوية تترجم هذا التوتر؛ فالجملة “البصر من عينيّ فُقد” تحمل وقعًا دراميًا، وإن كان يمكن إعادة ترتيبها إلى “فُقد البصر من عينيّ” لمزيد من السلاسة، كما تحتاج عبارة “حتى صار هشا” إلى ضبطٍ صرفي لتصبح “حتى صار هشًّا”.
على مستوى البلاغة تتكاثف الاستعارات لتصوير الانهيار الداخلي: الروح أرض قابلة للاحتراق، والشوق قوة مادية تنهك القلب وتذبل الجسد. ويبلغ التصوير ذروته في التشبيه الفلسفي الختامي: “الشوق كالإحساس إن انطفأ لا يتقد”، وهو حكم يائس يحسم المعنى ويقفل النص على استحالة استعادة ما فقد. يضاعف التكرار دوره في تأكيد هذا الإحساس؛ فعبارة “لا تعد” المترددة مرتين تحفر في أذن القارئ وتمنح النص إيقاعًا داخليًا يوازي إيقاع لهاث الأم المكلومة.
هكذا تشكّل “راحيل” لوحة شعرية مكثفة تدمج بين المرجعية الدينية والوجع الإنساني، وتعيد إلى الذاكرة صرخة الأم الأولى في قصة يوسف، لتصبح رمزًا لكل أمّ مفجوعة عبر العصور. بلغة مقتضبة وصور موحية بالنار والخراب، ينجح النص في نقل لحظة انطفاء الشوق بعد طول انتظار، مؤكّدًا أن بعض الجراح لا يبرأ ولا يقبل عودة، لأن ما احترق في الروح لا يتقد من جديد.
تتكرّرُ صورةُ راحيل في أيامنا هذه بوجهٍ أشدَّ قسوةً من زمن أمِّ يوسف؛ فراحيلُ الأولى كانتْ تملكُ بصيصَ أملٍ في عودة يوسف، وربما نادته في زمن القحط وطلبتْ منه ألّا يعود، ولها زوجٌ يعلم من أمر الله ما لا نعلم. أمّا راحيلُ الحاضرة فتناجي يوسفَها وهي على يقينٍ قاسٍ بأن عودته لن تكون، فغيابُه سلامٌ قدريٌّ لا فكاك منه، وصمتٌ طويلٌ يحرسه الموت.
فماذا ترجوه أمٌّ في غزّة من عودة ابنها المهاجر، إن عاد، سوى غيابٍ يتجدّد، ولقاءٍ مؤجَّلٍ لا يجيء؟ وماذا ترجوه أمٌّ في لبنان، وقد عرفتْ أن الانتظارَ موتٌ آخر، وأنَّ الغيابَ قدرٌ لا يُرَدّ، وأنّ القلوبَ التي تحترق بالشوق لا يُطفئها سوى اليقين بأن الحبيب لن يعود؟
_
راحيل
*** محمد صوالحة
وإذ تنادي راحيلُ غائبَها:
بُنيَّ، لا تعدْ،
فأرضُ الروحِ احترقتْ،
والبصرُ من عينيَّ فُقِدْ،
والشوقُ أنهكَ قلبي،
وأذبلَ منّي الجسدْ.
لا تعدْ،
فقلبي لرؤياكَ اتّقدْ،
وشوقي اشتعلَ
حتى صار هشًّا،
وغابَ كالسرابِ،
والشوقُ كالإحساسِ
إن انطفأ لا يتّقدْ.