قراءة في لسانيات النص
بقلم: د . منال الشربيني
تم عرض تلك الورقة النقدية على منصة نقابة الصحفيين يوم الاحد الموافق 29/9/2019
شغلني العنوان كثيرا ففررت إلى النصوص علني أجد على الحرف متكأ أو آتيكم منها بخبر. فالعنوان مفتتح النصوص، والنص مفتتح الدلالة والتأويل حيث يحمل النص، تلك الإشكالية التي شغلت الكثير من النقاد علماء اللغة واللسانيين عبر تاريخ النص، الكثير من السمات الدلالية التي تفتح للتأويل آفاقا عريضة. فتغوص فيما وراء المعنى بارا لينجويستك، وفي علم نفس المعنى السيكولينجويستك حيث تلعب العوامل النفسية والمرجعية الثقافية في إخراج النص من وعي/ لا وعي/ خبرات الكاتب، وهنا تبرز سمات المتكلم في أقواله، عباراته وما تحمل لغته من معنى بعينه ومعنى أسرت لنا بها أقواله/ لغته/ إشاراته وعلاماته/ مفرداته وألفاظه ومرجعيته المعرفية لكي تصيغ نصا ينطوي على مضمون يسمح بخلق نوع من التواصل بينه وبين المتلقي/ المتفاعل، أو غير المتفاعل/ كل بحسب عمق تجربته ومرجعيته المعرفية والثقافية/ المجتمعية التاريخية أو ضحالتها.
ومن هنا، هذا ولوج إلى عالم” نصوص من الوادي المقدس طوى” حيث لعب النص هنا دور البطولة المطلقة سواء في مضمونه الرمزي، الإيحائي، النفسي، المرجعي أو في كلماته/ “العلامات” كما يسميها فردناند دو سوسير، أو في تناصه ( نظرية التناص / جوليا كريستيفا) مع نصوص أخرى/ المقدس/ الموروث في عمومه التاريخي منه والحضاري والإنساني، في تداخل مبرر و دلالات ربطت العقلاني بالروحاني، ولعبت فيها البراجماتية دورا مهما في تضفير الدلالات العقلية في سبيل الوصول إلى نص مفتوح الدلالة يثير لدى القاريء الواعي والمتفاعل العديد من التساؤلات، ويحفز فيه ” اقرأ” بكل ما يحمله فعل اقرأ من دلالات تشمل في معظمها فعل التحدث و الاستماع والفهم والتأويل والكتابة/ رد الحجة بالحجة.
لماذا الوادي المقدس طوى؟ تلك العبارة التي تحمل دلالة مكانية وزمانية ونفسية وتاريخية ودينية كما تحمل دلالة الخروج/ الدخول في عين اليقين/ رحلة موسى من مدين ورؤيته للنار/ العُلِّيقة، ونداء الله له وكلامه له والتوجه إلى مصر حاملا سر النبوة ومعجزاتها، ودخول مصر ليخرج إلى/ على فرعون بإذن الله، ليخرجه من الظلمات إلى النور، ولكي يخرج ببني إسرائيل/ يعقوب وينتشلهم من الاضطهاد الذي كانوا قد تعرضوا له طويلا بها، ليخرجهم/ خروج نجاة، ويتبعه فرعون بجنوده/ خروج ثأر، حيث خرج موسى من البحر/ خروج انتصار على الباطل، ثم خروج فرعون وجنوده/ خروج لاعودة/ خروجا إلى الهزيمة والعار/ وخروج من رحمة الله. إذن يحملنا العنوان معه إلى رحلة الخروج/ العودة، الخروج/ الرجوع/ الخروج/ الإنابة/ الخروج/ التحول عن وجهة إلى عكسها، الخروج/ الرفض/ الخروج، العصيان لترصد حوارا بين الله ونبيه موسى، وتجليا من الله على الجبل.
ومن المهم هنا أن نعرف بكاتب نصوص من الوادي المقدس طوى، فهو كاتب له أسلوب يضرب عميقا في عالم الصوفية بما له من روحانيات وأحوال، يسلك فيها سبل السالكين إلى الحق والخير والجمال, وهو ذو باع طويل في صناعة السياق وتطويع اللغة ودلالاتها المختلفة ضمن وهي سمات أسلوبية اتسمت بها نصوص الكاتب خاصة في كتابيه السابقين” بين الدين المنزل والدين المبدل” و” وجودك ذنب”، وهي ميزة تحسب له حيث لا يحتاج االقاريء لنصوص هزاع لأن يرى اسمه على النص فقد اتسم أسلوبه بالغوص في مفردات وصفات الصوفية، فنحن نراه دوما وقد خرج من عالمنا ليغوص في علم اليقين، رغم رجوعه من آن لآخر ليمنحنا رموزا تعكس العقلانية البحتة في دلالاتها. وهكذا، عرفناه دائم الخروج من خروج إلى خروج بحثا عن دخول في آخر خيط للغيم ليعبر إلى عالم ال” هو” حيث الخروج الكبير.
وفي سعيه الدائم إلى أن يقدم لنا نصا يغوص في دلالاته إلى ما وراء اللغة metalinguistic، حيث التناص textuality، نرى الكاتب يحملنا دوما من المقدس إلى المقدس، تصطحبنا روحه معه إلى حلقات الذكر، فالذكر خروج آخر ودخول إلى عالم الماوراء/ ماوراء اللغة، الوجود أو العدم.
مرة أخرى، لماذا الوادي المقدس؟
حمل الكتاب في عنوانه نصوص من الوادي المقدس فلماذا طوى، الوادي المقدس، موقع تجلي الله للجبل، محل كلام الله مع كليمه موسى عليه السلام؟ هذا سؤال بديهي لكل من يمسك الكتاب بين يديه ليقف على بعض الاحتمالات لما يمكن أن يكون عليه مضمون الكتاب، حيث يأخذ العنوان المتلقي بكل مستوياته إلى دلالة المكان التي تشير إلى الخروج من حال إلى حال. فلقد حمل الوادي المقدس طوى إلى موسى ما حسبه قبس من نار، فلما أدركه وجد الله عنده. وحملت النار في دلالتها على مدار التاريخ الانساني دلالة المعرفة منذ أن سرق بروميثيوس ، تقول الأسطورة:” استغرق بروميثيوس الكثير من الوقت بالرغم من رغبة بروميثوس اتقان تشكيل البشر إلا أن بطئه الشديد جعل أخيه يستهلك كل الموارد المتاحه في تشكيل الحيوانات : السرعة في العدو ، الرؤيه عن بعد ، السمع عن مسافات بعيده كما أعطاهم رداء من الفراء ليدفئهم من البرد ، ومختلف الأسلحه للدفاع عن نفسها مثل القرون والأنياب ولم يبق شئ للأنسان . كان اهتمام بروميثيوس بالبشر عظيما، ولقد غضب زيوس من بروميثيوس غضباً شديداً ورأي أنه بالغ في شأن البشر ولكنه لم يعاقبه واكتفى بتحذيره، فلم يعبأ بروميثيوس بالأمر وزاد إصراره على تشكيل البشر بكل ما أتي من قوة حتى أنه قام بسرقة النار من جبل الأوليمب ومنحها للبشر فقد أحزنه أن يراهم في برد الشتاء محرومون من الدفء والأمن والمعرفة.
وإذا ما قلنا الشيء بالشيء يذكر، فنحن هنا أمام برميثيوس جديد منحه الله النار/ النور/ المعرفة لكي يمنح الظل نورا أبديا يدوم ما دا. وتحمل دلالةمت العقول المستنيرة والأرواح التي تسابق لتغوص في عين اليقين. وتحمل لفظة/ علامة “خروج” هنا دلالة الدخول، فالخروج لا محالة مقترنا بالدخول، كالليل ينسلخ منه النهار ويطلبه حثيثا. وكل خروج من حال يستلزم دخولا إلى غيره. من هنا يطرح العنوان على المتلقي المتفاعل الواعي أسئلة كثيرة:
هل يقصد الكاتب الخروج/ الانعتاق؟
هل يقصد الخروج/ اللامكان؟
هل يقصد بالخروج/ الخلاص؟
الخروج/ التيه؟
الخروج/ التمرد؟
أم أنه يحيلنا إلى خروج آخر سيخبرنا عن وجهته عبر نصوصه؟ وهل لخروجه من سبيل أم أن حالة من الزهد سيطرت عليه فنشد الخروج إلى الطرف الآخر من النهر؟
أم أنه يخبرنا أنه بحاجة إلى يتهيأ للخروج بما يليق وكما يليق لولا أن هنالك ما لا يسطع عليه هجرا؟؟؟؟؟
على أية حال، دعونا ندخل إلى نصوص من الوادي المقدس طوى، علنا نقف على ماهية الخروج وسره وما تيسر من دلالات حملتها النصوص جميعا لتشترك في معنى يمكن لي أن اكتبه بحروف كبيرة ” الخلاص”.
يفتتح الكاتب نصوص كتابه ساردا:
” بعد صلاة المغرب خرج لا يلوي على شيء،…..
ولأن جل ما جذب اهتمامي في تلك النصوص هو دلالة الخروج، فإنني أتتبع هذه الدلالة في الألفاظ التي توحي بمقابلها، حيث يظهر التقابل الضمني بكثرة في نصوص من الوادي المقدس طوى، حيث تقترن اللفظة بمدلول مقابلها لترسم المسكوت عنه في اللغة وتجعله متجسدا في وعي المتلقي.
وفي بلاغة الترادف، نجد الترادف الضمني حيث تفتتح العبارة” بعد صلاة المغرب..” هنا النص بزمن مفتوح بدأ لتوه مع بدء ظهور الخيط الأسود من الأبيض من المغرب، فأداة الجر” بعد” هنا تركت وقت المغرب بقليل لتبدأ دلالة الزمن بالانفتاح على بداية العتمة، ثم يليها عبارة “خرج لا يلوي على شيء”، أي أن المجهول هو من كان يقوده في حقيقة الأمر، وليست خطاه التي يسعى بها، لكنه مجهول يحمل إلى روحه رسالة المعلوم المتجلي عما قريب لذا ظهرت نفسه مضطربة” لا يلوي على شيء” بعينه، فاللا شيء هنا يشيؤ إلى شيء ما بالضرورة.
وتكمن بلاغة المقابلة وسرها في تداعي المعاني واستثارة الأذهان فبمجرد أن يذكر أحد المتضادين يتجه العمل الذهني في ذاكرة القارئ أو المتلقي إلى ستجلاب المتضاد الثاني لفظاً ومعنى مثيرا فيه حاستي الفن والدين أو الفن والدنيا.
من ناحية تأويلية تحمل اللفظة معناها وعكسه في آم معا، فإذا ما ذكر الخروج فإننا نتوقع بالضرورة الدخول الحتمي، وإن ذكرنا الغروب فإننا نحمله الشروق بالضرورة، وليس لنا مثال على ما أود قوله أبلغ من ذكر رب العاليمن في قوله:” إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا” إذن إن مع الخروج دخول وإن من الغروب شروق وهكذا..
فهل قصد الكاتب هنا غروب معنوي، أم زمني، هل قصد أنه قاب قوسين أو أدنى من الدخول في الماوراء، أم أنه قصد وجه المغيب/ المجهول/ والعتمة . على كل، أتت الدلالة هنا لكلمة غروب لتمنحنا صورة مرئية عن حالة صراع نفسي بين البقاء والرحيل، والحضور والغياب، والوجود والفناء في عين اليقين.
ومن هنا نرى الكاتب يقودنا معه إلى المقهى رغم أنه ضمن سرده يقول: ” فأسلمته خطاه إلى المقهى” ، وهذا هنا تتبدى النفس البشرية واضحة فهي تميل بشقها السفلي إلى الدنيا، الشراب، الطعام، وهذا ما قامت به قدماه بشكل تلقائي على أرض الواقع وانطلاقا من احتياج بشري بحت اعتادت على فعله كلما أصابه الضجر. ولكنه هنا يستمر قائلا:” أنه لم يكن يلوي على شيء، أي أنه داخليا ليس لديه أي تصور عن الوجهة التي يرد الذهاب إليها، وأن فعل قدميه جاء بحكم العادة لا الإرادة، وكأنما خرجت قدميه عن طوعه ففعلت مالم تبتغيه روحه.
ولكنه أيضا استسلم فشرب الشاي كعادته، ولما انتهى عاد أدراجه إلى البيت حيث لا أحد سوى البسط والخواء. إذن هو يحدثنا عن مكان خرج منه ضجرا وعاد إليه مضطرا يبحث عن رواده فوجده خاويا.