“أين أنت يا فيفي؟” بقلم معصوم مرزوق
قراءة
: منال الشربيني
مقدمة:
يعكس النص القصصي مرزوق، م. (2023).” أين أنت يا فيفي؟” تجليات فترة تاريخية في مصر، ويبرز مجموعة من الشخصيات، في بيئة شبابية تنشأ في ظل نكسة 1967؛ يعبر عن تحولات اجتماعية ونفسية عميقة عاشها جيل ما بعد النكسة، متناولاً الإحباطات والتطلعات التي اجتاحت تلك المرحلة. إذ يُظهر شخصيات واقعية تمثل جيل الشباب الذي عاصر الهزيمة في حرب 1967، وتأثيرها على حياتهم اليومية وطموحاتهم إذ يصور بدقة بيئة القاهرة آنذاك، وطبيعة الحياة الاجتماعية، من خلال وصف أماكن مثل “إكسلسيور” و”نصف البلد” والأنشطة التي كانت سائدة بين الشباب في تلك الفترة.
يقول الكاتب:
” والله كأنه كان إمبارح .. ” إكسلسيور ” في نصف البلد ، على ناصية سينما ” مترو ” ، والليلة صيفية صافية ونسيمها عليل .. تقف الشلة – شلتنا – مثل كل ليلة ، تضحك على الرائح والغادي ، وتتكلم كلام مليان وكلام فاضي ، ومن حين وآخر تمر صبية مليحة تشغلنا ونشاغلها ، تضحك بخجل ، أو تتبرم وتغضب وأحياناً تشتم ، فنضحك .”
هنا، يُرصد الكاتب التناقضات الاجتماعية في مصر عقب النكسة من خلال مقارنة بين نمط حياة النخبة في مقاهي راقية مثل “إكسلسيور” وبين حياة الشعب في منطقة نصف البلد. بينما عاشت النخبة في رفاهية ونظرت للأحداث من منظور فكري، عانى الشعب من صعوبات اقتصادية وصمود في وجه التحديات. يبرز النص دور الفرد في مواجهة هذه التناقضات، مستشهدًا بشخصية “مراد” كمثال على البحث عن المعنى في عالم متغير. وهنا أجد تماسًا شديدًا بين الكاتب وماورد في روح كتاب ” الكينونة واللاشيء” لسارتر إذ يستكشف الكاتب هنا عمق الوجود الإنساني، حيث يجادل بأن الإنسان يخلق ذاته من خلال اختياراته الحرة، ويحلل طبيعة الوعي والعلاقة بين الأفراد، مؤكدًا على أهمية الحرية والمسؤولية في تحديد هوية الإنسان.
ويقول:
” مراد ” رغم شكله الخواجاتي فلاح من المنصورة ، خجول مثل البنات ، ولكنه مثقف يصدع رأسنا بقراءاته ، يتحدث حيناً عن كارل ماركس ، وأحياناً عن نيتشه ، دون أن ينسى ” حكايات الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني” ، وكان الأشرار من بيننا يريدون طرده من الشله ، و ” سامي شاهين ” كان كبير الأشرار ، ضخم الجثة ، مفتول العضلات ، ووجهه عريض كأنه بطيخة في منتصفها أنفه الأفطس ، طول الوقت يحكي لنا عن مشاجراته ونزواته ، ويسلب عقولنا بحكاياته الحمراء حتى يقاطعه مراد مغاضباً وهو يستغفر الله ويتوعده بجهنم وبئس المصير …”
يلعب الأدب دورًا هامًا في تشكيل شخصية مراد، حيث يقتبس من قصص الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، ويتلوها عليهم، ما يدل على أن مراد يستمد قيمه ومعارفه من الثقافة العربية والإسلامية، والتي تتعارض مع قيم سامي شاهين المادية والعنيفة. اتخذ الكاتب من السخرية متكأً، لفضح عيوب الشخصية وسلوكها العدواني؛ وصف وجه سامي شاهين بـ”البطيخة”.
كما يصف لنا فكر مراد من خلال اطلاعه على فكر كارل ماركس، ملمحًا أنه يتبنى فكر ماركس وتوجهه في تحليل الصراع الطبقي في المجتمعات الرأسمالية، فهل نتوقع منه أن يدعو إلى ثورة ما لإقامة مجتمع شيوعي بلا طبقات. و بحديثه عن فريدريك نيتشه نقرأ وجهًا آخرًا لمراد فقد اشتهر نيتشه بأفكاره حول الإرادة القوية، والسوبرمان، وإعادة تقييم القيم، كما انتقد الأخلاق التقليدية، ودعا إلى خلق قيم جديدة تتناسب مع الإنسان الحديث.
أما قول الكاتب عن مراد: “…دون أن ينسى كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني “، هذه الموسوعة الأدبية الضخمة التي جمع فيها الأصفهاني كمًا هائلاً من القصص والأشعار والأخبار، وصور حياة العرب في العصور الإسلامية الأولى، وهذا يعني أن مراد ممتلىء بالثقافة العربية، وأنه عميق الجذور، وينتمي بشدة إلى أصوله وعراقته. وهنا، يُظهر النص تباينًا صارخًا بين شخصيتي مراد وسامي شاهين، حيث يجمع مراد بين الثقافة والفلاحية، بينما يمثل سامي نموذج القوة البدنية والنزوات. ناهيك عن الصراع بين عالمين متضادين: عالم الفكر والثقافة الذي يمثله مراد، وعالم المادة والبداهة الذي يمثله سامي.
ويقول:
“… وكأن تلك الليلة التي قابلناها فيها كانت بالأمس ، أتذكر كل وقائعها ، بل أن ملامح فيفي لا تزال طازجة في ذاكرتي رغم مرور ما يزيد علي أربعين عاماً ، ذلك الوجه المصري الصبوح الجميل الذي يمزج ما بين الرغبة في الحياة والحزن الموروث ، تلك الأنثي التي ظلت تداعب خيال مراد حتى استشهد في اليوم الأول للعبور في مواجهة مدينة السويس ، بينما سامي الذي أصبح طياراً مقاتلاً وسقط أسيراً في يد العدو بعد أن أصيبت طائرته في إحدي المهام ، لا يزال كلما قابلته من حين لآخر يتذكر تلك الليلة ، ويضحك من قلبه وهو يعيد المرة تلو المرة ذلك المقلب السخيف الذي دبرناه لـ مراد ..”
نرى هنا، الكاتب، بغض النظر عن موسوعية مرجعيته العسكرية، موسوعيَّ الثقافة، فهو يكتب من خلفية تغلغلت في “نظرية الأدب” لـ إيغلتون، يسلط النص الضوء على دور المرأة في المجتمع من خلال شخصية فيفي القوية والواعية. فيفي، التي تتحدى الفتيان وتنتقد دورهم السلبي، تمثل نموذجًا للمرأة التي ترفض أن تكون مجرد موضوع للإعجاب. في الوقت نفسه، يعكس النص الواقعية الاجتماعية في مصر بعد نكسة 1967، حيث يصور معاناة الشباب وصراعهم مع الظروف القاسية. تجسد شخصية فيفي، كواحدة من هؤلاء الشباب، الوعي بالواقع الاجتماعي والسياسي، وتعبّر عن رفضها للوضع القائم. يعتبر النص مرآة تعكس انعكاسات النكسة على المجتمع المصري.
ويقول:
“…ولم تمض دقائق أخري حتى تعارفنا ، قالت أنها تعمل بائعة في أحد محلات قصر النيل ، وحيث أنها انتهت من ورديتها فلا تمانع في أن ندعوها علي عصير ليمون وقطعة جاتوه في إكسلسيور ، وقد سرت فينا جميعاً موجة كهربائية عارمة من الحماس ، ونحن نسير حولها وكأننا حفنة من الذباب تحلق حول قطعة من الحلوى …
عرفنا أنها مهاجرة مع أسرتها من السويس ، روت لنا صعوبة ما واجهته أسرتها من التأقلم مع الحياة في القاهرة ، حيث اضطروا للسكن في بدروم متواضع في الجيزة ، وهم الذين تركوا في السويس شقة كبيرة في عمارات الإسكان ، تركت الدراسة كي تساعد والدها في تربية باقي أشقائها ، ولا أنسي أبداً الدموع التي انهمرت من عينيها وهي تحكي اللحظات الأخيرة قبل مغادرة السويس .. وقفت اللواري الضخمة تحمل الناس وما أمكن نقله من قطع الأثاث ، كانت مختنقة وهي تنظر إلي بيتها يبتعد دون أن تعرف متى تعود إليه ، لم تتمكن أن تودع إبن الجيران الشاب الذي ارتبطت معه بقصة حب لأن أسرته هاجرت في اليوم السابق حين كانت قذائف العدو تقصف الزيتية ، وكل ما تعرفه عنه الآن أنه يعيش في دمياط ، وكل ما تتمناه هو أن تعرف عنوانه كي ترسل له خطابات …”
من منظور رمزي، حيث تمثل فيفي ليس فقط امرأة جميلة بل رمزاً للأمل الذي ذهب مع النكسة، والأثر النفسي الذي خلفته الهزيمة على الجيل الشاب. ولكن هل يمكن لنا أن نعتبرها معادلًا موضوعيًا لـ مصر بما لها وما عليها؟؟!! هل هي قطعة الحلوى، رمزًا، وواقعًا؟؟!!
يعكس معصوم مرزوق، المعروف بخلفيته العسكرية والثقافية، في نصه أفكاراً متأثرة بالتغيرات الاجتماعية والسياسية في مصر خلال فترة الستينات والسبعينات؛ يميل إلى الطرح النقدي للواقع المصري عبر تصويره للجيل الشاب الذي عاش تداعيات الهزيمة، إضافة إلى بحثه عن الهوية والمستقبل في ظل بيئة متغيرة. وهنا، أراه معادلًا موضوعيًا ل Fanon/ فانون في “المستضعفون على الأرض”، الذي عمل بشكل أساسي في دراسة الاستعمار وكيف يؤثر على نفسية كل من المستَعْمِر والمستَعْمَر، داعيًا إلى ثورة عنيفة لتحرير الشعوب المستعمرة. الكتاب يعتبر تحليلاً عميقًا لما يسمى استعمار النفوس إلى جانب الاستعمار المادي، وله تأثير كبير على الحركات التحررية في العالم.
4. تحليل الشخصيات والمواقف:
مراد:
يعكس مراد الضمير المثقف للشباب المصري في النص. هو الشاب الخجول الذي يحمل قيماً أخلاقية ومعرفة واسعة، يتحدث عن الفلسفة والأدب، ويشعر بالمسؤولية تجاه بلده. شخصية مراد تجسد حالة الاغتراب والبحث عن الذات.
سامي شاهين:
سامي الشاب القوي جسدياً، المتحدي وغير المهتم بالقيم أو الثقافة. إنه انعكاس لشريحة من الشباب الذين يجدون أنفسهم في مواجهة مع القيم التقليدية والأدبية. يحاول دائماً استفزاز مراد، ولكنه في النهاية يظهر ضعفاً عندما تواجهه فيفي.
فيفي:
فيفي تمثل المرأة القوية التي لا تقبل أن تكون مجرد هدف للإعجاب؛ تُقدم شخصية فيفي نموذجاً للمرأة التي تدرك مسؤوليتها الاجتماعية والسياسية، و تحمل هموماً تتجاوز البعد الشخصي لتشمل هموم الوطن وأثر النكسة على المجتمع، وهنا يمكننا أن نرى تأثر الكاتب بما قدمته سيمون دي بوفوار في كتابها ” الجنس الثاني” فهو يرفض أن يقتصر دور المرأة في المجتمع على أن يكون بيولوجيًا فطريًا، بل يؤصل دورها اجتماعيًا وثقافيًا. لقد قدمت بوفوار تحليلًا عميقًا لكيفية تكوين الهوية الأنثوية وكيف يتم تقييدها، داعية النساء إلى التحرر والبحث عن تحقيق الذات، وها هو النص هنا يعكس نفس وجهة النظر.
وفي مجموع القيم والمفاهيم، يعبر النص عن الإحباط الذي عاشه الجيل بعد النكسة، وهو إحباط يتجلى في الصراعات الشخصية والشعور بالعجز تجاه المستقبل. تسلط فيفي الضوء على هذا الإحباط بقولها للشباب إنهم “عيال النكسة”، مما يعكس موقف المجتمع من تلك الجيل. وهنا يقف الكاتب نفس موقف كامو في ” أسطورة سيزيف”، إذ يرى أن الحياة البشرية مليئة بالعبث، وأن الإنسان يواجه وجودًا لا معنى له. ومع ذلك، يدعو كامو إلى التمرد على هذا العبث والاستمرار في العيش رغم إدراكنا لعدم وجود هدف نهائي، مستلهمًا شخصية سيزيف التي ترمز إلى التحدي والصمود.
أما فيما يتعلق بالبحث عن/الذات، الهوية، تعكس شخصية مراد البحث المستمر عن معنى وقيمة في حياة تعصف بها التغيرات السياسية والاجتماعية. تعبيره عن الرغبة في إثبات أن الشباب المصري ليس مجرد “عيال” بل قادر على مواجهة الصعاب هو تعبير عن رغبة الجيل بأكمله في تجاوز الهزيمة.
ومن وجهة نظر محايدة، يعكس النص ببراعة الصراع الداخلي والخارجي للشباب المصري بعد نكسة 1967. يقدم مرزوق شخصياته بطريقة تعبر عن مراحل النضج الاجتماعي والنفسي المختلفة، حيث يُظهر مراد وسامي كنماذج للشباب المصري بتياراته المتنوعة. رغم أن النص يعبر عن خيبة الأمل، إلا أنه يحمل في طياته الأمل في تغيير الوضع. كذلك، يمثل النص نقداً للمجتمع الجيل الشاب، لكنه، أيضًا، تعبير عن تفهم المؤلف لتلك الحالة النفسية المعقدة التي يعكسها التعمق في فهم “حضارة عدم الراحة” لفرويد من حيث هو تحليل نفسي عميق للصراع بين رغبات الفرد وحاجات المجتمع، إذ يرى فرويد أن الحضارة، رغم فوائدها، تفرض قيودًا على الفرد تؤدي إلى الشعور بعدم الراحة والتعاسة.
خاتمة:
تعد قصة “أين أنت يا فيفي؟” نصًا أدبيًا غنيًا بالتعابير الثقافية والاجتماعية التي تعبر عن جيل عاش فترة مليئة بالتحديات. إنها دعوة للتأمل في معاني الهزيمة والنضج، وكيف يمكن لـ تجربة شخصية أن تعكس واقعًا أكبر.