قراءة في ديوانه الخامس” بملابسه البيضاء الأنيقة”
بقلم : الناقدة التونسية بسمة المرواني
قناعة راسخة لا تهزّها الرّيح عندما تكون القناعة متأصّلة في الأعماق بقوة الإيمان, وعندما يكون الإنسان طاقة حيوية تنبض بالشّعور و الحيوية الواعية المتّزنة..، كلّ شيء هو الهلاك بعينه إن غيَّب آية الإنسان.. آية الحياة.. آية الأنا و هاب كلّ شيء من آداب القيم الرّوحية و القيم الإنسانية, و بما هي إنسانية يصبح العدم نصيبه.
…لا يوجد زرع يعجب الزرّاع أكثر من ورع الفكر بدور المعاني لأصحاب الأعماق..لهم نفسٌ تسمو بهمّتها، فتترفّع الحرية التي من شجرة الحكمة, تنحدرعن تلك الطينية الغارقة في وحول الذات، و تدري أنَّها -عن وعي- لها نقطة مطاف آخيرة هي نهاية آخر السطر وآخر الصّدر يكتبها الأجل ..إنَّه الموت .
مجموعة الشاعر إبراهيم موسى النحَّاس بملابسه البيضاء الأنيقة الصادرة عن دار “الكاتب” للطباعة و النشر التوزيع بالجزائر…. هو شاعر يقف علي تخوم الكلمة يريد اٍنهاء عملية الولادة و يتحرّر من المولود, يزيد خوفه من النهاية, لا يخشي الموت الذي لم يواجهه إلّا فكرة لكن ما يخشاه هو التّوقف عن الكلام، وهنا تجادل حقيقي بين الموت ومواصلة التجربة وعلى عاتقه إيمانه بالحياة التي تمنحه قدرة خلاقة ونشاطًا أكثر ليكون الفاعل لا المفعول به ليجانب الفيلسوف الألماني كانط في قولته الشهيرة: ( ليس الموت إلا القناع الذي يخفي نشاطاً أكثر عمقاً و أقوى مغزَىً و إنَّ ما يسميه القانون بالموت هو المظهر المرئي لحياتي و هذه الحياة هي الحياة الأخلاقية .. ومايُسمَّى بالموت لايمكن أن يقطع عملي لأنّ عملي ينبغي أن ينجز لأنَّني يتعين عليَّ أن أقوم بمهمتي فليس هناك حد لحياتي , إنَّني خالد)
و مع اعترافه بأنَّ الشاعر يحيا يتمدَّد, يتمدَّد و لا يشيخ, لكن الجسد الذي يسكنه هو الذي سيتبدَّد، يتبدَّد بالغياب الطويل حيث يقول في صفحة 9:
(هنا سأعتادُ التأخُّرَ خارجَ البيتِ
أدرّبهم كثيرًا
أن يذوقوا حلاوةَ الحضورِ
في مُقدِّماتِ
غيابِه الطويل) .
….ومهما تراكمت عليه تجربة السنين… هنا يكون النحَّاس قد قارب فكرة “الفونسينا ستورني” في قصيدتها المشهورة المكتوبة باللون الأحمر على ورق أزرق تحت عنوان (سأخلد للنوم الأبديّ) قصائد النحَّاس لا تكتم ما يتضمَّنه الجمال فهو الكاتب لمرايا يوشّحها ضباب ما تكلَّس في مفاهيم الغير الذين هم أهل الكراهية والبغضاء و مَن تفشَّى فيهم الحقد والجنون والظلام.. وَضع يده على الجرح، وكشف كثيرًا من التناقضات التي نعيشها، وأشعل الضوء في زوايا مظلمة في علاقتنا مع ذواتنا و مع الآخر من حولنا، باعتبارنا جزءًا من المشكلة و جزءًا من الحلِّ أيضًا، كشف عن أمراض اجتماعية تسكن تحت الرماد، وأشار إلى انفجارات وشيكة و أوصاب متعددة و وضع نفسه مع فكرة الموت في وضع الاحتفاء به, لكن هذا الغائب المُسجَّى أمام الأصدقاء و الأقارب يراهم بقبحهم و يعريهم من قيمهم, فلا سائد إلَّا تشريح الجثة بذكر مساوئها, إنَّه يُعدُّ إنجازًا لحلول مشاكل مُتسرّبة في مسارب الروح لكل عربيّ و تتعلق بمجتمعاتنا, و هو ما يصبو إليه في الحقيقة ككل مُثقَّفٍ واعٍ و شاعرٍ من شعراء المرحلة.
أفرَدَ للشرِّ المحض كيانًا مناقضًا, أفرد بالجرأة على إثارة المسكوت عنه، و على الجهر بما يقال سِرًّا….فكانت قصائده رحيل إلى وصف زمن لا يخلو من مُستقبلِ مُبهم المعالم إلّا من مناطقِ تشاؤمهِ، حاضرُه بدت أيامه هادئة الظاهر و إن كانت على حقيقتها مُستعرةً الباطن، فأيام تَعاظمت فيها الأحداث ترهق ولم تمهل رماله المُتصلبة من تحت أقدامه أن يهيِّء بكل حب الأحباء لقلبه إلى فكرة الغياب أو الموت و تلك دلالات الذات المظطربة الحائرة …الهاربة من أفراد لا يفقهون كيمياء لغته ..المتولّدة من الشعور بالفزع الهائل… فلا أبيضه في نقائه يُذكّرهم بالثلج ولا بالصفاء, و الصفاء صفة من صفات الأنبياء, والأنبياء يُكفِّرونهم أقوامهم في رسالاتهم, فتعجَّلَ في الضرب على الوتر الذي لا تلحق به الموسيقى الجميلة, بل موسيقى الرحيل رغم بشاعة المرحلة: مرحلة الموت, الحالة منها فواحٌ لرائحة التحلل و حركة الدود و الظلام, و ما أشبه و أبلَغ الكلمات المسكوبة على الصفحة رقم 24 حيث يقول:
(بعدَ أن تعودَ من الحفلِ
أبْلِغْ الخونةَ سعادتي
الخونة- في أوَّلِ اختبارٍ حقيقيّ-
للأرض يُسلمونني
جسدًا..
مَلَّ كثيرًا البقاءَ ..بينهم ).
يكشف الشاعر عن انتمائه إلى عالم الحياة الواسع، كاشفا عن أستار النفس والمعاناة مع الحياة, فحملتْ فكرًا وفلسفة كتبها بجماليات اللوعة حيث إنَّ ذاته تجترُّ تفاصيل الانسحاب من الوجود بألم ….حتى الداخل موحش كحجرة معتمة مغترب فيها ليس يؤنسه فيها إلَّا الثعبان الضخم و هو إشارة الشاعر من إلى مرجعيته القرائيَّة, إلى سفر التكوين في العهد القديم و إلى الفصل الثالث تحديدًا فالثعبان مَن أغرى حوّاء وآدم لتناول ثمرة شجرة العلم والمعرفة. بعبارة أخرى الثعبان سبب الخطيئة و رمزية للشرّ..فالشّاعر منخلع الروح من واقع يحيطه ليعود إلى ذاته في غرفته و إذ هي صورة أخرى مفعمة بالدلالة على ما يفاقم روح الشاعر من إحساس اللوعة والإمعان الملتاث في الاندغام مع فكرة الموت ليتجاوز كل هذا الخراب … لم يستسلم للواقع المهزوم ، بل كان إيمانه بالبعث لا يفارق فكره وإحساسه، وانتهى بعد صراع طويل مع ذاته إلى تبنِّي نظرة أكثر واقعية، و ارتهنت تجربته الشعرية بمدى إيمانه بجدلية الحياة و الموت…و بين الفاصلتين مسافة تجعله يجذب السماء إليه هي عاطفته, فاسم حبيبته مرسوم طوع بنانه, في إشارته لها زكّى إحساسه بها بجوهر روحه و روحها المتحدين، “ناهد” هو اسمها موقظة الكلمات في كهوف ذاكرته, ينزاح أيضًا عن ميثاقه معها, و يهيِّء لها عُمرٌا آخر دونه بكل (أنانية ) مؤكِّدًا أنَّ كُلَّ الأعمار لا عمر لها لكل البشر….و أنَّه تاركٌ إيَّاها في عالمٍ ليست تنغرز فيه إلَّا الخناجر, عالم فيه الإنسانية وقع اغتيالها، فنراه سائلًا القدَر أن يسري به دون معراج …حيث يقول :
(رُبَّما
لا يلتفت إلى النار التى أحرقتْ أصابعه
وهو يشعل لك سيجارةً بنفسِه…
وفي البيتِ
سيلازمكِ
كقطتكِ الشيراز الوديعة
إنَّه غيابي
يستمدُّ وجوده القوي
من حضورٍ جريح …)
هذا هو الشاعر ابراهيم موسى النحَّاس في ديوانه الخامس بصرخته المدويَّة، و الديوان بمثابة قصيدة واحدة أليمة, مُمتدَّة على الثماني و السبعين صفحة ، حبره مضني تأرق منه، أراد مواجهة ميتافيزيقية سافرة, أحبَّ الموت و حلَّق إليه شِعرًا، مُتحدِّيًا و ساخرًا .. فبصم هاجسه الوجوديّ بخبرته للما وراء و هو مفتوح الأجفان .