لصحيفة آفاق حرة
بقلم: هاشم خليل عبدالغني – الاردن
العامرية سعدالله الجباهي شاعرة وكاتبة تونسية ،نشأت في قرية بالجنوب التونسي ،تحب الجمال وتعشق الطبيعة ، بداياتها كانت مبكرة جدا تعود لمرحلة دراستها الثانوية ،وما يميز قصائدها ذلك الصدق التعبيري التلقائي ،والوضوح الممزوج بالإيحاءات والتعابير السلسة ، والعامرية من ابرز الشواعر المدافعات عن قضايا المرأة فنصوصها كما ذكر احد النقاد ” تمثل أجمل المرافعات عن هاته القضايا ” إلى جانب نصوصها الوطنية والإجتماعية والوجدانية .
وللشاعرة العامرية العديد من النصوص الشعرية والنثرية التي تتسم بالنضج الفني والجمالية التعبيرية الشفافة ،المنشورة في الصحف والمواقع الإلكترونية صدر لها: ديوان “عزف على أوتار الحرف ” وديوان ” حنين إلى مرافئ الحلم ” وديوان ” امرأة في وادي الفراشات”.
ومن جميل قصائد (العامرية سعدالله الجباهي ) قصيدة ” مسافات غائمة” موضوع دراستنا في هذه المقالة المتواضعة ،التي تمزج بين الهوى ومعاناة البعد والشوق العاصف الذي تظلله مسافات غائمة، ونلمس في سطورها مشاعر نابضة دفّاقة ومعانٍ إنسانية وجدانية راقية.
والقاريء للقصيدة سرعان ما يلاحظ لجوء الشاعر إلى الإيحاء، وعدم الارتكان إلى المباشرة والتقريرية، والأن ننتقل لقراءة القصيدة .. قراءة نصية :
تتلبد سماء المحبين أحيانا بغيوم عاصفة من عدم الإستقرار ، فتهتز الثقة ويضطرب الأمان العاطفي ،فتتسع مسافة البعد أمام خصومات متكررة ، فيقل التواصل ويزداد الجفاء العاطفي ، ويتسع الشرخ ! ويصعب التحكم بالعواطف والسيطرة عليها . فيصبح مستقبل العلاقة مثقل بالغيوم وبظلال من الشك ونذر التباعد ..
في مطلع القصيدة تشير الشاعرة إلى أن الحقيقة المفاجئة صدمتها وأفزعتها ، حقيقة الظل المعتم ،عتمة حجبت عن الشاعرة اشعة ضوء حقيقة المحبوب، المستترة خلف حاجز غير شفاف من الاهمال والتجاهل .
تقول: تبين لي أن الطريق للحبيب مغلق مليء بالمطبات والعوائق التي ملأت القلب بالهموم والأحزان،رغم محاولاتي المتكررة لكسرالفجوة (المسافة ) وتقليلها بيني وبين الحبيب ،علني اجد نفسي وأثوب لرشدي .
احست الشاعرة بالضياع ، وكأنها واقفة على الهواء ، أي دون توازن أو ثبات ، أي ريح خفيفة ستسقطها وتؤذيها ، ببساطة لا تعرف ماذا تريد ؟ ولا تعرف كيف تتخلص من الاحساس بالضياع ؟.
مسافات غائمة … حين اصطدمت بظلي
كانت الطريق … مكتظة بي،
كنت أذرع المسافات بحثا عني..
وتتساءل الشاعرة بمرارة ، كيف لم ارها ؟ السؤال هنا استنكاري ! كيف لم ار ذاتي المغذبة ؟ “التي تعاني من الاحساس بالضياع والوحدة ، بعد اتساع ضبابية المسافة بيني وبين الحبيب ” والشاعرة تركض وراء سحابة من الوهم والذهول واللاوعي ،وتنتقل من موضوع إلى موضوع آخر لا رابط يربطهما ، باحلامها البريئة الممزوجة بلحظات من الفرح ، الدالة على قوة علاقتها العاطفية، ومؤشراً على دوامها ،وصدقها واخلاصها وثباتها على العهد، فالشاعرة تعيش في حالة من الأحلام المتخيلة، تتمنى تحقيقها ، مثل شوق وحُرقة الناس للدفْء في ليالي الشتاء القارصة، وشوق المطر لدواليب السافية ترفع المطر للمزارع والحقول ، ومثل انسكاب اغاني الرعاة الشعبية بصحبة ناي اوربابة ، بصوت هامس به وشوشة وترنم .
كيف لم أرها؟
وهي تخطو نحو سديم الفراغ
وأنا أقفز على حواف الحالمين بضفاف آمنة،
مثل لهفة المساء لدفء الشتاء ،
مثل لهفة المطر لسواق جارية
مثل مواويل الرعاة تنساب همسا في يدي شادية
لكن الشاعرة بين المسافة والمسافة ،تستفيق من غفوة أحلامها وتأملاتها الخيالية ،واسترسالها في رؤى اليقظة والأمل،والنتيجة فشل الشاعرة في تحقيق أي شيء من أمانيها وأحلامها، فكل محاولاتها لعودة المياه لمجاريها ذهبت أدراج الرياح ، فكانت بلا طائل .
وكأني بالشاعرة تتساءل .. ما أسباب فشل علاقة حب كانت مغلفة بكل معاني السعادة؟ وما أسباب هذا الخلاف والفتور؟ أمام إنسداد الإجابة عن هذه الأسئلة ، وبما أن هناك أموراً استجدت ولن تستقيم الحياة والعلاقة بوجودها ،بأي حال من الأحوال ، فلم يتبق أمام الشاعرة إلا إنهاء العلاقة وعدم الاستمرار فيها.
أمام هذه الأزمة ، قررت الشاعرة التخلص من صدمة علاقة عاطفية فاشلة وانتظارخوض تجربة جديدة ،عن طريق احترام الذات ومعرفة النفس والرضا عنها ،والبحث عن شريك حنون وقوي العاطفة ، متسق بصفاته وتصرفاته ،
لكن الطريق كانت غافية
لم يحركها دفء الشتاء في ليال عاصفة،
ولم تصغ للسواقي الجارية..
سأكون ساكنة مثل موج فقد صوته في حضرة الصيف
انتظر غيمة ماطرة
وفي نهاية القصيدة تؤكد الشاعرة على اصرارها الإستفادة من تجربتها العاطفية السابقة، وكل ما مرت به من سقطات وأخطاء واخفافات ،أهالت عليها الشاعرة التراب ، كي لا يتسنى لأحد أن يطلع عليها، أو يُنظر إليها بعين الريبة والشك ، وتصبح مصدراً للقيل والقال .
وتؤكد الشاعرة على قدرتها على السيطرة والتحكم بعواطفها، وخلق توافق ذاتي بين عواطفها وعقلها ، مبني على اسس تدل على امكانية استمرار أي العلاقة جديدة ، نتيجة للتوافق بين الطرفين و مدى الاتفاق فيما بينهما ، مما يساعد على استمرارية العلاقة بشكل سليم و صحيح ، ولذا لا بد من بذل الجهد لبدء حياة جديدة ، وبذل بعض الجهود سيمكن الشاعرة من تغيير حياتها ومكانتها، لتورق وتنتعش أوراق ربيع حياتها المنتظرة،وينعكس ذلك توقداً واشتعالاً بانتقاء العبارات الجميلة، ذات الإيقاع النفسي والذاتي في شعرها،هذا الإحساس بالإستقرار النفسي ،هذا الإستقرار سيبعث الارتياح والابتهاج في قلب رجل سيحصد ما زرعته من متغيرات في وعاء حياتها الجديدة ،من ترانيم الحب الواعي ، والحانه العذبة، ونضوج التجربة واستواء عودها .
لأسكب ظلي المكتظ بي
على خطواتي الثابتة
قطرة، قطرة ….تورق الطريق .. في مفارقي
و تشتعل رائحة التوت في شعري
فينتشي رجل يحصد الخضرة من خطوي ..
يتبين مما تقدم أن النص يجمع بين الألم والأمل والتحدي ،ويتكئ على اساليب فنية متفدمة وراقية ،فالشاعرة وظفت كل قدراتها ومخزونها المعرفي والثقافي لتتحفنا بنص شعري ماتع مميز .