لآفاق حرة
أنماط السّلوك البشريّ
في كتاب “مرايا الظلّ” لأحمد الحشوش.
بقلم. محمد فتحي المقداد
عرفتُ “أحمد الحشوش” صديقًا فنانًّا تشكيليًا ونحّاتًا وأديبًا شاعرًا، وفي مرايا ظلّه المُنعكسة على المحيط الجغرافيّ العربيّ بعمومه، اِنطلاقًا من أخفض بُقعة على وجه الكرة الأرضيّة (غور الصافي) بجوار البحر الميّت، فاجأني بتتبّع ثيمة السّلوك البشريّ بارتفاعاته وانخفاضاته، بتوهّجه عند بداية النّجاح والصّعود والارتقاء الوظيفيّ والاجتماعيّ، وانطفائه وذُبوله على مهاوي الفشل والتراجُع عن السّياق المطلوب.
وفي كتابه “مرايا الظلّ” الصّادر حديثًا شرّفني بإهدائي النسخة الأولى، وتحت العنوان كانت مُحدّدات الكتاب (لماذا تفشل وينجح الآخرون)، الأمر الذي أخذني منذ الوهلة الأولى، للكاتب والمُفكّر الأمريكي “ديل كارنيجي” الشّهير بكتبه ومؤلّفاته الكثيرة والمُترجمَة للغات عديدة، ومنها: (دع القلق وابدأ الحياة /كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس /اكتشف القائد الذي بداخلك – فن القيادة في العمل/ فن التعامل مع الناس/ كيف تكسب النجاح – التفوق والثروة في حياتك/ كن يقظاً / كيف تحقق هدفك وتصل إلى ماتريد)
وهذه الدّراسات والكتب تمحورت أبحاثها وفي معظمها تحت تأثيرات الجدليّة الماديّة العقديّة، والتركيز على القدرات الشّخصيّة لكلّ إنسان، بينما أغفلت جانب التوفيق والعناية الربانيّة من خالق البشر جميعها، ولم يترك “أحمد الحشوش” المجال لقارئه الذّهاب في متاهات دروب الدّراسات الغافلة والمُغفلة عن دور الإله والربّ في حياة مخلوقاته، وفي الإهداء الذي جاء قبل المقدمة والدخول في مدوّنته ذات البعد الإنساني المرتبط بخالق الكون، حيث يُفصح عن اتجاهه في البحث: (اتصالك بالنور الإلهي يعني أن تنطلق في ملكوته مستكشفا مواطن العظمة والإبداع والقوة والحكمة والجمال والرحمة لا أن تكون قاطع طريقها)، وبهذا وضعنا على جادّة الطريق المستقلّ المستقيم، المُستند إلى أساس ربّاني، بملامحه الشاملة ذات البُعد الإنسانيّ المُستقاة من المصدر القرآني بصبغته الربانيّة، وعلى هدي ونور السُنّة النبويّة.
وبتتبّع للعناوين التي هي مدار كتاب “مرايا الظل”، يمكن استخلاص الدلالات والأبعاد الظاهرة والخفيّة، وفي مدخله بعنوان “حياة كاملة” يلقي الضوء على سلوكات وممارسات ما بين المطلوب والمفقود، وما بين الحالة المُثلى لمجموعة من نماذج التفكير ذات العقليات المتباينة بطريقة تفكيرها وأدائها في جميع مناشط الحياة، ومنها: “عقلية الضحيّة” الأقرب إلى حالة التشكي والكسل الناتجة عن الفشل، والبحث الدائم عن مشجب لتبرير الأخطاء، وترحيلها إلى ساحات الآخرين، وأمّا “عقلية الحد الأدنى” غير الطموحة التي ترضى بأقلّ القليل، تميل إلى ترضى بأقلّ القليل، تميل إلى الدّعة والرّاحة والتكاسُل، ومن مبرراتها “القناعة كنز لا يفنى”.
وفي هذا المنحى السّلوكي، يقول المؤلف “أحمد الحشوش” رأيه بصراحة: (إطار التقدم، أو إطار المتقدمين، وهو الذي يمثل عقلية النجاح، ويتسم أصحابه بالإيجابية والمرونة العقلية والرغبة القوية في التعلم، ويستطيعون إحراز التقدم في حياتهم، وبلوغ أهدافهم مهما صعبت ظروفهم، ومهما عظمت تحدياتهم).
وباختلاف البشر بطبائعهم وأنماطهم السلوكية، تختلف نظرتهم للحياة، وبجهد ذكيٍّ دؤوب من المؤلف، صنع مُحدّدات محفزّة للقراءة والبحث. فمثلاً جاء بعنوان “عقلية الحفار”، و”عقلية المحتال”، و”هذا جناه أبي علي”. هذه التراوحات من نوازع الخير والشرّ الصفتان الملازمتان للبشر، ومخرجاتهما المؤثرة والمتأثرة بالمحيط العام.
وبتفسيره لمفهوم العقليات يقول المؤلف: (طريقة تفكير كل منهم، وطبيعة استجابته للمؤثرات الخارجية وتفاعله معها، وهذا بالضبط هو المقصود بالعقلية هنا).
ولتوسيع مساحة الفهم لمصطلحات العناوين، وباقتباس رؤية ونظرية المؤلف: (وإن حدثوك عن عشرات المبررات القاهرة للإرادة الإنسانية التي تحول بينهم وبين الوصول إلى ما يرغبون فيه، كأن يحدثوك عن حظهم العاثر الذي يلازمهم دائما، و عن الأعين الحاسدة التي تغلق الأبواب في وجوههم، أو النصيب الذي لا ينفك يصيبهم دون غيرهم، أو المؤامرات الإنس جنية التي تحاك ضدهم، والتي لا قبل لهم بها وغيرها الكثير من المبررات التي تريح قلوبهم، كونها تجنبهم مواجهة الشعور المرعب بأنهم فشلة وانهزاميون)، بهذه الفقرة فهمنا المعنى التبريريّ للعقليات التي نتعامل معها ومنها: “عقلية الأبواب المغلقة”، و”عقلية الجميع إلا أنا”، و”عقلية البداية الكاملة”. و”عقلية أنا خير منه”، و”عقلية غدا أو بعد غد”، و”عقلية المدعي”، و”عقلية الذنب”.
ميزة هذا الكتاب تعلقه وتركيزه على بؤرة النجاح والفشل ضمن أي دائرة اجتماعية، وما ينطبق على هذه ينطبق بكلياته أو بجزئياته على تلك، وذلك لتشابه الظروف والمعطيات والمُخرجات في مجتمعات تحمل سمات التفكير النمطيّ الواحد.
والعامل التعليميّ له الدّور الحاسم بهذا التشابه والتماثُل بمخرجاته، هذا جانب متأثر بالحالة الاقتصادية للمجتمعات اذا كانت بحالة وفرة ونعيم، ومناخات احترام حقوق الإنسان. وقد حدد الكاتب ثلاثة إطارات كبيرة أولها (إطار التقدم) والثاني هو إطار (التراجع) والثالث هو إطار (المراوحة في المكان).
وختاماً نخلص لنتيجة أنّ هناك عقولا غير واعية، تتخبط في مراغات الكسل والفشل والإدمان والانحرافات والفقر والجهل، “تبذل ما في وسعها لإغراق مراكبها بدل استثمارها في وصول آمن لأهدافها”، وبعد مسيرة البحث الشيّقة بعمق فكرتها، تتّضح بجلاء دلالة العنوان وحل إشكاليته “مرايا الظل”، وهذه الحالة الفيزيائية الضوء وانعكاساته من خلال المرايا التي لا تعكس شيئا غاب في الظلّ، لأن الظل ليس مكانها الطبيعيّ، إنما هي منفعلة ومتأثرة بحالة الضوء وانعكاس إشعاعاته على المحيط عمومًا.
وبذلك تبينت هويّة الكتاب الذي سلط مراياه التي انعكست لفهمنا لحالات تتخبط بالظلام، وتغيرت وظيفة المرايا من الظلّ إلى ضوء فهم الكاتب “أحمد الحشوش” والذي أضاء الجانب الآخر للمرايا. والله ولي التوفيق.
عمّان – الأردن
1/ 8/ 2023