.
هاشم خليل عبدالغني – الأردن
ميساء دكدوك شاعرة … تحلق في فضاءات الشعر الوطني والوجداني ، يتسرب الجمال والبهاء من بين فجوات قصائدها، نصوصها حبلى ببديع الصور ورشيق الكلمات وجميل العبارات ، ، ترسم بالكلمات لوحات فنية تغازل وجدانها وتراقص خيالها ، تكتب ما يمليه عليها ضميرها ، نجحت في فرض نفسها على المشهد الثقافي السوري والعربي ، بدفء كلماتها العذبة وشفافية نصها الشعري المتزن .
ميساء دكدوك “المرشدة النفسية ” ، شاعرة سورية تطرز قصائدها بحرير كلماتها الناعمة تارة واللاهبة تارة أخرى ، من بلدة الشيخ بدر ، تحمل إجازة في التربية وعلم النفس ، من جامعة دمشق ، لديها أكثر من ثماني مجموعات شعرية لم تطبع للأن ، تأثرت بالشاعر بدر شاكر السياب والشاعرة نازك الملائكة ، كما أنها قرأت لكبار الروائيين العرب من أبرزهم نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وعبد الرحمن منيف … كما أنها أم لشابين احدهما طالب يدرس الأدب الإنجليزي والثاني يدرس الطب البشري …
سنحاول فيما يلي إلقاء الضوء على قصيدتها الوطنية” دمشق …وعاشقها وأنا “. لقد شدتني هذه القصيدة لما تتسم به من وطنية صادقة ووضوح شفاف وإحساس عروبي راقٍ .
يتكئ هيكل القصيدة على ثلاث أعمدة : (دمشق المعشوقة وعاشقها والشاعرة ) ،وتدور القصيدة حول محور واضح ، تدور حوله كل المعاني وهو حب وعشق دمشق . عنصر موحد لكل الحركات المتداخلة في نسيج النص . دمشق.. قلب العروبة النابض… هكذا سمّاها قبل عشرات السنين القائد العربي الراحل جمال عبد الناصر. وفي العصر الأموي، أصبح لدمشق أعظم مكانة حضارية مرّت بها خلال تاريخها الطويل، حيث غدت عاصمة لدولة كبرى لم تلبث أن وصل نفوذ حكامها إلى حدود الصين شرقاً، وسواحل الأطلسي غرباً، فقد كان العصر الأموي بمثابة العصر الذهبي لمدينة دمشق…
لقد شدتني هذه القصيدة لما تتسم به من وطنية صادقة ووضوح شفاف وإحساس عروبي راقٍ .
بسطت الشاعرة راحة يدها على ارض دمشق مرحبة بعاشق دمشق القادم ، العاشق المحب الولهان الذي تعلق قلبه بها وأحبها حباً شديداً ، تسكن في عينيه الكبرياء والأنفة والعلياء ، وكلماته قناديل تنير دروب الحرية ترفض التبعية والردة ، تحارب التخلف والعفونة ، بالعلم والمعرفة والفكر المتزن ، ومن ابرز علامات عشق العاشق لدمشق كما قالت الشاعرة ” ميساء دكدوك ” حبه لعرائش الياسمين ، وحبه لراية تخفق فوق قاسيون الذي يطل على دمشق حادبا حانيا عليها ..عاشق متشح بسيف عربي عريق غير هجين ، ” وكأنه استعاره من الشهب ” في إشارة لطاهرة ونقاء هذا السلاح وعد م تبعيته للأجنبي ومرتزقته . .. فتقول :
فرشت راحتي أرضا في دمشق…
لعاشق قادم …!!!
بين جفنيه تسكن النجوم…
وتضيء في فمه شمس الحروف..
عشقه عرائش الياسمين…
وراية قاسيون…
وسيفه العربي البارق أصيل..
من لهيب ..
وكأنه استعاره من الشهب …
بسردية جميلة تواصل الشاعرة ” ميساء دكدوك ” في قصيدتها الرائعة ( دمشق .. وعاشقها وأنا ) عرض تسلسل الأحداث في نصها المشبع بعشق وحب دمشق .. فالعاشق يناجي ويخص الشام بما في قلبه من حب عتيق وأسرار ومشاعر حزينة لما آلت إليه …
وعلى لسان العاشق تواصل الشاعرة بيان مدى حبه العتيق للشام ، فهو في وجدانه قبل أن تناغيه وتلاطفه أمه بالمحادثة والملاعبة ، فقد لفظ حروف دمشق قبل أن يتعلم الكلام ، هذا ما أخبرته به أمه .. وأمه إن قالت صادقت القول .. ولنقرأ ما قالته الشاعرة .
يناجي الشام …
يا حزني …!!!
ياحبي العتيق …
من قبل المناغاة …
قد لفظت الدال كثيرا …
قبل الكلام ..
لفظتها قبل الميم والباء…
هكذا تخبرني أمي …
وأمي تصدق المقال…
تواصل الشاعرة مناجاتها لدمشق، مدينة الفرح والبهجة الأبدي على الدوام ، أنت التي تختال بحضارتها وتاريخها العريق ، غايتي القصوى أن أغوص في قلبك ، في نبض ترابك المكتنز بالخيرات ، إلى أن تقول : ( في زمانك .. في طوابير الطغاة المصلوبة …على أبوابك) . “دمشق تقف اليوم مستلهمة تاريخها الحضاري العريق في وجه الظلاميين التكفيريين أعداء الإنسانية. دمشق التي تحطّمت على أسوارها جحافل الجيوش الغابرة وتكسّرت نصال سيوفهم ” .
يا مدينة الفرح الأبدي..
أغفو على أسوارك …
أغوص في خافقك
في نبض ترابك الخصيب…
في زمانك…
في طوابير الطغاة المصلوبة …
على أبوابك …
تعبر الشاعرة ميساء دكدوك عن مشاعرها وأحاسيسها الجياشة تحو دمشق ، فيزهر ويتلألآ ويشرق وجهها فرحا وسعادة .. حين تمتشق دمشق سيفها البتار في وجه العصابات الوهابية الظلامية، المدعومة بأحقاد الصهيونية وأذيالها غربان الخليج والعثمانيين الجدد ، لتقول لأولئك الذين يحيكون المؤامرات إن دمشق كانت وما زالت السيف العربي ،الذي يردع الطامعين ..ستبقى شامخة عزيزة الجانب، مخرزا في عيون أعدائها.
” ويزهر في تدمير عصرهم وجهي …
وها هم الآن …
من يدعون أنهم عرب إخوان…
يعيدون الزمن القبيح …”
دمشق أنت على مر التاريخ عباءة العروبة الأثيرة، وأبجدية لغتها . وبارقة أملها وعنوان كرامتها ، دمشق أنت نبض عروقي على مر الأزمان ، فأنت الدفء والأمان ، لكل من تدثر بأطراف عباءتك من أبناء العروبة والإسلام .
” دمشق يا عباءة العاج والعقيق…
والأبجدية في منحنيات التاريخ…
برقك الذي في التراب يضيء..
في دمي ..
في نبضي والأمداء …
وامتداد الرؤيا …”
عاشقك دمشق ” الذي تعلق بك ولهاً وأحبك حباً شديداً “أضاف لحبي لك حباً جديداً ، لأنه أنموذج للحب الخالص المجرد من الأغراض والمصالح .. أنا اعشق كل شيء فيك حتى حجارتك ، أنا كلمة وحجارتك تاريخ حافل بالأمجاد ، فمن شواهد عظمة دمشق.. خيراتك المتنوعة الكثيرة ، والمسجد الأموي الذي يحلق الحمام بساحاته بأمن وسلام .
“عاشقك، علمني عشقك فوق عشقي!!!!
إني عاشقة للحجارة …
أنا كلمة …
والحجارة تاريخ…!!!
والحمام في ساحة الأموي ….
حي أبدي …
لن يكون محنطا عبر الأيام …
والتوت والمشمش والخوخ والرمان .
على مدار العام …!! “
تخاطب الشاعرة دمشق قائلة حبيبتي .. إن أرضك عاقراً عقيمة لا تنجب زناة الفكر والدعارة أولاد الليل والتخلف ، فربوعك ملاذ للفكر الحر والأدب والشعر .
” حبيبتي لن يكون البغاء يوما ، إلا ..
عاقرا في رباك…
ولن تكون القوافي إلا في أمان في.
في هضابك … “
توجه الشاعرة في المقطع التالي من قصيدتها الرائعة ، عتابا مريرا للعرب .. فالعرب الذين كانوا يؤدون فرائض الطاعة والولاء، لدمشق لأنها قبلة العلم والتنوير والعروبة ، صلبوا ضياء قمرها وألقاها ..بتخاذلهم وتواطئهم وتهافتهم وتنكرهم … كما بذلوا جهوداً جبارة لإشعال النار لحرق أحلام وأماني الأمة قبل أن ترى النور ، وهي في الأرحام . .
” كان العرب يعبدون ضياء القمر في ..
سمائك..
وصلبوه فوق أعتاب قصورهم …
في تلالك…
في تلالك…
حاولوا …
استحالة الموج إلى نار …
حاولوا حرق الأحلام في الأرحام… “
وفي المقطع الأخير من القصيدة تخاطب ” ميساء دكدوك ” دمشق .. يا حلماُ لا نظير له .. فأنا أرضك وأنت أرضي ، أشعر بشوق ورغبة للقياك والالتصاق بك .
” يا حلمي البديع إني أرضك…
وأشتاقك….!!! “
وأخيرا تعود الشاعرة للحديث عن ” دمشق والعاشق والشاعرة ” حيث يدور حوار العشاق ، بين دمشق وعاشقها..في جو حميمي توهجت فيه مشاعر الحب وتلألأت بالوفاء ….دمشق أنت تقيمين في روح عاشقك وروحي ، سلام وأمان على العاشقين ، وسلام وأمان عليك دمشق.. وأنت تصوغين وتصنعين عزة و ورفعة وشرف المهمشين التائهين الضائعين .
ووجه العاشق يسألك…
وتسأليه…
وعبر توهج الحروف والنظرات ..
تسكنين روح العاشق وروحي …
وفي عينيه تتكئين.وعيني..
سلام على العاشقين .
وسلام عليك وأنت تصوغين…
المجد للهائمين بك .
في النهاية نقول إن ( ميساء دكروك ) تفجر كل ما يحرك مشاعرها في قصيدة ” دمشق .. عاشقك وأنا ” ، تشدو للحب، وتناجي الحبيبة دمشق وتتغزل بها ، وتصور الشوق اللاهب لعاشقها ، وتنثر محبة الأوطان والإنسان ، حين أشارت من خلال نصها المعبر الرائع ، لمآثر دمشق وحنوها على أبناء العروبة ..
القصيدة هي إحدى قصائد “ميساء دكروك ” التي عرضت من خلالها صورة حزينة لبلدها سوريا ، كما أشرت لمرحله من مراحل تصدع الوضع العربي ، بتناقضاته وأزماته المريرة ، فكريا وإنسانياً وتصدعاً ..
خالص الود والاحترام للشاعرة ميساء دكروك ، على أمل اللقاء في قصائد جديدة .. متمنيا لك مزيدا من التألق والإبداع .