أغدا ألقاك
القصة القصيرة هي أحد أنواع الأدب، ويمكن القول بأنها سردٌ قصصيٌ مكتوب بطريقة النثر لا الشعر،للكاتب فيها حريّة تغيّير النّص، وإعادة ترتيب الأحداث، و إعادة ربط الحقائق كما يشاء، يستخدم فيها أساليب لغوية مختلفة، وهي إما معقدة أو بسيطة سهلة، مجازية، إيحائية، غامضة.
العنوان عتبة النص الأدبي،وحين تخطو العتبة الأولى لكتاب الكاتبة عنان محروس تجد نفسك بين الكاتب الهادي آدم،والملحن المبدع محمد عبد الوهاب،وتجد نفسك تحن لسماع صوت أم كلثوم وهي تغرد شوقا للحبيب.
إن طبيعة القراءة الواعية لهذا العنوان تمنحنا القدرة على تنوير الموجود أمامنا كمجموعة أيقونات..والكشف عن مكنوناته، وفق ربط محكم بين أطرافه التي ستدخل داخله إلى قصص متنوعة متفرقة متماسكة في الوقت ذاته،وهي النصوص غير القابلة للتفكك..كما يرى جاك دريدا..أو التجزئة هنا الدراسة ليست تفتيتية أو نووية)..فهذه القراءة الواعية التأويلية تنتج لنا نصا لاحقا ثانيا..يكون الدافع الكبير للأصل على الاستشراف،فخطاب الروح في فن القصة مهمته الرئيسة خطاب عقل المتلقي وروحه معا،وهذا الخطاب
القراءة التأويلية..تحيـــل إلى…….قراءة منتجة…..يحيل إلى….خطاب إقناع
، لتتجاوز حدود الاحتمال إلى اليقين..أو القطع بالحكم
يقول جلجامش معبرا عن فزعه من شبح الموت الذي صار يلاحقه بعد موت رفيق عمره أنكيدو وفشله في الحصول على عشبة الخلود وتسليمه بحتمية الموت و الإقرار بالفناء البشري ،والخلود للآلهة:
لقد أفزعني الموت حتى همت على وجهي في الصحاري
إن النازلة التي حصلت بصاحبي تقض مضجعي
آه لقد غدا صاحبي الذي أحببت ترابا
وأنا سأضطجع مثله فلا أقوم أبد الآبدين،
إن هذه الحقيقة الملازمة للحياة، كانت أيقونة الرهبة والخوف والتوجس في نفس الإنسان منذ القديم فعبر عنها في الملاحم والأساطير والحكايات الخرافية، عبر مختلف الأزمنة والأمكنة والعصور.
وتجد الخوف يلازم تلك القصص التي تعيشها الكاتبة سواء حقيقة أم خيالا،الخوف من ترك الحبيب لمحبوبته، الخوف من الهجر،الخوف من الموت،الخوف من السير في الطرقات.
السؤال الذي لازمني حين قراءتي لنصوص الكاتبة محروس :
هل يكون الأدب أدباً إن جافاه الالتزام؟ وما هو تعريف الالتزام؟
إذا تحررنا من قيود التعريفات الأدبية والنقدية وما تلزمنا به، يمكن القول بأن هذا النص فيه التزام لما يعبر عن قضية إنسانية،مع البحث عن الوطنية الذاتية في روحها وبين حروفها.
ـ ولكن هل زاوجت الكاتبة بين الخيال والواقع في هذا النص..؟
في بداية النص التزمت عنان بتصوير الواقع، واقع نشاهده ونعاينه يومياً في حياتنا،وتتدور القضية المركزية في البحث عن الروح والمبدأ والهدف في ظل رجل اعتاد الخيانة والهروب، ويمكن أن يكون أبشع من ذلك.. حوادث من هذا النوع قد تجري في الكواليس.
انتقلت عنان إلى الخيال بعدما أسندت الإحساس للعين بدل الأذن، رغم أنها استعملت الصوت منذ الولوج إلى قضيتها في عنوانها الرئيس،وذلك حين تجد نفسك تدندن موسيقى أغدا ألقاك،تلك الصورة التي ملكتها الأذن قبل العين،فالعين والأذن والذهن والزمن جاؤوا جميعا في توليفة متكاملة. فجاء تزاوج الواقع بالخيال بدرجة متفاوتة حيث غلب الواقع على الخيال.
فالنصوص تبتعد عن الغموض واللبس،بل تمتاز بالبساطة والعفوية، لا تنزاح إلى اللغز أو الطلسم الذي يتطلب جهداً في القراءة أو تأويلات متعددة التي قد تفضي إلى تناقضات كثيرة.. فمشهد الحدث يتنامى عن طريق حركات معينة، كل حركة لا تأخذ زمناً معينا.
وحين أتحدث عن إطلالة نقدية لتلك المجموعة القصصية يطير إلى ذهني قول السكاكي،في كتابه، (المفتاح):” إن المفردات رموز على معانيها “فأنت تجد عادة وأنت تقرأ النصوص القصصية ، دلالة الألفاظ في محتواها المنطقي والبلاغي،ضمن ما تدلّ عليه، مباحث اللغة من خلال رصد دائرة المطابقة في بعض ما تتضمنه من دلالات الكلمة، بوصفها ذات مستويات عديدة في البناء التركيبي للنظام اللغوي..فنجد أن العلامة تتشكل عند الكتاب عرفيا(الكلمة)..وأيقونيا (الصورة)..لتعطي بعد ذلك انعكاسات مختلفة:ائتلافية/اختلافية/معرفية/..وهذه العلامات لا تعطي دلالات إلا من خلال التقاطع أو التعارض مع غيرها..وأمثلة ذلك ظاهرة دلالتها عند الكاتبة في نصوصها مثلا: الفرح..السعادة..
وعلينا أن ننتبه أن هناك رغبة في التجريب والتجديد والانزياح وتكسير التابو السردي عند الكاتب ، بالبحث عن الأشكال السردية الجديدة، فكان العثور على هذا الجنس الجديد من الكتابة وهو القصة القصيرة جدا. دون أن ننسى كذلك مدى التأثر بتراثنا السردي العربي القديم من جهة، والانفتاح على تجارب كتاب أمريكا اللاتينية الذين أظهروا مقدرة إبداعية هائلة في مجال القصة القصيرة جدا. وأكثر من هذا ما قدمه النقد العربي المعاصر من اهتمام بالقصة القصيرة جدا على مستوى التأريخ، والتنظير، والتطبيق، والتشجيع؛ فضلا عن انتشار الندوات والملتقيات والمهرجانات التي تخصصت في القصة القصيرة جدا.
وفي كلمة سريعة لا بدّ أن ننتبه أن جنس القصة القصيرة نوع أدبي صعب المراس، وليس فنا سهلا كما يعتقد كثير من الكتبة ومحرري الأدب، وليس كذلك أحجية أو خبرا أو حديثا أو لغزا أو خاطرة أو شذرة، بل هو نص سردي قصصي قصير ،ويستند إلى الحبكة القصصية ، مع احترام مجموعة من الثوابت والمكونات الفنية والجمالية، مثل: فعلية التركيب، والتتابع، والتراكب، والتسريع، والتنكير، والمفارقة، والإضمار، والإيجاز، والحذف، وانتقاء الأوصاف، والسخرية، والصورة الومضة، واللغة الصادمة…
ومن جهة أخرى، لا يمكن الحديث عن نقد أدبي حقيقي للقصة القصيرة ،إلا إذا كان يراعي مقوماتها الداخلية الثابتة ، وينصت جيدا إلى سماتها الفنية والجمالية التي تحضر وتغيب لذا ما أخطه الآن ليس سوى إطلالة نقدية على فن سردي جميل.