إن سؤال: هل الأدب العربي أدب عالمي؟ سؤال مراوغ وإشكالي.. يدفعنا إما إلى القول بالإيجاب أو بالسلب. وفي الحالتين معا يمكننا أن نطمئن إلى أي من الجوابين حسب موقعنا من أدبنا العربي، دفاعا عنه، أو هجوما عليه، لكن القضية تستدعي تحديد مفهوم الأدب العالمي، والوقوف على موقع الأدب العربي ضمنه.
تتعدد الآراء بخصوص هذه المسألة، وهي تفرض علينا أن نميز بين معيارين لضبط المقصود بالأدب العالمي، فهناك من جهة المعيار الكمي الذي ينبني على ما يعرفه أدب ما من رواج وذيوع عالميا بسبب الترجمة، ودور الإعلام الثقافي، والجوائز، وتحويل النصوص الأدبية إلى السينما وغيرها. هذا المعيار قد يكون صالحا في فترة معينة من الزمن، ولكن ما يعتبر ضمنه عالميا، في زمن ما، قد لا يكون كذلك دائما. أما المعيار الثاني فيبين لنا خصوصية الإنتاج الأدبي وجماليته من جهة، وأثره في الأدب الإنساني من جهة ثانية، وهذا النوع الثاني لا يتصل بصورة خاصة بأدب أمة من الأمم، ولكن بنصوص تنتمي إليها في أزمنة معينة. هذه النصوص التي تتعالى على الزمان والمكان، ويظل تأثيرها قائما بصورة شبه دائمة.
يهتم العرب كثيرا بالعالمية، وينشدونها، وهي في رأيي غير دالة دائما على التميز الإبداعي، فالترجمة والانتشار من المسائل التي يحلم بها كل مبدع في أي مكان من العالم، لكن ذلك لا يعني أنه يجعل الأثر الأدبي عالميا. قد نترجم بعض أعمالنا إلى لغات متعددة، وقد يحصل بعضها على جوائز عالمية، لكن هذا إذا لم يوازه نص أدبي متفرد، وذو خصوصية تضاف إلى التجربة الإبداعية في زمانها فإنها لا تكون عالمية. إن الحرص على جعل آدابنا معروفة لدى القارئ الأجنبي مدخل لرواجه وانتشاره. وهذا مطلب مشروع لإيصال إبداعاتنا ليتعرف عليها القارئ في أي مكان، لذلك لا بد من أن تضطلع مختلف المؤسسات المتصلة بالموضوع بالقيام بدورها في هذا الاتجاه.
ولعل من نافل القول الذهاب إلى أنه قبل أن نتحدث عن أدب عربي بملامح عالمية، أن نثير مدى «عربية» هذا الإبداع العربي. لا شك في أن الكتاب العربي الإبداعي يطلع عليه القارئ العربي. لكن ضعف وسائل النشر والتوزيع، والإعلام الثقافي يسهم في جعل الإبداع العربي لا يصل دائما إلى القارئ في الوقت المناسب، وبما يساعده على الإقبال عليه تحت فعل النقد والإعلام. لقد ترك هذا الدور للجوائز العربية، فهي التي تقدم لنا من خلال لوائحها الطويلة والقصيرة والفائزة بعض النصوص التي تقترحها علينا، من خلال عملية تمييزها عن غيرها، وهذا غير كاف، فللإعلام الثقافي دور مهم لأنه يتوجه إلى القارئ يوميا. أما موسمية الجوائز فإنها تجعل مواكبة ما يصدر سنويا، ومن دور نشر محدودة التوزيع شبه مستحيلة.
علينا أن نعمل أولا على جعل «العربية» مطلبا يتحقق قبل التفكير في «العالمية»، بل لا بد من الحديث أولا عن «قطرية» هذا الإبداع قبل الحلم بعالميته. تصدر في المغرب، مثلا، بعض النصوص الجيدة، ولا أتعرف عليها، إلا بعد مرور سنوات أحيانا، فأجدني أتساءل أين كنت حتى غابت عني أمثالها؟ ويقع لي الأمر نفسه مع نصوص عربية، لا أتعرف عليها إلا بعد لقاء بعض الكتاب أو يهدى إليّ بعضها. أتذكر في السبعينيات حين كانت دور النشر نشيطة، وكانت الملاحق الثقافية تقدم دائما جديد الإصدارات كيف أننا كنا نطلع، كجيل، على النصوص المختلفة شعرا وسردا ومسرحأ. الآن تكاثرت دور النشر، وتضاعف الإنتاج، وقل الإعلام الثقافي رغم كثرة القنوات، ووسائط التواصل الاجتماعي، ومع ذلك نجدنا أنفسنا غير قادرين على معرفة ما يصدر من إنتاجات أدبية عربية.
يفرض العمل الإبداعي نفسه على القارئ من خلال ما يتميز به عن غيره في زمن ما. وتكتسب الأعمال العالمية قيمتها في ما تضيفه إلى الإبداع الإنساني، وبما تحققه من أثر في غيرها من الآداب. ويلعب النقد والبحث الأدبيان دورا كبيرا في استكشاف ما تتميز به هذه الأعمال باستمرار. وما دمنا نسعى إلى تحقيق العالمية على مستوى الإبداع، لا بد لنا من التساؤل عن مدى «عالمية» نقدنا، أو دراساتنا الأدبية؟ لا أقصد بذلك أن ننتج نظريات، فهذا مستبعد، ولكن أعني فقط مدى انخراطنا في التيارات والنظريات الأدبية العالمية، من منظور يجعلنا قادرين على المساهمة في الفكر الأدبي الإنساني. ولعل تطوير النقد المواكب من خلال الإعلام، والدراسة الأدبية من خلال البحث الأكاديمي كفيلان بتأكيد الحضور قطريا، وعربيا. كما أن ترجمة الدراسات الأدبية العربية إلى اللغات الأجنبية كفيلة بالتعريف بالنصوص العربية، إذ لا يمكننا انتظار الباحثين الأجانب للكتابة عن رواياتنا مثلا.
سئل محمود المسعدي عن الأدب «التونسي»؟ فقال: أتمنى شخصيا ألا يكون لنا أدب «تونسي» في المعنى الضيق كما يتصوره الناس عادة، بل أتمنى ألا يكون لنا إلا أدب يكون فرعا من الأدب العربي عامة، ويكون في ضمنه، وبواسطته شعبة من الأدب العالمي الأصيل».