من إصدارات المجلة العربية لعام 1432/2011 يأتي كتاب (الأدب الموريسكي: قراءة في المتاح) للأديب الباحث الدكتور عبدالله علي ثقفان ليزيح الستار عن أدب حقبة زمنية تكاد تكون منسية في ذاكرة التاريخ والأدب.
لا نعرف شيئا ذا بال عن حال الأندلس بعد سقوطها المريع سنة 1492م . كل ما نعرفه أن الإسبان بعد حروب الاسترداد – كما يسمونها – استعادوا بلادهم وقاموا بأفعال أقل ما توصف به أنها أفعال وحشية بحق العرب المسلمين. واجهوهم بحرب إبادة وتعذيب جسدي واستعباد وتنصير، وحددوا إقامتهم في مناطق خاصة، مع إجبارهم على ترك أبوابهم مفتوحة لغرض تسهيل ملاحقة دواوين التفتيش لهم. أما من لم يذعن لهذه الأحكام وآثر البقاء على دينه فكان نصيبه التهجير القسري إلى المغرب.
يبدأ الكتاب بمقدمة تناول فيها مؤلفه الصعوبات التي اكتنفته في سبيل تأليف هذا الكتاب على رأسها أنه يبحث في أدب غير متاح.. ثم ينتقل بنا إلى مدخل يعرض فيه فترة الحكم الإسلامي في الأندلس طيلة ثمانية قرون، ويشبهها المؤلف «بمسرحية مكونة من عدة فصول أسوؤها الفصل الأخير … الفصول بين الأول والأخير لم تعرف الفرح كله؛ كما لم تعرف الحزن كله». [ص11]
ثم ينتقل إلى تمهيد يعرِّف القارئ بالموريسكيين ولغتهم، وتعدد وجهات نظر الباحثين الأجانب في تحديد من ينطبق عليه هذه التسمية، فمنهم من يرى الموريسكيين أولئك الذين اعتنقوا الديانة المسيحية طواعية أو كرها وكذلك الذين فضلوا روح المقاومة بعد سقوط غرناطة عام 1492. ومنهم من يحصرهم في الذين نُصِّروا وبقوا في شبه جزيرة (إيبريا) وصهروا في بوتقة المجتمع الإسباني فيما بعد. [ص26]
أما لفظ (موريسكي) فيخبرنا المؤلف أنها تعني ذا البشرة السمراء أو داكن البشرة، وأن هذا المفهوم قد تمدد ليتحول في العصور الوسطى إلى معنى (الإنسان غير المسيحي). [ص25] وقد تعني اللفظة تصغيرا تحقيريا لكلمة (Moro) أي (العرب الأصاغر) أو (المسلمون الصغار) تقليلا من قدرهم. وهي «ردة فعل على تلك التسمية القديمة التي أطلقت من طرف العرب المسلمين على الذميين أو المسالمين الذين ظلوا على دينهم فكانوا يعرفون بالمستعربين». [ص25]
لكن ماذا عن الأدب في تلك الفترة؛ سواء لمن بقوا أو لمن هاجروا منذ نهاية القرن الخامس عشر؟ وبأية لغة كتب القوم؟ وما مصير مؤلفاتهم؟ يجيب عن هذه الأسئلة الدكتور ثقفان بأن القضاء على اللغة العربية كان جزءا من المخطط الشامل لطمس هوية العرب الذين آثروا البقاء على الرحيل إلى المغرب، فلقد مر طمس الهوية بخطوات متدرجة بدأت بتعليق الصلبان على المساجد، ثم منع الصلاة فيها، وتلا ذلك تحويل المساجد إلى كنائس، ثم منع التخاطب باللغة العربية. حتى إذا حل عام 1526 حُرِّمت اللغة العربية والملابس العربية وتسمية المواليد بالأسماء العربية. وكان ذلك مقصورا في البدء على المناطق التي يشكل المسلمون فيها أقلية، لكن بعد أربعين سنة – أي في عام 1566- عممت هذه الأحكام الجائرة على المدن ذات الأغلبية المسلمة مثل (غرناطة) و(بلنسية) فأمهلوا المسلمين ثلاث سنوات لتعلم اللغة (القشتالية) يمنع بعدها التعامل باللغة العربية قراءة وكتابة وتقاضيا، وتصبح العقود المكتوبة بالعربية باطلة. وقد سبق هذه الخطوة حرق الكتب وبخاصة الكتب الدينية؛ وعلى رأسها القرآن الكريم.
وكانت اللغة العربية – كما يحدثنا المؤلف – قد وصلت الغاية من الركاكة حتى قبل محاربتها ومنعها. وأخذت تضمحل تدريجيا، وما إن دخل القرن الثامن عشر حتى كان الموريسكيون يتحدثون لغة خاصة؛ هي مزيج من العربية والقشتالية عرفت باللغة (الخميادية) Aljamiado [ص38] أخذوا يكتبون بها معبرين عن أفكارهم ومشاعرهم، ومحافظين على البقية الباقية من تراثهم الديني. كتبوا بها الأوردة والأدعية لكنها لم تمكنهم من قراءة القرآن الكريم والحديث الشريف أو كتابته.
بدأ الضعف يدب إلى الأدب الأندلسي بعد أن طال الضعف اللغة العربية منذ أن بدأت المدن الرئيسة كقرطبة وإشبيلية وبلنسية تتهاوى في أيدي المسيحيين قبل منتصف القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) ولم يتبق سوى غرناطة تنتظر دورها. فقد الشعر وهجه فلجأ الغرناطي إلى الزجل لارتباطه باللغة اليومية، فكتب للتنديد والتهييج، وكتب يشكو الزمان ويرثي المفقودين من الناس والمدن، وظهر الغناء الحزين كمثل قول ابن الأحمر [ص48]:
الحمراء حنينه والقصور تبكي
على ما جرى لمولاي بو عبداللي
هات لي فرسي ودرقتي البيضا
وش نمشي نقاتل ونأخذ الحمراء
هات لي فرسي ودرقتي الديدي
وش نمشي نقاتل وناخذ أولادي
أولادي في (وادياش)، ومراتي في جبل (طارق)
يا ستي يام الفتى
ومع بؤس هذا الأدب فقد ضاع معظمه أو أحرق، في حين تصدر الساحة الشعراء الإسبان في القرنين السادس عشر والسابع عشر، فسجلوا هذه المآسي فيما عرف بالشعر الملحمي، مثل ملحمة الشاعر (غاسبا ر أفيلار) وملحمة الشاعر (خوان منديث دي باسكونثيلوس) وملحمة الشاعر (بيثينتي بيريث دي كويا). وتُظهر بعض المقاطع المترجمة من هذه الملاحم الموقف الإسباني ضد مسلمي هذه المرحلة مثل قول (أفيلار) محاولا إقناع الملك بالتراجع عن قرار الطرد [ص52]:
لو يغادر الموريسكيون فجأة
ستبقى المملكة ضائعة
فقيرة
لأن كل تجارة القوم
بأيديهم
يدار أمرها
وقال (منديث) في ملحمته عن تهجير الموريسكيين [ص52-53]:
هجرة مضنية
أمر فظيع
مشحنة بالمبهم
أحزان ثقيلة في غمرتها ينفد الصبر
وترتعش لها آلام الروح العدوة
على أن (أفيلار) امتدح دوق (فانديا) ومجهوداته في ترحيل الموريسكيين، إذ يقول [ص53]:
لم ينعم مطلقا
براحة أو هوادة
حتى اقتلع كل من كان تحت إمرته
وهناك ملاحم وصفت معاناة الموريسكيين بعد طردهم وسوء استقبالهم في (تلمسان) حيث تعرضوا للسلب والنهب؛ مما جعل الباقين يرفضون الترحيل ويبدون المعارضة والمقاومة. [ص54]
وقد ظهرت قصائد رثاء الإسلام في الأندلس والبكاء على ما حل بالمسلمين على شاكلة قصيدة أحمد بن محمد الصنهاجي الشهير بـ(الدقون) التي منها: [ص55]:
وكيف لا؟ وبقاع الدين خالية من أرض أندلس من أجل أهوال
عمت فغمت قلوب المسلمين فيا للمسلمين من اعداء وأنكال
ويحمِّل أحد المغنين أغانيه بالزفرات والآهات للتعبير عن الألم فيقول [ص57]:
ابكي يا عيني وزيدي في البكاء
ابكي إلى عندك علاش تبكي
ما عيب فالرجل إلى شكا
إلى شفتوا الدموع على خدي تسيل
لله لا تزولوا من يدي المنديل
حزني عميق على المحبوب
وكل ما بكيت همومي تدوب
وقد عرض علينا المؤلف شهادات تدل على هول الفاجعة كتبت بلغة عربية رديئة. ومع رداءة هذا النتاج فقد ضاع بين الوأد والإخفاء، وما وُجد كتب بلغة معماة ليس فيها من العربية سوى حروفها، وقد توصل الباحثون في القرن التاسع عشر إلى فك رموز هذه اللغة، وعثروا على أكثر من مائتي مخطوطة في المكتبات الإسبانية والأجنبية. [ص61]
وقد ختم المؤلف الفصلين الأخيرين من كتابه الجليل بنماذج للأدب الموريسكي بشقيه الشعر والنثر وصل لنا معظمها عن طريق ترجمة هذه اللغة المعماة.
ونأمل – كما يأمل المؤلف – أن يمثل هذا البحث نقطة انطلاقة أخرى لمؤلفات عن الموريسكيين.
( الجزيرة )