الأديب الأردني:محمد أبو الهيجاء: “زُهْدِيَات على عزفِ الوَتَر” للشاعرة أحلام حسين غانم

مدخل

تتجلّى في هذه القصيدة رؤيةٌ صوفيّةٌ وجودية عميقة، تُصوِّر رحلةَ الذات الشاعرة في بحثها عن الحقيقة والمعنى، وسطَ حالةٍ من الحنين والتّعَفُّفِ الروحي. تَنْسَجُ الشاعرةُ نسيجَ قصيدتها بخيوطٍ من الانزياح اللغوي والانزياح الدلالي، مُشكِّلةً عالماً شعرياً مكثّفاً.

أولاً: تحليل المحتوى والموضوعات

1. الرحلة الروحية والبحث عن الذات: تبدأ القصيدة باستفهام وجودي: “من أين أبدأ..” ليعلنَ عن رحلةٍ داخليةٍ يَحمِلُ فيها الشاعرُ أدواتِه (“دَواتي”) من حنين وشعر، ويهتدي بصوت إلهي داخلي (“صوت إلهي”). إنها رحلة تجمع بين الثقلين: المادي والروحي (“يتآلف الثقلان”).
2. الزهد والتجريد: يتجسّد العنوان “زُهْدِيَات” في ثيمات القصيدة الرئيسة، حيث يظهر التّعَفُّف (الترفع عن الدنايا) كرسالة الشعر الأساسية. ويمثّل التخلي عن الأشكال التقليدية للمعرفة (“شجر الحقيقة”، “سكنى العصافير”)، والاكتفاء بظلّ الذات ومرثيتها، مظهراً من مظاهر الزهد الوجودي.
3. المعرفة والأحجية: يُصوَّرُ العالمُ على أنه “سفر أحاجي”، والمعرفةُ عمليةٌ شاقةٌ تَحمِلُ في طياتها السؤالَ المُضني (“أضناني سؤالي”). الحكمةُ هنا ليست جواباً جاهزاً، بل هي رحلة طرح الأسئلة والبحث.
4. الصراع الداخلي والتناقض: يعبّر الشاعر عن حيرته وتوتره من خلال صورٍ قوية:
· “وضربتُ أخماسي بأسداسي وخوفي”: تعبير مجازي عن التصادم الداخلي وعدم الانسجام.
· “جرعتُ غيظَ اللوعة الكبرى”: تجسيدٌ للألم العميق الذي لا يُكَتَم.
5. الانزياح والتجلي الصوفي: تبلغ القصيدة ذروتها في الانزياح عن المنطق المادي إلى فضاء التجلّي الروحي، حيث تتحول الذات إلى جوهرٍ نورانيّ (“الدُّرُّ”) يسبح في مهابة الكون (“يَسْبَحُ بالنُّجومِ السَّابِحاتِ”). إنه تحوّل من حالة الضياع (“تُغويهِ الخفايا”) إلى حالة الهداية (“ثُمَّ هادَى”).
6. الذات والغياب: تُختَتَمُ القصيدة باستعارة لغوية عميقة: “فأنا اشْتِغَالُ الياءِ / لو غابتْ وأظهرَها الزَّوال”. هنا، تُصوَّرُ الذاتُ كحركةٍ أو وظيفةٍ لغوية (اشتغال)، يكون وجودها أقوى وأوضح في لحظة الغياب أو الفناء (الزوال). إنها إشارة إلى الفناء الصوفي، حيث يتحقق المعنى الكامل للوجود في ذوبانه في المطلق.

ثانياً: الخصائص الفنية والأسلوبية

1. اللغة والمجاز: تستخدم الشاعرة لغةً مجازيةً غنيةً ومبتكرة:
· الاستعارة: “الحنين دواتي”، “الشعر رسول”، “ضربتُ أخماسي بأسداسي”.
· الكناية: “اريْتُ كُلَّ العاجزين عن التأني” (أي أنقذتهم بصبري وحكمتي).
· التجسيد: “الحزن أبدع”، “هبّت على عزف الوتر”.
2. التكرار والموسيقى الداخلية:
· يُستخدم التكرار (“لم يبقَ من…”) لإحداث إيقاع تراتلي ولفت الانتباه إلى حالة الفقد والغربة الوجودية.
· الموسيقى النابعة من جرس الكلمات ومناخاتها (“عزف الوتر”، “هبّت”، “السابحات”) تُضفي طابعاً تأملياً.
3. البناء الدرامي: تسير القصيدة كمسرحية داخلية، تبدأ بالاستفهام والتيه، وتمرّ بأطوار الصراع والألم، لتنتهي بانزياح صوفي وتصوّرٍ للذات في حالةٍ من الفناء والوضوح المُطلق.
4. الرمزية: تحمل الكثير من الصور دلالات رمزية:
· الوتر: رمز للنفس الإنسانية الحساسة أو للعلاقة الروقية بين الذات والخالق.
· البحور: رمز للعالم الواسع أو للمعرفة العميقة.
· النجوم السابحات: رمز للنظام الكوني السامي والمهابة الإلهية.

الخلاصة

قصيدة “زُهْدِيَات على عزفِ الوَتَر” هي تجلٍّ شعري مكثّف لفلسفة زهدية صوفية. لا تقدم الشاعرة وصيةً أو عقيدةً جاهزة، بل ترسم خريطةً لرحلة الوعي الشاقّة من “الأحاجي” و”السؤال المُضني” نحو لحظة الانزياح الصوفي، حيث تتحول الذات من كائنٍ حائرٍ إلى “درٍّ” مَهِيِّئٍ للسَّباحة في فضاء المهابة الإلهية، ويُدرَكُ معناها الكامل في “اشتغالها” وانزياحها، كما تدرك قيمة “الياء” (كحرف عطف وربط ووجود) عند غيابها. إنها قصيدة عن البحث عن السلام الداخلي عبر التجرّد والفناء في المعنى الأكبر.
القصيدة:
●زُهْدِيَات على عزفِ الوَتَر ●
__ شعر: أحلام حسين غانم

منْ أينَ أبدأ.. والحنينُ دَواتي
والشعرُ في نفسي رسولُ تَعَفُّفٍ
وبيوتُ إيمانٍ وصوتُ إلهي
الحزنُ أبدع في دوائر مقلتي
وعلى يدي يَتَآلَفُ الثَّقَلَان
لَمْ يَبْقَ مِنْ شجرِ الحقيقةِ غيرُ ظلِّي
لَمْ يَبْقَ مِنْ سُكْنَى
العصافيرِ الأسيرةِ غيرُ مرْثِيَةٍ وَلُغْزِ
لَمْ يَبْقَ مِنْ سفرِ الأحاجي غيرُ أنْ أبلغ الأحاجيَ والمعاني
وَأنا على هِبَةِ البحورِ أجودُ أحجيةً وأضناني سؤالي
واريْتُ كُلَّ العاجزينِ عَنِ التَّأنِّي
وَضربتُ أخماسي بأسداسي وَخوفي
وذَرَرْتُ في بحر الرَّجاءِ حروفيَ الحَيْرَى خَبَرْ
وَجَرَعْتُ غيظَ اللوعةِ الكبرى وبحري ما كَتَمْ
راودتُهُ بالحِلْمِ
أهديتُهُ كُلَّ التكايا زُهْدِيَاتِ جداولٍ
هَبَّتْ على عزفِ الوَتَرْ..
أَتُرَانيَ المَجنونُ في وَطَنٍ تُسيِّرُهُ الجَواري …؟
أَتُرَانيَ الدُّرُّ الذي ألِفَ الدَّراري ..؟
وَصَارَ يَسْبَحُ بالنُّجومِ السَّابِحاتِ مهابةً
إذْ كانَ تُغويهِ الخفايا ثُمَّ هادَى …
أَيجوزُ أنْ أَثْنِي طلوعي للسلامْ؟
أَيجوزُ أنْ أُشْكي وضوحًا عندما أَهوى المجازْ؟
فَأنا اشْتِغَالُ الياءِ
لو غابتْ وَأظهرَها الزَّوالْ.

 

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!