مادونا عسكر/ لبنان
المرحلة الأخطر الّتي يمكن أن يبلغها الإنسان في مراحل حياته هي تلك الّتي يُشعره فيها العالم أنّه على خطأ إذا ما حافظ على مبادئه وقناعاته. فينهكه الصّراع الدّاخليّ بين الصّواب والخطأ، وقد يهزمه ويحوّله إمّا إلى الانعزال، وإمّا إلى الانجرار إلى تفاهات هذا العالم، وذلك بحكم عدم القدرة على المقاومة.
يجب أن نعترف أنّ هذا العالم الفاني لا يحمل الكثير من الفرح والاكتفاء للإنسان، وذلك بغضّ النّظر عن قناعاتنا الدّينيّة والفكريّة، وبغضّ النّظر عمّا سيؤول إليه هذا العالم. العالم، كمرحلة مؤقّتة، قصيرة كانت أم طويلة، هي مرحلة مربكة للتّفكير، كما أنّها تفترض تساؤلات عديدة في مواجهة إجابات شحيحة. والّذين يعيشون على هامش الحياة لا يلتفتون إلى أهمّية التّعمّق في جوهر العالم وقيمته وسببه وغايته. فهم يحاولون الاستفادة قدر الإمكان من ماديّة العالم ظنّاً منهم أنّ الحياة تكمن في تلك القيود الذّهبيّة. ومن قيد إلى قيد، يغرقون في دوّامة المادّة حتّى تشكّل عبئاً من العسير التّفلّت منه. ترادف دلالة المادّة كلّ ما هو فانٍ، وما هو الباقي في هذه الحياة؟
يؤدّي هذا التّعلّق بالمادّة الفانية إلى ما نراه من حولنا من فساد وإهمال واستهتار وتفاهات لا تُعد ولا تحصى دون الأخذ بعين الاعتبار “الأنا” الّتي ينبغي البحث عنها. فيقتصر الموضوع على الاهتمام بالأنا الخارجيّة. وكلّما تمسّك الإنسان بأناه الظّاهريّة ابتعد عن أناه الحقيقية وعن الآخر أو اقترب منه بقدر ما تسمح المصلحة. فتمسي العلاقات مرتبطة بالمصلحة إيجابيّاً أو سلبيّاً وغير مرتبطة بالشّخص كشخص. المادّة نقطة التقاء زائفة تجعل من الحياة الظّاهريّة وهماً، لكنّها في العمق تخفي حقيقة تحتاج للبحث والتّأمّل. تلك الحقيقة لامسها أفراد قليلون فانعزلوا ليتعاملوا معها كحياة حقيقيّة. وما انعزالهم إلّا تفرّد في اتّخاذ قرار مقاومة العالم. فينفصلون عن العالم ولا يتعلّقون بشيء فيتحرّرون من كلّ شيء. يقاومون بعنف هادئ، بألم يرتقي بهم إلى مستوى الحقيقة، بحبّ لا يعرفه العالم. ولو عرفه لأدرك الموت الّذي يحياه. هؤلاء المنعزلون يعانون ما يعانون لا من العزلة بل من مستوى الإدراك الّذي بلغوه، وهو الحقيقة الزّائفة الّتي يحياها العالم، ويستمتع بها. الألم الحقيقي يكمن في قوّة الوعي، وبلوغ النّضج الّذي يسلّط الضّوء على عتمة الجهل الكامن في النّفس الإنسانيّة، فيهجرون أنفسهم ليلقوها في دائرة الحقيقة، دائرة العشق.وهم في هذه الدّائرة يواجهون العالم بصمت وحكمة ولكن بألم، ألم الواعين الّذين ما برحوا في العالم وهم منفصلون عنه. هم لا يقاومون أشخاصاً وإنّما منهج العالم الّذي لا يمثّلهم ولا ينتمون إليه.
من هذه المقاومة يتفجّر الفكر والجمال والحكمة،لأنّها على اتّصال بالحبّ، ولأنّها مقاومة داخليّة غير ظاهرة للعلن تسهم في التّوازن الإنساني والتّوق إلى ما بعد هذا العالم، حيث الحرّيّة والاكتمال. فيؤثّرون في بعض النّفوس، وينتشلونها من بؤسها الإنسانيّ، ويربكون أخرى مستعبدة.
هذا العالم بكلّ ما فيه بقعة ضوء باهتة يتصارع فيها الإنسان معها ومع ذاته دون أن يفهم سبب هذا الصّراع. يهدر الكثير من الوقت في بناء حقيقته الهشّة غير متنبّه إلى حقيقة أسمى ولد من أجلها ويخلص إليها. ولا يبلغ سلام القلب إلّا بقدر ما يستغني عن العالم غير متعلّق به، حاسباً إيّاه لحظة عابرة في أبديّة قائمة.