مادونا عسكر/ لبنان
يرتبط العشق الإلهيّ ارتباطاً وثيقاً بالألم بمعناه العميق الّذي يبيّن إنسانيّة الإنسان من جهة، ومن جهة أخرى يعرّف الإنسان حجمه أمام الله فيجرّده من أناه الفارغة الهشّة ليصيّره بالكامل إنساناً مهيّأً مستحقّاً لولوج قلب الله. والألم بمعناه العميق هو ذاك الشّوق الّذي يوجّه الكيان الإنسانيّ نحو الحبّ الإلهيّ. الألم الّذي يقود إلى الفرح لا إلى الكآبة، فالكآبة تبتلع الإنسان وأمّا الألم فينمو به. الألم الّذي يبيّن للإنسان حجمه أمام فيض الحبّ الإلهيّ. إنّه العنصر الأساسيّ للعلاقة الإلهيّة الإنسانيّة فيهيّئ الإنسان للانفتاح على البعد الآخر للحياة، العالم الإلهيّ.
إنّه الألم الإلهيّ لذلك يطيب للعاشق أن يتمرّس به، لأنّه نتيجة العشق الموجّه بالكلّيّة نحو الّذات الإلهيّة. فيذوب عشقاً وألماً حتّى يستحكم به الهوى. ويعبّر ابن لفارض عن هذا الألم البهيّ قائلاً:
قلبى يُحَدّثنى بأَنّكَ مُتْلِفِي
روحي فِداكَ عرَفْتَ أمَ لم تَعْرِفِ
لم أَقْضِ حَقّ هَواكَ إن كُنتُ الذي
لم أقضِ فيِه أسىً ومِثليَ مَنْ يَفي
ليس الألم مرحلة في حياة العاشق، وإنّما هو كلّ الحياة. ويشبه الألم آلة حادّة تقشّر هيأة الأنا الظّاهرة والباطنة لتظهر الأنا الّتي على صورة المعشوق الإلهيّ. إنّه درب الاستحقاق لهذا العشق الّذي يمسك الأزل بشماله والأبد بيمينه. فبلوغ قلب الله والاتّحاد به استحقاق يقوده الألم برفعة وطهر ونقاء، يقول ابن الفارض:
عذِّبْ بما شئتَ غيرَ البعدِ عـنــ// ـكَ تجدْ أوفى مُحِبٍّ، بما يُرْضيكَ مُبْتَهِجِ
وخذْ بقيَّة َما أبقيتَ منْ رمقٍ لا// خيرَ في الحبِّ إنْ أبقى على المهجِ
يدرك العاشق حينما يرتبط بالحبّ الإلهيّ أنّ الفرح في هذا العالم لا يساوي شيئاً أمام الفرح الأبديّ الّذي ينغمس به منذ الآن. فيسعى إليه عن وعيٍ متخطّياً ملذّات هذا العالم الآنيّة. فالوعي أساس في هذه العلاقة الإنسانيّة الإلهيّة، لأنّ دونه تحلّ العاطفة بدل العشق. والعاطفة الإنسانيّة متناقضة ومتقلّبة، وأمّا العشق فثابت واثق لا يزعزعه أيّ شيء.
يعبّر القدّيس غريغوريوس بالاماس في هذا المنظور نفسه قائلاً: “تساعد البلايا المؤمن على التّخلص من الخطايا، وعلى أن يكون متدرّباً ومختبراً، وعلى أن يفهم بؤس هذه الحياة، وعلى أن يرغب بحرارة ويطلب باجتهاد التّبنّي الأبديّ كأبناء، والفداء، والحياة الجديدة بحق، والبركة”. ويضعنا القديس غريغوريوس هنا أمام العشق المطهّر الّذي سيرفع الإنسان إلى قيمة العشق الإلهيّ. فبالتّخلّص من الخطيئة، بمعناها الّذي يتضمّن رفض المحبّة الإلهيّة، يظهر الجمال الإنسانيّ. لذلك كلّما انكشف للعاشق جماله على ضوء الحبّ الإلهيّ طلب المزيد من القرب. ويقول القدّيس نيقوديموس الآثوسي: “كلّما كان الشّخص أكثر ألماً ومعاناة في العالم الحاضر تسامى عقله فوق الحدود الضّيّقة لهذا العالم. إنّه يتجاوز ارتفاع السّماوات، ويصل في النّهاية إلى مكان فسيح متّسع بلا قياس، وبمجرد أن يصل إلى هناك فإنّه يبتهج ويجد الرّاحة في معاينة الله العذبة.” ولا ريب أنّ القدّيس نيقوديموس الآثوسي عنى الحالة العشقّيّة الّتي يحياها العاشق الإلهيّ وهو في العالم. ويحملنا القدّيس بولس إلى ذروة العشق حينما يقول: “إني أحسب أنّ آلام الزّمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا.”
الألم سمة العاشقين وعنصر حالتهم العشقيّة، يرتقي بهم إلى رتبة الإنسانيّة ليقودهم إلى قلب المعشوق الإلهيّ. وما القصائد الّتي تضمّنت مفهوم العشق الإلهيّ إلّا وحي انفتحوا عليه فأغدق عليهم بالنّور الإلهيّ.