آفاق حرة
بقلم :بسام الحروري
يعد الاقتراب من حقل صوفيا الهدار الدلالي على سلاسته أشبه ما يكون بالمغامرة أو الخوض في حقل ألغام يستدعي الحيطة والحذر،
كيف تضع موطئ قدم لذهنيتك؟ وأنت تخطو في ماورائيات الظواهر والأحداث والعلاقات وعلائقها بالأنساق الظاهرة منها والمضمرة دون قطع صلتها بالأطر المجتمعية وهي تقولبها بمكر !
حيث تبدو بعض النصوص على بساطتها إلا انها تمثل عند الإيغال فيها مصيدة وأحابيل والغام قد تنفجر بشكل دارامتيكي تعمدت صوفيا حبكها جيدا وبمكر كما أشرت.
والهدار من الوجوه الواعدة في حقل الكتابة خاضت معتركها السردي منذ فترة قريبة ،لكنها تطورت بشكل لافت في الفترة الأخيرة من خلال الاشتغال على الذات إلى جانب كونها قارئة نهمة للأدب العالمي والعربي والمحلي ،ومن حقل الرياضيات
– التخصص – جاءت صوفيا متجردة من جفافه إذ دلفت إلى عالهما السردي متلفعة ببردة الخيال، حين لم يرق لها أن ١+ ١ يساوي ٢ ، والهدار تميل إلى الاختزال والتكثيف في حواراتها ،وسردها ،ووصفها ،
وعناوينها ،ففي لغتها الحوارية تتبع تقنية ” التنس ” ضربة بضربة ،وفي عناوينها تفضل العناوين الثلاثية أو الرباعية الحروف المختزلة كما في نصوص : “وسم” / ” زار ” /
” عبث” /” جدار” /” صرة/” /”غربة ” / ” كوما /”شاهد”/ وغيرها ..
وهي ملتقطة جيدة لليوميات بارعة في إعادة تدوير حكايا الواقع المطعم بالخرافات وخوارق الأولياء والأسياد مرتكزة في ذلك على عناصر البيئة الشعبية وأدواتها منطلقة من النقدية الواقعية ، وبالتالي توظيفها بشكل إبداعي يخدم الأفق العام لأنساق السرد ومحتوياته ما عزز من تنامي ذائقتها الأدبية تجاه نصها حين تستحضرها وهي تكتب لتظل أناها القارئة ،والمتذوقة رقيبا على ذاتها الساردة ،وهو ما يراه الشاعر الكبير نزار قباني “في كيفية أن يبقى الكاتب أو الشاعر شرطي سير تجاه نصه” بمعنى أن يراه بعين القارئ والناقد
،ومن ذات المجتمع المكرس بالسلطة الذكورية أيضا جاءت صوفيا لتقصص علينا عبر شهرزاداتها المقموعات على امتداد مساحات السرد سيرهن وحكاياهن المتباينة ، كالدمية السلعة في نص “صرة” والزوجة المضطهدة ،والمقهورة التي تغالب قهرها بالرقص والزار في نص “زار ” ، وكذلك الزوجة بطلة القصة في نص” نصف ساعة ” وشخصية الساردة ذاتها من خلال التقمص وهي تخضع لمسألة الأقدار – على حد توصيفها- في تسيير الرجل لها من خلال نرده المتدحرج في نص ” لعبة النرد ”
المغايرة في التوصيف
وإلى جانب التكثيف والاختزال تعتمد صوفيا تقنية التداعي والومضات “الفلاشات “في سردها ووصفها وهو ما أضفى على نصها سمة التشويق وخلصها من الاسترسال الباعث على الرتابة والنمطية التي نلمسها عند البعض من بني جيلها في مجال القصة.
ففي نص “غربة” تسرد لنا الكاتبة على لسان بطل القصة حين عاد إلى أرض الوطن حديثه عن بشاعة وجه الحرب ،ومآلات ما بعد الحرب : ( رأيتها في المباني والطرقات، رأيتها في أيد صغيرة ممدودة للتسول ، وأخرى تمسح زجاج السيارات ، رأيتها في فوهات البنادق على أكتاف المدنيين ، وفي زحام الشتائم ، وغياب إشارات المرور ،وعندما أعدت بصري إلى داخل السيارة رأيتها في جسد ناجي وحديثه. )
وقد اعتمدت في ذلك على التداعي وتوالي الفلاشات المكثفة في رسم صور الحرب كما أسلفت ما خلص النص من المباشرة التي يتبعها التوصيف والسرد الكلاسيكي المباشر، حيث أظهرت واقع ما بعد الحرب كنتاج تقليدي لهذه الحرب ولكن بصور متجددة ،أي نعم كانت شخصية بطل القصة هي الساردة لكنها أي صوفيا تركت القارئ يستشعر أنسنة هذا السرد الذي مازجت فيه ما بين الحي والجماد ومنحت فلاشات عدستها السردية روحا خلاقة تمتح الألم والنزيف الصامت والنحيب المكتوم لما آل إليه وضع البلاد من وجدان المتلقي .
البانوراما التوصيفية التي قدمتها لنا كانت تنحت الكثير من التساؤلات المصبوغة بالأسى
في قلوبنا وتقدم لنا هذا الواقع البائس بشكل مغاير رغم اننا لسنا غرباء عن هذه المشاهد والصور بل هي جزء من يومياتنا نحن أبناء هذا البلد ،لكن التقنية هنا اختلفت، التقنية التي اعتمدتها الهدار في وصفها المغاير وشكلها المغاير وروحها المغايرة التي بثتها جماداتها إلى جانب الأحياء ،لذا جاءت الصور مقولبة بخصوصية عامة بمعنى ان الكاتبة سحبت الهم والألم الذاتي على الواقع الجمعي العام كان بالإمكان ان يمر السارد المغترب بطل القصة مرور الكرام كونه لم يشهد أحداث الحرب، وبم أن شكله وهيئته ولهجته قد تغيرت كما يسرد هو في النص،
خمس وعشرون سنة من الغربة والغياب كانت كفيلة بأن تنسيه وطنه وأهله وصحبه لكن حنينه لجذوره استدعاه للتوقف عند مستويات معينة ليطغى جوهره على كل الشكليات وهنا مغايرة لماحة حيث تكاملت المستويات المعنوية في تقديم جمالية المشهد المادي والمعنوي معا.
الأنساق الذكورية/
——————
– نسق الحاكم الفاسد :
وهذا ما اشتغلت عليه الكاتبة في نص ” مؤامرة ذبابة ” كنوع من الكوميديا السوداء فمن خلال العنوان يتضح لنا المغزى بشقيه السياسي (مؤامرة …) والآخر الساخر باستحقار ( ذبابة.) وقد جندت الكاتبة في النص إمكانياتها الوصفية والدلالية المباشرة والمواربة للسخرية من هذا النمط، نمط القائد أو الرئيس الفاسد المحاط بحراسته المشددة من اصحاب البذلات السوداء لتضعهم بكامل إمكانياتهم وعتادهم في معركة غير متكافئة مع حشرة صغيرة مستحقرة هي الذبابة حيث قدمت الكاتبة هذا الزعيم وكأنه مهرج أحمق من خلال تصرفاته إزاء مناورات الذبابة أمام الميكرفون لمنعه من إلقاء خطابه
أضف إلى ذلك محاولات حراسته الضخام المتخبطة والمرتبكة في منع هذه الحشرة من مشاغلة زعيمهم الفاسد نتابع النص : ( لكن يبدو أن الذبابة مصرة على مقاطعته فقد وقفت على أنفه الأفطس وراحت تحدق في عينيه، احولت عيناه للحظة وهو يركز نظره عليها.)
وتابعت السرد..( فتح فمه ليقول: ” آآآ… ” ولكن الذبابة العنيدة معجبة بشفته السفلى المدلاة إلى ذقنه فعادت لتحط عليها)
ولكن لماذا نصر هنا على تكرار لفظة “فاسد” ؟
يتضح جليا من خلال النسق المضمر الذي مررت عبره الكاتبة بالإيحاء في سردها المقاربة والقاسم المشترك المتمثل في إعجاب الذبابة بشفة الرئيس السفلى، وإصرارها أي الذبابة على البقاء فوق أنفه الافطس ومقاطعته وهو يلقي خطابة أمام الجمهور ، وقد اختارت الكاتبة الشفة السفلى لتشكل خلالها أنساقها الثانوية التي وسمت بها الشخصية كالفساد والبلاهة ،و الحماقة ،والغباء ،والضعف وهذا تؤكده الجزئية التالية من النص في حديث الكاتبة عن الذبابة واستخفاف هذه الحشرة بشخصيته وملامحه حتى بدا بملامح البله والحمق ما استدعى ضحك الجمهور. نتابع السرد :
( وقفت على أنفه الأفطس ، وراحت تحدق في عينيه ، احولت عيناه للحظة وهو يركز نظره عليها .) وفي هذه الجزئية من النص ما يدل على صغر نفسه ودنو همته حيث ظلت هذه الحشرة الضعيفة شغله الشاغل من خلال تركه لمهمة تقديم الخطاب وانشغاله بشي تافه ، وهو في موقف يستدعي استحضار الهيبة والرزانة وتعزيز الثقة بالذات بينما هي سمات يفترض أن تتحلى بها شخصيات الزعماء والحكام ،كما تتجلى علاقة الفساد بين الذبابة والرئيس من خلال أكل المال العام وسرقة مقدرات الدولة والنصب والاختلاس والإثراء الغير مشروع ..الخ. وهوما يتقاطع مع فساد الذبابة بتواجدها في الأمكنة القذرة والفاسدة كمقالب القمامة وغيرها ،وكانت سيميائية الشفة الأداة التي يمرر عبرها هذا الفساد ،كذلك إظهار الشفة السفلى مدلاة تمثل سيميائية دلالية لجزء من ملامح الوجه الأحمق والأبلة لهذا الزعيم الفاسد إلى جانب تصرفاته الرعناء والغير محسوبة ،وحين نعت مرافقه ” بالغبي” ، وقد لمحت هنا للمتلقي أن هذا الزعيم متسلق ويحسب على الذوات التي ركبت موجة الحرب أو الثورة ولا تمتلك أي ثقافة او مؤهلات تذكر حين جلب إلى مكان ليس مكانه
وفي سياق متصل تتداخل علائق
المعنى العام للنص الذي ذهبت فيه الكاتبة مذاهب شتى في تناصها الدلالي ومنها ما تقاطع مع الأفق العام للسياق القرآني في معانيه المتباينة كالضعف والهزيمة وعدم القدرة والفشل أمام كائن صغير ضعيف كما في الآية رقم (٧٣) من سورة الحج/ (وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب)
وإذا أمعنا جيدا في باقي النسق الطالع من ثنايا النص تتبدى لنا ثنائية الزيف والتهويل الإعلامي التي ينتهجها الإعلام الرسمي أو المسيس تحت مسمى ” ذبابة مسيرة ” حين يغدو بوقا من أبواق النظام أو الحاكم في اختلاق “نظرية مؤامرة الذبابة” أو “ذبابة مسيرة” التي نجا منها الرئيس ثم تظهر لنا الذبابة مرة أخرى على الشاشة لتحط على جبين المذيع وكأنه تكذب ادعاءاتهم في رمزية مواربة لتبين مدى ضعف وهشاشة هذا النظام ودجل إعلامه الفاسد الذي يعتاش على الأكاذيب ، وإذن فهي ثنائية الفساد في النسق الذكوري سواء كان حاكم أم إعلامي حيث تسرد الكاتبة لنا ذلك مشيرة إليه في نصها : ( وبعد ساعة أعلن مذيع التلفزيون الرسمي نجاة السيد الرئيس من محاولة اغتيال دبرتها قوى أجنبية معادية، وعلى الشاشة رأى المشاهدون ذبابة صغيرة تحط على جبين المذيع.)
ولربما ذهبت الكاتبة في إطار النسق الذكوري لتصور لنا بشكل موارب أو بآخر إسقاطها للموقف على الصراع العام وسحبه على قضية إثبات الذات الذي تخوضه الأنثى أمام الذكر وهذا ما
سنتعرض له في النسق اللاحق ، ومن هذا المنظور صورت البطلة على هيئة ذبابة وهو ما أرادت أن تقوله الكاتبة عن النظرة النمطية الذكورية تجاه المرأة في أطار المجتمع الذي تتبناه هذه النظرة المستحقرة للأنثى، فوقع اختيارها على الذبابة لكنها بالمقابل استصغرت من شأن الذكر وحطت من قدره حين هزمته الأنثى الذبابة ،كما أن ظهور الذبابة على الشاشة في الإعلام يوحي باستغلال للظهور الانثوي المتمثل في جسد المرأة وجمالها كسلعة من قبل الآلة الإعلامية الذكورية ومحتواها المبطن الذي يحمل ظاهره الشكل المبهرج وباطنة الفكرة ذاتها.
– النسق المتسلط والأناني :
وهذا النسق تم قولبته بشخصيته التي تماهت مع طبيعة تصاعد الأحداث وتصادم المشاعر المحتشدة التي ساقتها الكاتبة من خلال شخوصها إلى جانب السرد ضمن سياق النص المعنون ب”نصف ساعة” حيث صممت شخصية الزوج كعنصر مساعد
ضمن تقنية “الحبكة المعكوسة” لكنه طغى أو كاد أن يغطى بشخصيته المتسلطة على شخصية البطلة الزوجة منذ بداية تصاعد وتيرة الحوار بينهما مرورا ببلوغهما تخوم الذروة وانتهاء باختلاف الموازين مع بزوغ لحظة الحل أو الإشراقة الصادمة وكاد أن يلغي حضور شخصيتها المستضعفة أو بالأحرى شخصيتها التي تكبدت مشاق الاستضعاف والتي بدت مصدومة من نتائج مقلبها أو امتحانها لزوجها ،وأعني بذلك الإلغاء الذي مارسه الزوج (البطل المساعد ) هو الإلغاء على مستوى الحضور الدرامي ،أما ما يخص الإلغاء على المستوى المجتمعي أو الذكوري فقد مارسه تجاه زوجته وانتهى الأمر وعندما تجلت لحظة الحل كما أشرت انقلبت الموازين حين حاول إصلاح ما أفسده في علاقتهما إلا انه كان قد تأخر كاشفا عن كل أقنعته مستنفدا آخر أوراقه، وبالرغم من أنها حاولت التماسك في فقرات متفرقة من مساحات السرد وخذلها التماسك في فقرات أخرى كما سردته الكاتبة ما ساعدها على إخفاء أثار الصدمة أمام الزوج على أقل تقدير لكنها بالمقابل تظل نتيجة حتمية أمام مفترق خيارات الزوجة والتي حسمت الأمر بطلب صك حريتها بنفسها كما ذكرت الكاتبة في النص
وتدور أحداث القصة كما هو المفترض في غضون نصف ساعة بين الزوجين في المنزل وفي غرفة النوم تحديدا ثم تعيد الساردة كل ما حصل بتقنية (الفلاش باك ) على متن سيارة أجرة استقتلتها الزوجة تاركة زوجها إلى بيت أهلها والكاتبة لم تحدد الجهة او تسميها لكن يبدو من خلال حفظ البطلة للطريق عن ظهر قلب ،ولأن الطريق إليه وحده الطريق الذي لا ينساه المرء مهما كبر أو تغرب ومهما مر على ذاكرته الزمن والأحداث والمواقف.
لقد كلفها المقلب الكثير لكنه منحها حريتها كما تزعم ذلك الساردة وتدور أحداث القصة عن زوجين قدما للابتعاث لدى جهة ما لكنه سقط اسم الزوجة وفاز الزوج بالمنحة فحاولت ممازحته بمكر
حين أبلغته ان اسمها فقط من ظهر في اللائحة حيث تقول الكاتبة في النص : (نظر لعينيها التي يملؤها الفرح ، فانقبض قلبه ،فقد خشي أن يكون اسمها هي ، أفلت من شفتيه سؤالا لابد منه، من؟
انتصبت واقفه ، ونظرت إليه بمكر وقالت بشقاوة : اسمي.)
فقامت قيامته واسودت الدنيا في عينيه ومارس كل وسائل القمع النفسي والتسلط تجاه زوجته لكن رأيه لم يتغير ولم يقدم تنازلات تذكر حين أخبرته الحقيقة وهي ان اسمه من فاز بالمنحة بينما سقط اسمها واكتفى بإيهامها واصطناع الحب ،وكانت محصلة الحوار الذي دار في النصف الساعة بمثابة صدمة لها أماطت اللثام عن وجهه ومشاعره تجاهها ،وقد صورت الكاتبة في مفتتح النص مدى أثر فرح الزوجة بعد معرفة خبر فوز زوجها بالمنحة وصورت بالمقابل صدمتها بردة فعله كنتيجتين حرصت الكاتبة على استهلال النص بهما ومقارنة للأثر الحسي والمعنوي الواخز الذي طال الزوجة في ذات المكان قبل وبعد وقد اختارته في سلم الدرج كرمزية سيميائة لصعود وهبوط مستويات العلاقة المتعثرة وهو سياق مضمر ساقته الكاتبة بذكاء كما جرى في النص : ( كانت تجر ساقيها المرتعشتين وهي تنزل الدرج الذي صعدته قبل نصف ساعة تقريبا راكضة فرحة ، عندما عادت من عملها مبتهجة ،تحمل البشرى إلى زوجها ، فهرعت تبحث عنه وتنادي باسمه، ..وتواصل السرد : شعرت بالدوار فتمسكت بباب العمارة ، وتذكرت عندما وقفت بباب الغرفة واخذت تقرع لحنا فرائحيا على الباب ,نظر إليها بنصف عين والدهشة على وجهه، ضحكت ودارت حول نفسها مرتين في فرح ثم عانقته وهي تزف إليه الخبر )
ثم تتصاعد ثنائية وتيرة ممارسته لتسلطه وأنانيته نفسيا ولفظيا ضدها أعلى درجاتها في الجزئية التالية من النص ( أدرك ان لعب دور الضحية لم يأتِ أكله ، والرهان على تأنيب الضمير أصبح خاسرا ، فقرر استخدام سلطته في اتخاذ القرار ، فقالت وهو لايزال موليا ظهره لها ، لا تقلقي لن تسافري)
فيما تكبر صدمتها به وكأنها تكتشتف خبايا نفسه للمرة الأولى
كما في النص ( صعقتها كلماته ،كيف لا أسافر ،كيف لا آخذ فرصتي ، كيف أتخلى عن حلمي ؟ ..وتتابع ..التفت نحو قائلا: ليس هناك سفر انتهى الموضوع ،فأنا لم اتزوج لأظل وحيدا لم ،أوفر بيتا ومهرا وأثاثا لأبقى وحيدا بينما تتسكع زوجتي في الخارج .
صدمتها كلمة تتسكع ؟!
نعم تتسكع قالها بنية استفزازها )
ثم يزداد إصراره وتعنته ملوحا بالطلاق كتهديد أخير كابح لجموح أحلامها وتطلعاتها المستقبلية (نظر إليها والتصميم في عينيه، قائلا، سافري ولكن ورقة طلاقك ستكون في المطار لتودعك.) والنص عموما ثري على مدى مساحات متفاوتة من السرد والحوار بأنانية هذا النسق
المباشرة والمبطنة ولربما تجنت الكاتبة نوعا ما على هذا النسق الذكوري حين حملته أكثر مما يحتمل .
وقد أظهرت الزوجة منفتحة من خلال عدم ارتداءها النقاب وكونها تعمل في وظيفة وتخرج وتدخل متى تشاء دون اعتراض الزوج ، لتوضيح نمط الحياة والتفاهم السائد بينهما حيث رسمت الكاتبة هذا المسار ضمن الافق العام وذلك من قبيل تعزيز١ الاحترام والثقة وقبل ذلك الحب والود بينهما وكونهما تزوجا عن تجربة حب منذ الجامعة وفي اعتقادي أن الكاتبة حشدت كل هذه الحيثيات في سياق النص حتى تعزز الصدمة
– لاحقا- لدى المتلقي قبل البطلة كما ان اختيارها أي الزوجة للمزحة أو المقلب أو الامتحان – سمها ماشئت – لزوجها عند الصحيان من نومه للتو لربما أنه لم يشرب شايه بعد لم يكن توقيتا مناسبا من الزوجة ،وكان بإمكانها قطع هذه المزحة الثقيلة والصادمة معا عندما لاحظت استياء مزاجه وتكدر صفوه ، واختيار توقيت مناسب، فهل كانت تنتظر منه أن يفرح وهو يشاهد حلمه ينهار أمامه .لكنها في الاغلب الأعم مشاهد لابد منها ساقتها الكاتبة لتعزز من قوة ردة الفعل من قبل الزوج والتي تمثلت بشكل جلي من خلال وصف الساردة: ( كان أسلوبه كريها ، وكلماته تخترق قلبها كطعنات السكاكين..)
– النسق المتلون ” الحرباء”
وهذا النوع من الأنساق ستجده مجسدا في أمكنة ومرافق ومؤسسات وجهات وتيارات مختلفة على امتداد رقعة المجتمع الانساني ،وقد جسدت الكاتبة هذا النمط في نص “غربة” الذي مثل تربة خصبة وحامل ثري للأنساق المتعددة التي حفل بها النص ، والتي خصصنا له قسطا لابأس في قراءتنا هذه حيث أفردت الكاتبة جزئية من سردها لهذا النسق في النص ذاته ، ويبدو هذا جليا من خلال وصف ناجي لصديقه المتلوّن وسيم. نتابع : ( وسيم الفتى الهادئ ،أصبح مثل الحرباء على حد تعبيره يمشي مع كل تيار ويتقلب مع كل موجة، أصبح يعمل سمسارا منذ الحرب، تزوج ثلاث مرات ، وكما علمت انه كون ثروة غير مشروعة.)
وإذن فالحرب ساهمت بجزء أوفر بل شكلت هذه الانساق التي تلقفتها هذه الشخصيات فتلبستها وصارت نمطا لعيشها وصفات تعرف بها كلما دار الحديث عنها ،وهذا النسق يمتد خطره على المجتمع ككل كونه سمسارا سيتاجر إذا استدعى الأمر بالوطن ومنجزاته وفي سياق الجزئية التي ضمنتها الكاتبة في حديثها عن هذا النسق ربما بشكل عابر إلا أنه يستدعي الوقوف أمام تضمين الكاتبة لهذا النسق حيث وظفت هذا التلون والتغير من حالة لأخرى من الهدوء إلى التقلب والسير مع اتجاه الموجة ،وقد جاء هذا التوظيف بدلالاته الموحية لمعاناة المرأة كونها ضحية هي الأخرى لهذه الحرب وما أفرزته بيئة ما بعد الحرب فقد خسرت الأب ،والزوج ،والابن.
ومن ضفة مقاربة لمأساة المرأة
جاء ذلك عبر نسق مضمر مررته الكاتبة في إطار السياق العام للنص كنوع من التنكر الذكوري تجاه الأنثى ،هو التنكر لعشرة المرأة الزوجة والحبيبة ورفيقة العمر والكفاح .ألم أقل لكم انه خطر على المجتمع ، والمرأة نصف المجتمع وهي إحدى ضحاياه !
كما تتوازى هذه المعاناة للمرأة المضطهدة (الزوجة ) في نص
” زار ” حيث قدمت خلاله الكاتبة صورة مواربة للزوجة التي تغالب حنقها وغيضها وضعفها وانكسارها تجاه ما قام به زوجها حين جلب عليها ضرة بالاندماج بالرقص حتى تتخلص من شحناتها السلبية من خلال تقمص حالة من الزار ،وإن لم تتطرق الكاتبة صراحة إلى ذكر الزوج أو الاشارة إلى فعلته لكنها سربت ذلك عبر نسق مضمر والذي جسدت صوره في تصرفات الزوجة الضحية برقصها في عرس ضرتها ( كالطير يرقص مذبوحا من الألم ) العروس بدورها طرف اساسي في حياكة نسيج مأساة الزوجة كونها استولت على زوجها وهذا لمحت له الكاتبة في اختيارها لموضوع الأغنية التي كخلفية للجو العام للنص ..نتابع :(صوت المرأة الذي رافق الطبل الصاخب كان رفيعا، وحكت الأغنية عن الغدر والخيانة. أغمضت عينيها، واستسلمت للرقص .
تحرر جسدها شيئا فشيئا من قيوده ،لكنه لايزال منقادا لصوت الطبل.)– النسق المهمش والمقهور/
وهذا النسق نموذج جلي من عشرات النماذج بل المئات الذين تسلق على جراحاتهم وإعاقاتهم،
وعذاباتهم الكثير من أمراء الحرب سيما في الغزو الحوثي الأخير لعدن ،وقد جسدته الكاتبة في نص “غربة ” في شخصية ناجي مبتور القدم يمشي على عكازين كضحية من ضحايا الحرب كما تصفه الكاتبة في النص : ( كان هناك ..على عكازين ، واقفا في انتظاري ناجي،قريبي وصديق الطفولة، مبتور الساقين والحلم ،مثل هذا البلد ،ولأن الرؤية غير السماع ،كان الوجع أكبر. عانقته طويلا وبكيته وبكيت الوطن.) وقد اشتغلت الكاتبة هنا من خلال تيمتها على جماليات الأنسنة فيما وراء سطور نصها متكئة على المقاربة المقارنة وهذا يظهر مدى تمكن الكاتبة من أدواتها ، وليست الأنسنة متاحة في السرد والتوصيف لكل من يأنسن كيفما اتفق، ولكنها احتراف العواطف والمشاعر في مقارنتها للوعي باللامبالاة / وللحضور بالغياب/ ولتقمص الغامض الداخلي بالمباشرة والوضوح الخارجي/ وللألم بالفرح واللاشعور/ وللنوستالجيا بالنسيان والتبلد/. وإلى آخر ما تستدعيه متناقضات أو مقاربات هذه التقنية من خلال الأدوات المتاحة وحسب ارتباطها بالوصف والسرد والمشاعر المتدفقة. نتابع النص : (ناجي قريبي وصديق الطفولة، مبتور الساقين والحلم ، مثل هذا البلد.)
وجاء عطف الحلم على الساقين ليضع المحسوس (الساق) والمعنوي المؤجل وهو (الحلم ) على مستوى واحد لتأكيد الكاتبة على أهمية الأخير حين جمعته في هذه المقاربة بجزء مهم فقده ناجي من جسده ،وبما أن الساق توصلك لغايتك فالحلم أيضا يوصلك لغاياتك إذا اجتهدت وثابرت في تحقيقه ،ومن هنا انبثق مضمون الأنسنة والمقاربة لدى الكاتبة ثم تواصل النص : (بدا لي متأقلما جدا مع عكازيه ، ممتنا لمن وهبوها له ،ناسيا أو متناسيا أن من أعطاه العكازين هو نفسه من سلبه ساقيه !) وبغض النظر عن الأنسة للمحسوسات والجمادات
في الأجواء التي تشوبها مشاعر الألفة، والفرح ،والحنين، فإن الأنسنة تتماهى في أعلى مستوياتها العامة مع مشاعر الألم والاضطهاد والمرض والموت كما استداعها درويش في إطار الموت وكذلك فعل أمل دنقل في إطار المرض في قصيدته (الغرفة رقم ) التي كتبها في أيامه الأخيرة في المستشفى الذي يرقد به ،لكن الأمر اختلف بالنسبة لناجي فقد وصل لحالة من الشعور بالتبلد بل والاندماج أو هكذا بدا مع حالته وهي محاولة للهروب من واقعه ممتنا لمن وهبوا له العكاز كما في النص ، كنتيجة طبيعية للقهر ،والمعاناة وهي مرحلة يتجاوز فيها المقهور شعوره بالقهر والظلم لكي لا يكدر صفو عيشه لكن هذا لا يعني أنه سينسى للأبد وإن بدا متماسكا لكنه سيضعف في وقت ما وفقا للطبيعة البشرية تجاه الألم والقهر وكافة المشاعر التي تنتابها في لحظة ضعف وهذا ما أظهرته الكاتبة في نصها التالي فالمشاعر نسبيه عند شخوص الهدار كما هو الواقع تماما وكما في الحديث الشريف( القلب بين اصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء) نتابع النص : (لكن نبرة الفرح في حديث ناجي غابت شيئا فشيئا ، وتتابع الكاتبة في فقرة أخرى ..انقطعت الكهرباء، لكنها لم تمنعني من رؤية دمعة ترقرقت في عين ناجي ,وهو يروي قصة إصابته، كما لم يحجب هدير المواطير عبرة اختنقت في صوته.)
وهناك نموذج آخر في نص” غربة” التحق بركب المنسيين ممن قدموا في هذه الحرب فلذات أكبادهم وأغلى ما عندهم وهي شخصية لطفي حيث جسدت الكاتبة معانته هذه الشخصية تجاه الصدمة التي تعرض لها على المستوى الجسدي والنفسي ما أثر على قواع العقلية نتابع النص : ( لطفي صاحب أجمل ضحكة ،ورجل النكتة ، الذي بدا أكبرنا سنا ،أصبح كائنا آخر ،طوال السهرة ،كان سارحا، وفي بعض اللحظات التي استرقت فيها النظر إليه وجدته يحادث نفسه وهو يداعب أغصان القات بين يديه، أن تفقد اثنين من أولادك في الجبهة، بالتأكيد يمكن أن يفقد عقلك وأشياء أخرى.) وهنا وصل القهر إلى ذروته ما أثر على القوى العقلية للرجل وأفقده توازنه النفسي نتيجة فقد أولاده في جبهة القتال وإذن فإن من ضحوا بأعز ما يملكون سواء جزء من الجسد او فلذات الكبد يعدون نموذجا للكثير من ضحايا ما بعد الحرب كما أنهم ليسوا ضحايا لما بعد الحرب وحسب بل ضحايا للقادة الذين نسوا أو تناسوا ألف ناجي وألف لطفي من هذه الشريحة المقهورة والمنسية من مجتمع ما بعد.
– النسق الذكوري “الخرافي” والمجازي /
المتتبع لنصوص صوفيا يجد أن أغلبها تناقش تيمة اضطهاد المرأة في إطار المجتمع الذكوري عبر أنساق ظاهرة أو مضمرة كما أشرت سلفا ،وفي هذا النسق وظفت الهدار الخرافة عبر استدعاء الحنين واجترار الذكرى معتمدة في ذلك على مغايرتها وسلاستها المعهودة في السرد والتوصيف ، وفي نص “غربة” أيضا جسدت هذا النمط من الحكايات من خلال إسقاطها للخرافة و” الفوقواقعية “على الواقع ذاته في جزئية حكاية جدة البطل عن الجارية سعادة المغضوب عليها من سيدها نتابع النص ..(برطمان جدتي المزركش الذي تضع فيه حلوى المضروب ، الذي كانت تترك جزءا منه في سطح المنزل ،وعندما أسألها لماذا ؟
تقول لسعادة ، ومن سعادة؟ ذات مرة سألتها قالت : إنها جارية دعا عليها السيد ذات غضب، فأصبحت من المخفيين، ومع أني كنت لا أرى غير الغربان والحدادي تتلاقف الحلوى، لكني كنت أصدق جدتي.) وهنا اختلف النسق الذكوري المضطهد للمرأة فقد دخل حيز الخرافة أو هكذا جسدته الكاتبة من خلال إظهار هذا السيد الخارق للعادة والمستجاب الدعوة حين غضب على جاريته سعادة وهي رمز للمرأة المضطهدة فأصبحت من المخفيين وهي كذلك رمزية للسعي لمحو أو إخفاء دور المرأة في مجتمعها. كما أن إظهارها كجارية تخدم في شؤون البيت نسق موارب يمثل المكان الطبيعي الذي ينادي به بعض المجتمع من خلال نظرته للمرأة. وقد التقطته الهدار من خرافة الجدة فوظفته بذكاء في ثنايا النص .
كما أن تلاقف الغربان والحدادي للحلوى هو رمزية لضياع حقوق المرأة وانتهاكها
لكننا سنجد في جزئيات أخريات من النص أن رؤية الكاتبة ستزدوج ، حين يلتقي البطل المغترب بفتاة جميلة بشكل عابر على شكل طيف خاطف واسمها سعادة ، وهذا الازدواج في الرؤية ظهر جليا في مفتتح نص “غربة “عندما باغت البطل موظف المطار بسؤاله الغريب بالنسبة للموظف – كم كيلوا جرام يلزمه من السعادة ليأخذه إلى وطنه؟ وهو ما ترك نظرة بلهاء على ملامح الموظف.
وقد حرصت الكاتبة على عدم ديمومة واستمرارية اللقاء وإظهاره بين البطل وسعادة وإظهاره بهذا الشكل لتفيد بأن السعادة لا تدوم في هذه المدينة والتي كان يبحث عنها البطل في أزقتها وسوقها الوحيد فلم يجدها ..نتابع النص : (قضيت نهارات أسبوعي أتجول في المدينة ،في سوقها الوحيد وفي الأزقة الضيقة ،ثمة شيء مفقود فتشت عنه ولم أجده ..بدا لي وكأن الزمن قد فقد بوصلته)
لكنها جمعت بينهما في ختام النص للحيظات وإن على استحياء حيث تألقت الكاتبة في اشتغالاتها الدرامية العاطفية على تيمة التعلق بالآخر عبر تداعي الموقف وتتابع الفعل الدرامي ،وأزعم أنها وفقت جدا في شد أعصاب المتلقي حين أطلقت العنان لتنامي ردود الأفعال على حساب الحوار (الديالوج المقتضب والمكثف) بين البطل وسعادة. إنه مشهد دارمي أو سينمائي بامتياز
يصور ما يعتري النفس البشرية من خلجات عاطفية وتقارب روحي وعذري شفيف دون أي تعديلات أو رتوش وكأنه يصور بعدسة سينيمائية دون مونتاج أو مؤثرات أخرى .
وإلى جانب التناول الدلالي والسيميائي للأنساق المضمرة والظاهرة عن تيمة الاضطهاد والحقوق المسلوبة ،فقد طرقته الكاتبة أيضا مجازا ،وبإسقاط أدبي بحت وقد جاء ذلك التعرض لأدوات وعناصر الشعر المعنوية والمجازية ، ومماثلتها في الوقت ذاته بعناصر حسية واقعية مثل : قص جدائل أشعاري /قضم تسلسل أفكاري/خلع كعب كلماتي رسم شاربا على وجه القصيدة – هل للقصيدة وجه ؟ إنه إذن نصها القصير جدا ،والمعنون ب”عبث” وقد صورت الكاتبة فيه التطفل والتدخل السافر في خصوصيات المرأة ومحاولة إسكات صوتها النيل من أنوثتها وجعلها تابعة للرجل من خلال ضمها إلى ملحق الحريم ..نتابع النص كاملا : (عندما نسيت صدر البيت مفتوحا، تسلل أحدهم إلى نصي، قص جدائل أشعاري، قضم تسلسل أفكاري ،خلع كعب كلماتي، ورسم شاربا على وجه القصيدة ! ) وإذن فالقصيد أنثى.
وهي السيميائية ذاته التي جسدتها الكاتبة في نص” الصرة”
عندما أعجبت الطفلة الفقيرة بدمية (عروسة) وراحت تهيم بها وتتأملها كلما مرت على بسطة عم محمد. نتابع النص :(وقفت مبهورة أمام هذا المخلوق القادم من قصص الكرتون وعالم الخيال. سألت عن ثمن الدمية، كان أقل بكثير مما تستحقه هذه الأميرة، … ثم تتابع الكاتبة إلى أن تصل ..(حتى جاء ذلك المغرب الذي تفتح فيه جدتها صرتها وتفرغ محتواها لها ، لتشتري به هذه العروسة .لم تصدق أنها تمتلك ثمن العروسة الذي لم تطلبه أبدا. ركضت إلى السوق قابضة على حلمها في يدها، حتى وصلت إلى طاولة عم محمد، نظرت إلى أميرتها، تأملتها ،لم ترّ زرقة البحر في عينيها، كانت ترى الصرة السوداء التي أصبحت فارغة تماما. سألها عم محمد كعادته ، ها أعجبك شيء ؟ وكعادتها ردت بكلمة( لا) ! ).
فدمية العم محمد معروضة على (بسطة) أو طاولة بسيطة في الشارع وليس في محل راقي ودون حاجز زجاجي يحفظها أو فاترينة تقيها الشمس والغبار وهنا دلالة غاية في الأهمية ألمحت الكاتبة من خلالها إلى أن الأنثى مستضعفة في مجتمعها وينظر لها نظرة دونية أو قاصرة كسلعة للبيع والشراء لتكشف مدى ضعفها وهشاشتها وقلة حليتها .
وإذا تمعنا في الجزئية التي تحكي عن كيفية حصول الطفلة على ثمن اللعبة وركضها قابضة على حلمها إلى نظرت إلى الدمية وقد غابت في عينيها زرقة البحر فصارت دمية عادية في نظرها حيث كانت ترى الصرة السوداء وهي فارغة من المال تماما . وهنا تكمن مفارقة الموقف فما أقسى أن يركض الإنسان إلى حلمه ثم يتخلى عنه ما إن يصل إليه ، لقد أبدعت الكاتبة في رصدها كيفية تخلي الطفلة عن حلمها لتنقذ نفسها وجدتها حيث كانت ترى في الصرة صمام الأمان الذي يمنحهم المال ليبقوا على قيد الحياة ،وقد هالها أن رأت الصرة فارغة تمام من محتواها بعد ان كانت تخرج منها جدتها كل مساء ما يسدون به رمقهم بينما يبقى فيها اليسير.
إنه التقمص الواعي من قبل الكاتبة حين وازنت بين إدراك الطفلة الواعي وإدراك القاصر فإدراكها الواعي أو الشجاع تجسد في تغليبها المصلحة العامة حين آثرت التضحية بحلمها الطفولي وهو امتلاك “عروسة”، لصالح الجماعة وهو تجسيد بديع لتحمل المسؤولية في هذا السن ،وبين إدراكها الطفولي القاصر حين نظرت للصرة بأنها من تمنحهم المال
وإن خلت منه لن يحصلوا على المال منها ثانية كما أن رفض الطفلة وكلمة( لا) تحديدا التي قالتها للعم محمد بعد أن غيرت رأيها في شراء اللعبة كانت دلالة الرفض الأنثوي الجمعي في وجه الذكر . وقد جسدت الكاتبة في تقمصها الواعي سيكلوجية الكثير من شخوص وكائنات وجمادات قصصها وأقول (التقمص الواعي) لأن الكاتبة لا تخلق لشخصياتها الأساسية والثانوية كركتر من باب التشخيص السطحي لمجرد التشخيص والسلام ،ولكنها تترك للقارئ مساحة أو خيط شفيف كي يستشعر هذا التقمص وتلكم الأنسنة عبر المقاربات، والمقارنات، والعلائق. فالطفولة مثلا في رؤية الكاتبة وكذلك الوطن، والحيوان ، والأشجار والجماد ،والغربة ،والقهر ،والفرح ،والسعادة ،والاستبداد ،والخوف ،والسخرية ،والموت ،والقوة ،والضعف كلها مرتبطة بمن وبما حولها من الجزئيات ، مترابطة من خلال الأنساق والبيئة وتداعي المواقف الإنسانية وانزياح المشاعر والعواطف حتى يكتمل أو يتكامل المشهد الحقيقي بحيث لا يشذ بمبالغات غير عقلانية ضمن الأمكنة والبيئة في إطار الأفق العام
،وتتضح الصورة من جميع الزوايا والجوانب .
وهناك تناولات أنصفت فيها الكاتبة أنساق أخرى من الرجال من قبيل الأنسنة وهي الأنساق الأكثر قربا وحميمية من الكاتبة والحياة اليومية كالجد والأب الذي قارنهما البطل بباب بيتهم شموخا ووقارا حين دلف لبيته بعد سنوات من الغربة وقد بدا الباب أمامه صامدا رغم مرور الزمن في نص “غربة” وسائق التاكسي الطيب الذي تعاطف معها والتي شعرت البطلة أنه يفهمها أكثر من زوجها المستبد في نص ” نصف ساعة” وناجي الذي أصبح نصف جسد بقي نزيها شريفا رغم الإهمال والنسيان.
كما تناولت أيضا الهم الوطني من خلال الهوية المتشظية حين انتابت بطل القصة الأسئلة القلقة عند وصوله صالة المطار معززة ذلك بالمنولوج الذي دار في نفسه عن تعدد الهوية المتشظية عندما استوقفته خانة الجنسية. نتابع النص: ( ولكن حين طلب منا تعبئة بطاقات الرحلة، توقف قلمي طويلا عند خانة الجنسية، ماذا أكتب ، وأنا أحمل في داخلي هوية ،وعلى جواز سفري هوية أخرى، تكشف زيفها ملامحي.) وإذن فالهوية أنثى ضائعة متشظية ما بين التسليم والخضوع أو الرفض. ما بين( لا) أو (نعم) ما بين الذكر القامع وحلمها وضياع كيانها وتشظيه أو إثبات ذاتها وهذا ما فعلته الكاتبة لأثبات نصها عامة حين تكتب بألوان متوازنة متباينة فحينا تكتب بحبر الألم وحينا آخر بحبر الحنين وأحيانا أخر بحبر الفرح والانكسار والضعف والقوة والإصرار والإيمان
وهكذا تنداح أحبارها ملونة وقائع السرد وصابغة تنامي المواقف ممسكة بمفاصل الأحداث من خلال زمام المغايرة تمسكها متى تشاء وتطلقها متى أرادت كشلال متدفق تخفيه الأحراش في مجاهل غابة تدلفها للمرة الألف لكنك تشعر أنك تكتشفها للمرة الأولى، فتسمع هديره من بعيد وما تقف به حتى تجده يخفي خلفة كهف عميق وما ان تدلف لهذا الكهف حتى تستكشف عالم مغاير تماما .أنها تنطلق من بؤرة النص إلى مساحات متفرقة الجهات من خلال مسرحة النص أو ما يسمى بتقنية (الميزانسين ) بعرف المسرح . تمكر بك و تصدمك وتباغتك عبر هذه المساحة الصغيرة التي تسمى النص.