- الناقد /محمد رمضان الجبور
ما الذي كان يخطر في ذهن الشاعرة د. كريمة نور عيساوي عندما اختارت عنوان ديوانها
( وأنت تكتبني آخر الأسفار ) ، وما سرّ تمسك الشاعرة بالفعل كتب ومشتقاته وأدواته منذ العتبة الأولى للديوان واختيارها لعنوان ديوانها ( وأنت تكتبني…..) ولم تكتفي بهذا ، بل يرى من يقرأ قصائد هذا الديوان أن الشاعرة قد وقعت في غرام الكتابة وتعلقت بالفعل يكتب …وكتب … ومصادره ، وما يلزمها من أدوات ترافق الكتابة ، حتى أصبحت مفردة الكتابة الهاجس الذي يداعب فكر الشاعرة . وجعلها تميل إلى أنسنة الأشياء من حولها ، حتى أنها عنونت مجموعة من قصائد الديوان التي بلغت اثنتان وعشرون قصيدة بمشتقات الفعل ( كتبَ) ، مثل : مكتوبي ، توقفي عن الكتابة ، قلم هارب ، ثلاث نقط تكفي ، بالإضافة لما ورد في متون القصائد من أفعال وأسماء ومشتقات تحاكي الفعل كتب :
ففي قصيدة بعنوان ( يا سيدي القاضي ) تقول :
يا سيدي القاضي / قبل أن تُدون أوامرك السلطانية / ترفق بقلمك وورقتي الملكية…/ تلك القصيدة تَكتُبنا، تَسرقنا…/ تُطوعنا وتُذرينا في بيادرها الخلفية
ففي هذا المقطع القصير نرى أن الشاعرة قد ذكرت الكثير من مشتقات الفعل ( كتبَ) وبعضاً ممن يحمل دلالة الكتابة ، تُدون ، القلم ، الورق ، القصيدة ، تكتبنا ….
وفي قصيدة أخرى بعنوان ( الرحيل ) تقول :
عندما أرحل أحمل معي كل ما يخُصني ويخُصك/ أحمل تجلياتي …كتاباتي…/ وحقائبي المشرعة على الريح… / كل ما يكتُبني ويكُتبك / حتى رسائلي ورسائلك/ المقيمة على قارعة الطريق/ لا أنسى شيئا آخذ معي في حقيبتي طلاوة الحديث…
وفي هذا المقطع نرى تلبس الشاعرة بفعل الكتابة ، الذي ظهر واضحا ومباشراً ، وكأن حبّ الشاعرة للكتابة وما جاورها من أسماء وأفعال قد انعكس على ما تجود قريحتها في الكثير من قصائد الديوان ، حتى عنوان الديوان لم يخلُّ من هذه السمة ( وأنتَ تكتبني آخر الأسفار) ، وفي هذا دلالة واضحة وصريحة لما تحمله الشاعرة من حب وعشق للكلمة والحرف ، التي تصاحبها في كل مكان ، حتى في رحيلها ، لا تحمل معها سوى كتاباتها ، وتلك الحقائب التي تحمل فيها الرسائل ، ولا أريد أن استطرد في ذكر الكثير من الأمثلة الموجودة في ثنايا الديوان ، ولكن هي إشارة كان لابد لي من ذكرها وأنا أتصفح ديوان الشاعرة ، وهذا جعلها كما قلنا تميلُ إلى أنسنة الأشياء من حولها ، والأنسنة هي إضفاء الصفات الإنسانية على كل شيء جامد ، لا حياة فيه ، فتصبغ عليه صفات لا توجد إلا في الإنسان ، من حركة وحس وتغيّر ونمو وغيرها ، فالشاعرة تؤنسن المساء فتجعله يرقص ” يرقص المساء على جريان النهر المتدفق …” والقصيدة تترجل وتُصغي وتغزو ، وتغرق ……”
القصيدة تترجل في منتصف الطريق/ تُصغي لقرع الصوت/ لضرب السوط/ لعزف الأنين/ القصيدة تغزو لغتنا ولهجتنا / صورنا البانوراميّة / إضمامة زهرنا اليانع / تغرق في لجة الكأس … / في اللذة الغارقة بين فصول همسات الصوت الخجولة فينا…/ القصيدة يا سيدي القاضي…/ ترتق جفون حقولنا وحاراتنا وحواراتنا …/ ترسم محيط شفاهنا تمشي على الجسد / تجولنا في قلاعنا بلا أبواب ولا أسوار
عشق الشاعرة للقصيدة جعلتها تُصبغ عليها بعض الصفات الإنسانية والتي لا يجوز أن نصف الجماد بها ، فالقصيدة عند الشاعرة كائنٌ حي ، تترجل ، تُصغي ، تغزو ، تغرق ، حتى أنها يمكن لها أن ترتق جفون حقولنا وترسم محيط شفاهنا وتستطيع أن تجولنا في قلاعنا بحرية وبلا أبواب ، هكذا هي القصيدة عند شاعرتنا د. كريمة نور عيساوي ، ألصقت بها وأصبغت عليها كل الصفات الإنسانية ، وكأنها تُكرم القصيدة بما نعتتها من صفات ، فهي تؤنسنها ، تتماهى فيها ، تستنطقها ، هي مكانة القصيدة في نفس الشاعرة .
لقد عرّف علي حرب الأنسنة في كتابه حديث النهايات فتوحات العولمة ومأزق الهوية بأنها ” ثمرة عصر التنوير ، والانقلاب على الرؤية اللاهوتية للعالم والإنسان ، أي هي ثمرة رؤية دنيوية ، ومحصلة فلسفية علمانية دهرية ، بهذا المعنى فإن الأنسنة هي الوجه الآخر للعلمنة”
ففي قصيدة بعنوان ( صنعة الفرح ) نرى أن الشاعرة قد أنسنت الفرح عندما أسندت إليه الصنعة ، فهي قد أوضحت قوة الفرح في صُنع السعادة ، بوصفه إنساناً قادراً على صنع الفرح ، ثم تقول :
أَسمعك ولا أراك / أتذوقك دون رائحة…/ مثل الكمنجات الناعسات عن العمل لشُح موسم الحصاد/ لنوم البيادر التي تُذرِيني في صوتك الغائب / عن تواشيح الأصابع بخلاخل القبل
فهي تؤنسن الكمنجات عندما تختار لهن صفة من صفات الإنسان – النعس- ، وتؤنسن البيادر التي استغرقت في النوم ، وتؤنسن القبل بعد أن تلبس الخلاخل ، فالشاعرة تريد أن تصوّر وتصف حالة ، وتعيش في أجواء مفعمة بالحياة ، لذا نراها تؤنسن كل الأشياء من حولها ، وتُصبغ عليها صفة من صفات الحياة والإنسانية . وتوظيف مصطلح الأنسنة يساعد في بث روح الحياة فيما حول الشاعرة من جمادات ، فتصبح الصورة أجمل وهي مكتنزة بالمشاهد الحية المتحركة ، وقد لجأت الشاعرة في كثير من قصائد ونصوص هذا الديوان إلى هذه السمة الفنية الجميلة التي تُضفي على القصيدة المزيد من الجمال والحركة ، ووفقت في اختيار المفردات التي تناسب الجو العام لديوانها ، بالإضافة إلى تمكن الشاعرة من رسم الصور الشعرية التي تناسب الحدث والمناسبة .
النماذج التي وردت في ديوان الشاعرة كثيرة ، فيها تُضفي الصفات الإنسانية على الكثير من الأشياء سواء كانت هذه الأشياء محسوسة مادية أو حتى معنوية ففي قصيدة بعنوان (ثورة الوجد ) تتحاور الشاعرة ومفردة الكلمات ، وتخلع عليها الصفات الإنسانية ، تصفها ، تحاورها ، وتصغي ، وتزحف ….
في هذه الظهيرة المتصدعة / تتهادى الكلمات…/ تنزل على أوجاعي كالسم…/ هكذا دون في مخطوطه الأزلي…/ رشقني به وغاب…/ هي…. كلمات مرت من ثقب الإبرة وخرم الباب …
من دون استئذان أو طرق…
وأحياناً نرى الشاعرة تجنح لأنسنة بعض الكائنات الحية ، وتُصبغ عليها الصفات الإنسانية ، ففي قصيدة بعنوان ( اسمع دعني أهمس) ، تهمس لعصفورها ، فقد غاب ، وذهب ليقص ريشه عند الحلاق ، أو ربما كان سبب غيابه أنه ذهب ليشتري عطراً من رحيق العشاق ، وهكذا تمضي الشاعرة في الهمس لعصفورها الذي أسندت إليه الكثير من الصفات الإنسانية ، فهو يذهب إلى الحلاق ، ويغيب ليشتري العطر …….
” لم غاب عصفوري يا ترى ؟
ربما اليوم عصفوري ذهب للحلاق يقص من طول ريشه فأخره الحسون في أمر يستفتيه، ملعون هو الحسون أرشفني كأس الانتظار في غفلة من الوقت…
ربما اليوم عصفوري هرع مهرولا يشتري لي عطرا من رحيق العشاق ونسي أن اليوم عيد مولده وليس مولدي… تبا لها من ذاكرة ماكرة أضحت تربكه تجويفاتها.
ربما اليوم عصفوري وهو يجري صوبي نط طفله البريء المندس بين حنايا روحي فتعابثا بالتراب وخجل من الحجلة النزقة وتوارى عن سمائي.
ربما عصفوري اليوم، يدعوني إلى وليمة شعرية أو يمهر لي قصيدة حمرية يضبط فيها إيقاع نبضي المتوقف هناك.”
ديوان الشاعرة فيه الكثير من الخصائص الفنية ، التي يمكن للناقد أن يتوقف عندها ، ولكن قد يصعب علينا في هذه العجالة أن نتناول المزيد من هذه السمات الفنية ، فتوقفنا عند هذه السمة ( الأنسنة ) وأرجو أن نكون قد وفقنا في إلقاء الضوء على بعض مفاصل هذا الديوان ، راجياً للشاعرة د. كريمة نور عيساوي المزيد من الألق والنجاحات .