مادونا عسكر/ لبنان
“الإلحاد والإيمان كلاهما سرّ، فإذا أظهره صاحبه للنّاس أو تباهى به فهو إمّا كاذب أو تافه.” (يوسف زيدان)
بين الملحدين والمتديّنين صراع قائم، ولعلّه سيظلّ الطّرفان في صراع دائم، لأنّ كلّ طرف يدور حول فكرة إثبات وجود الإله. بيد أنّ المسألة أبعد من موضوع إثبات، إنّها مسألة عشق، وإذا كان مبدأ الإلحاد هو رفض الوجود الإلهي استناداً إلى أبحاث علميّة ونظريّات منطقيّة، إلّا أنّه في الغالب يرتكز هذا المبدأ على اختبارات شخصيّة نتجت عن واقع دينيّ قمع لغة الحبّ، فما عاد القلب قادراً على معاينة النّور.
قد يمكن شرح التّديّن من النّاحية العقائديّة ومناقشة العديد من النّصوص والتّشريعات. ولكنّه من العسير تحديد الإيمان وقياسه ومدى توهّجه، لأنّه ببساطة حالة عشق. كما أنّه قد يمكن شرح المبدأ الإلحادي استناداً إلى معطيات منطقيّة واختبارات حياتيّة. لكنّه يصعب ولوج عمق الملحد ونزع فتيل العشق من داخله وإقصائه عن دائرة الإيمان، أي دائرة العشق. بين التّديّن والإيمان فرق شاسع كما الفرق بين التديّن والإلحاد. فالمتديّن ليس مؤمناً بالضّرورة. ومن الممكن جدّاً أنّ يحمل موروثه الدّينيّ ويطبّق تعاليمه ويلتزم بالشّريعةبمعزل عن العلاقة مع الله. ومن الممكن أن يبقى عند درجة التديّن دون أن يرتقي إلى درجة الإيمان. أمّا الإيمان فهو الحالة النّهائيّة للعشق. وهو الحالة الّتي يتخطّى فيها العاشق كلّ الحواجز الّتي تعيق علاقته مع الله، فلا يبقى فيه إلّا الله. لذلك فالصّراع الدّينيّ الإلحاديّ، صراع على قشور الإيمان لا على جوهره. وإذا كان الإلحاد هو رفض لوجود الله فذاك لا يعني أنّ الله غير حاضر في الملحد، وأنّه لا يولّد في داخله بذور العشق.
المؤمن يرى الجميع في دائرة العشق الإلهيّ، لأنّه يعي أن الله الحبّ حاضر في الكلّ دون استثناء. وأمّا المتديّن فيصنّف البشر ويقيّم إيمانهم ويحاسب ويدين ويدخل هذا إلى السّماء ويخرج ذاك منها، ويحدّد حضور الله في هذا وذاك، وينفي حضوره في هذا أو ذاك. ويبلغ الأمر من الخطورة الّتي لا يلحظها المتديّن في تعرّضه للحضور الإلهيّ وتجزئته، وبذلك يعبّر عن تديّن سطحيّ ظاهريّ يشبه إلى حدّ ما الحالة الإلحاديّة. لأنّه بهذه الأفعال ينصّب نفسه إلهاً، وبالتّالي ينفي الحضور الإلهيّ. من جهة أخرى، وفي ظروف واختبارات قاسية يتساءل المتديّن عن حضور الله وأين هو من هذه الظّروف. ما يدلّ على لحظات إلحاديّة يمرّ بها المتديّن. وقد يتزعزع ويقلق ويخرج عن معتقده ثمّ يعود خائفاً. أمّا المؤمن فهو ثابت ثبات العشق، لأنّه يرى بالعشق الّذي تمنطق به. والعشق هو العشق ولا يميّز بين النّاس، يتسرّب بهدوء ويتدفّق برقّة ويخطف القلوب ويفتن العقول ويرتقي بها.
الملحد يقف عند حدود العقل ومنطقه ويستدلّ على الحقيقة بحقائق ناقصة. والحقيقة لا يعاينها العقل وحده، ولا يمكن بلوغها بل ينبغي استقبالها. ويقف الملحد عند حدود العاطفة إذا أحبّ ولا يرتقي إلى درجة العشق لأنّالعشق إيمان وليس عاطفة. كما يقفالمتدّين عند حدود الموروث ويتصرّف بحسب ما تعلّم لا بحسب ما اختبر. وهو كذلك لا يرتقي إلى درجة العشق لأنّ قلبه متّجه نحو الخارج لا الدّاخل. وإذا كان الاثنان معاً، الملحد والمتديّن، ينظران خارج الدّائرة فعن أي فرق نبحث، وعلى أي إله يختلفان؟
الملحد والمتديّن يتشابهان في جوانب عديدة، إنسانيّاً واجتماعيّاً وحياتيّاً. لكنّ الإلحاد في عمقه قلق معرفيّ وبحث عن الحقيقة. وأمّا التديّن فقلق سلوكيّ يدافع عمّا يظنّه الحقيقة. لكنّ السّرّ في الإلحاد أنّه يخفي عتباً على الله، أو نيّة في استدعاء حضوره. أو كما يقول أنسي الحاج، فكرة أن يكون وراء إنكار ما لوجود الله نيّة عميقة لتبرئته.والإنسان يبقى في صراع إلحاديّ إيمانيّ عميق ما لم يبلغ الإيمان، حالة العشق.
العاشق يطوف في قلب الله، يرمي نفسه في النّور ويحترق ليحيا. أمّا الملحد فيطوف خارج الدّائرة مترقّباً تسرّب النّور عن وعي أو عن غير وعي. لذلك فهو سرّ بين الإنسان وربّه كما الإيمان. وهو حوار خاص وعميق في داخل الإنسان لا يدركه إلّا الإنسان نفسه. وأمّا الظّاهر فلا يعوّل عليه.