مجيب الرحمن الوصابي ( تونس )
السْجُودُ للهِ وَحْدهُ تَعَبْدًا: صَلاةً، تِلاوَةً، سَهوًا، وشُكْرَا؛ إنّما ثمّةَ معنىً آخر مجازيّ للسجود يغادرُ المعنى الحرفيّ إلى معنىً استعاريّ؛ وبِهِ نفسّرُ سجودَ الملائكةِ لآدمَ؛ وسجودَ سحرةِ فرعونَ أمامَ موسى و نتأوَّله.
لا يُمكنُ تصور كيفيةَ سُجودِ القمرينِ والكواكبِ الأحدَ عشرَ معهما في رُؤيا يوسفَ عليه السلام؛ إلّا بالمعنى المجازي ما يمكن أنْ ندركه؛.. ونعجزَ عن شرحه؛ فليس لِهذه الأجرام السماوية أعضاءٌ كالبشر أو الحيوانات؛ لندركَ كيفيةَ السجودِ، على أنّ التأويل تعسفٌ وانتقام للفكر من براعة التصوير وبلاغته ” السجودُ معلومٌ والكيفُ مجهولٌ”
كان ابنُ جني يقولُ : “أكثر اللغة مجازٌ لا حقيقة” أما الملحد والفيلسوف الوجودي (هايدجر) يوشك على الإيمان عندما قال متحيرا:” في الاستعارة شيء من الغيبيات”
وعليه نفهم ما قدّمته سردياتُنا التراثيةُ ونتأوله عن أخبار ” سجدةِ الشعرِ” وهو تعبير مجازي عن الدهشة، وبراعة التصوير تشبيها أو مجازا واستعارة أو أسلوبا ، ولو أن بعض المصادر السردية تروي أخبارًا منكرةً عن سجدات حقيقية (تهاويل).
لنتجاوزَ عن مبالغةِ صاحبِ (الأغاني) فهو يجعلُ السجودَ في مواضعَ نخجل من ذكرها -غفر الله له- ونواصل الحديث عن سجدةِ الشعرِ من باب المجاز وحالة الانبهار التي تصاحبنا للبديع من القولِ المبتكرِ.
ففي كتابِ الأغاني بسنده المتصل لأبي فرج الأصفهاني عن المفضل الضبي قال: قدم الفرزدق، فمر بمسجد بني أُقيصر وعليه رجل ينشد بيتا بديعا يصف ما تفعله سيول الامطار وكشفها عن آثار الديار والمباني القديمة؛ ممثلا فعلها بفعل أقلام الكتابة على ظهور الصحف البيضاء، والبيت للبيد بن ربيعة:
وَجَلا السُّيولُ عن الطُّلول كأنها … زُبُرٌ تُجِدُّ مُتونَها أقلامُها
فسجد الفرزدق. فقيل له: ما هذا يا أبا فراس؟ فقال: أنتم تعرفون سجدة القرآن وأنا أعرف سجدة الشعر!
فهل كان سجود الفرزدق حقيقة أم على سبيل المجاز، ولن نكونَ متعسفين لو تأوّلنا سجود ابي فراس بأنه انبهارا، ودهشة وشكرا لله الذي وهب للناس امثال تلك القرائح كما هي عند لبيد.
مقامات الدهشة تلك والانبهار حين تسري تذكرني بمجالس أستاذنا الأكبر (أحمد علي الهمداني ) فذاك (الظاهرة) يجعلنا نمدّ أيدينا في الهواء متحسسين تصاوير (ايوان كسرى) ورسوماته مع يدي البحتري من فرط الاتقان، وعظيم الصَنْعة فينشدان :
تَصِفُ العَيْنُ أنَّهمْ جِدُّ أَحْيا
ءٍ لهمْ بَيْنهمْ إشارةُ خُرْسِ
يَغْتَلِي فيهمُ ارْتِيابيَ حتَّى
تَتَقرَّاهُمُ يَدَايَ بِلَمْسِ
حينها أدركت في الحاضرين الذهول فــــــ(الهمداني) يسكن في داخل صوته الإبهار، وسلاسل البحتري الذهبية، ولصوته بصمة ثم لمعت عينا استاذي (عبد يحي ) ولسان حالنا هذه سجدة للشعر أخرى، لكن لم يسجد الهمداني ولا الحاضرون!
ألم تتحسس حمدونة بنت زياد الأندلسية طرف عقدها المرصع بالجواهر الملونة؟ عندما شاهدت من “شاهق” نُهيرا يجري في وادٍ ذي زرع، (وادي آش)وعلى ضفتيه أحجارا ملونة ، فظنت أن عقدها قد سقط!… في حالة من الوعي المكثف والذهول:
وَقـانـا لفـحـةَ الرمضاء وادٍ سـقـاه مضاعف الغيث العميمِ
حَـلَلنـا دوحـهُ فـحـنـا علينا حـنـوّ المرضعات على الفطيمِ
وَأرشَـفـنـا عـلى ظـمـأٍ زلالاً ألذّ مــن المـدامـة للنـديـم
يـصـدّ الشـمـس أنّـي واجـهتنا فَـيـحـجـبـهـا ويـأذن للنـسيمِ
(يـروعُ حـصاه حالية العذارى فـتـلمسُ جانب العقد النظيمِ)
وهذا البيت الأخير يعدُّه البردوني رحمة الله عليه من (سجدات الشعر) العظمى!
الاستعارة في البلاغة الجديدة تتجاوز المفاهيم التقليدية الجزئية ليست اداة زخرفية تتضمن ببساطة استبدال مصطلح حرفي بآخر غير حرفي للدلالة على مفهوم ما، فالاستعارة في خرقها للقوانين وتجتهد في الابتداع ، وليس امامنا إلا ان نحسن الظن ونتأوّل في سجدة الشعر أو في تهجده!
ماذا عن سجدة اللحجي صديقي! .. عفوا بل تهجده المجازي !
با سمر ليله على مزهر وعود، با أحتفل بك فيه والعالم رقود
( باتهجد بك بأشواقي هجود ….)
اجمل ما كتب في اليمن من اشعار تفننت باستخدام ( المجازات.. والتشبيهات وكانت في اشعار أهل لحج
عن لحج(القمندان) والاستعارات الطريفة في أشعار أهلها وفقهائها الظرفاء نواصل الحديث في قادم الايام…