في قصيدة (( خيبة برائحة الموت )) / للشاعرة : فاتن عبدالسلام بلان – سوريا .
الشاعر الحقيقي هو مَنْ يمتلك وجداناً يشعّ نوراً , ويمتلك مقدرة على التأثير والتأثّر , فلا شعر دون أن يتأثّر الشاعر بواقعه وتفاعله معه , ونقل صورته بطريقة خلاّقة الى المتلقي , كي يمنح الأخير فسحة من التأثير والعيش داخل النصّ والتفاعل معه إيجابيّاً . الشاعر الحاذق من يمتلك المقدرة والأدراك على أعادة صياغة الواقع اليوميّ وإلباسه لباساً خياليّا مألوفاً , أن يمتلك القدرة على تفجير الينابيع من الصخور الصماء , لتروي ضمأ الأرواح المحبة للجمال والنور والخير والسلام , وأن يجيد مزج العناصر المتنافرة ويعيد خلق عناصر مألوفة عند المتلقي , أن يعيد صياغة الصور الواقعية بطريقة أخرى يمنحها إيّاه الخيال المنتج , وأن ينغمّ نسيجه الشعري حتى يبدو كأنّه قطعة متراصّة . كلّما أمتلك الشاعر عقلاً متفتّحاً على هذا الكون , سيكون بمعونة خياله أشبه بالساحر , ويأتي بطاقات هائلة تكمن في توليفاته اللغوية وصياغتها وتركيبها , فاللغة هي كلمات يستطيع الشاعر الحقيقي أن يشحنها ويطلق عنانها ويبثّ فيها الحياة , فتكون لغته حيّة تنبض بالسحر والغرابة والأنزياح والخيال الجامح , لغة غريبة لكنها ستكون قريبة منّا , وسنبقى في حيرة نتساءل : كيف أستطاع هذا الشاعر أن يسخّر مفردات كنّا نعتبرها مفردات عادية بسيطة متداولة .؟!! . ستكون لغة هذا الشاعر مقلقة لنا وتستفزّنا وترتفع بنا الى عوالم بعيدة جداً .
ما من نسيج شعري إلاّ وكان على شكل طبقات تتناسق فيه المعاني والمشاعر والأحاسيس والصور والموسيقى والدلالات , نسيج شعري متراص مترابط نشط فعّال ومنتج , ويتلوّن بمساحات جمالية وفكرية وفلسفية وفضاءات تصطرع فيها الزمنكانية والأصوات والرؤى ومساحات من الكشف والتمرّد . هذا النسيج الشعري هو عبارة عن فقرات نصّية تتكون من مفردات , وهذه المفردات يجب أن تمتلك طاقة وحيويّة ومرونة تشعّ من خلالها , وتتمدّد وفي نفس الوقت تتآصر وتتعاضد مع المفردة التي قبلها والمفردة التي بعدها , حتى تصبح الفقرة النصّية أكثر نضجاً , فقرة نصيّة تمتلك طاقات هائلة تجعل من النسيج الشعري أكثر أشراقاً وتوهّجاً , ويجب أن تكون الفقرة النصيّة خالية من المفردات اللاشعرية والتي تقتل الفقرة وتجعلها عقيمة وغير مشعّة , وبالتالي تجعل النسيج الشعري نسيجاً مترهّلاً تكثر فيه النفايات اللغوية . لذا يجب ان تكون كلّ مفردة تمتلك جرساً سحريا خاصاً بها يتآصر هذه الجرس مع باقي الأجراس الموجودة داخل الفقرة النصيّة , مما يجعل النسيج الشعري وكأنّه فرقة أوركسترا , كل فقرة عبارة عن آلة موسيقية , وبالتالي تنتج لنا هذه الأجراس موسيقى متناغمة متناسقة , على عكس لو كانت المفردات لا تحمل جرساً موسيقيّاً , فسيكون النسيج الشعري عبارة عن مقطوعة مقطّعة الأوصال , مبعثرة وغير متناغمة أو متجانسة مع بعضها , مما يؤدي الى أصوات نشاز وأضطراب وصخب , كلّ مفردة يجب أن تمتلك لوناً معيناً توحي لنا بهذا اللون ‘ لكي يكون النسيج الشعريّ عبارة عن فسيفساء لونيّة , وكل مفردة يجب أن تمتلك طاقة شعورية نفسيّة موحية تحرّك في أعماق بئر ذاكرتنا وتهيّج الكثير من الذكريات والمشاعر والأحاسيس , لكي تجعل المتلقي يُقبل على النصّ ويتعايش معه إيجابيّاً ويتفاعل معه تفاعلا أبداعيّا ً , وكأنّ النصّ يتكلم عنه . لكلّ مفردة يجب أن تعبيراً قاموسيّاً ينقلنا الى الواقع , ورسم صورته لتؤرّخ لنا تاريخ كتابة النصّ , كلّ مفردة يجب أن تمتلك عطراً خاصاً بها ينتشر شذاها بين الفقرات الأخرى , وكأنّنا في حديقة غنّاء زاخرة بألوان متعددة من الزهور , ولكّ زهرة لها لونها الخاص وعطرها الخاص وشكلها الخاص ومكانها الخاص المناسب , لتكون هذه الحديقة / النصّ – النسيج الشعريّ /متناسقاً , يكمن وراءه مهندساً معماريّا ذكيّاً يجيد تحديد المسافات / النغمات / الصور / الأحاسيس / المشاعر / الأشكال / الألوان / والأنواع / , ثم يقوم بتشذيب / الحديقة / النصّ الشعريّ – النسيج الشعري / فيقصّ الأغصان اليابسة / المفردات الميّتة / ويرفع الأزهار البائسة العديمة الفائدة / الزوائد والنفايات اللغوية / ليجعل المكان / النسيج الشعريّ مضغوطاً قدر الأمكان , لتكون الصورة النهئيّة برّاقة زاهيّة .
لقد أمتلكت الشاعرة :/ فاتن عبدالسلام بلان / وضوحاً في تجربتها وذخيرة معرفية أستندت عليها أثناء كتابة هذا النصّ , وكذلك قاموساً مفرداتيّاً طعّمت من خلاله نسيجها الشعريّ , فكانت مفرداتها تمتلك من الأنزياح اللغوي وأبعاداً ودلالات نفسيّة , اضافة الى الصور الشعرية التي هي الأخرى أمتلكت أنزياحاً صوريّاً غير معهود .
لقد صوّرت لنا الشاعرة عبر نصّها هذا قبح الواقع وظلامه وقسوته , فقاموس المفردات هنا صوّرت لنا كشفت عن مزاج النصّ , والأحساس العميق بمحنة الذات الشاعرة بهذا الواقع وقسوته , فنحن لا نجد مفردات تنمّ عن الفرح أو السعادة أو الأمل فالألفاظ كئيبة ومريرة تعكس الحالة النفسيّة للذات الشاعرة , وتوحي لنا بالكآبة والحزن والتشظّي , لقد تجّلت بوضوح مقصدية الذات الشاعرة عن طريق قاموسها المفرداتي الصادم والعنيف .
ونجد ذلك واضحاً من خلال مفردات النصّ التالية :
الخراب / البنادق / شيخوخة / دمع / نزف / رأس دون مخيّلة / زهايمر / دخان الجوع / اليُتم / شراهة الحرب , تراب وشاهدة / نشيد الموت / الغرقى / طفولة الملثّمون / كسر زجاج الشمس / مشانق / الخيبة / النار / عود ثقاب / رمّد / خيبة أخرى / رائحة الموت / عود ثقاب / يجزّ البلاد قرابين / حفل شواء / الرماد / الأحتراق / أرملة / عقيمة / الرصاص / لسعة اصابع / خيبة أخرى / أرتجاف أمومة / سبات حليب / غرفة الأنعاش / فاحشة العقر / فارهة العنوسة / ويلاه .. !! .
فكلّ مفردة هنا لها دلالاتها النفسيّة والجماليّة والرمزيّة , ولها جَرسها الخاص بها وما توحيه في نفس المتلقي من صور وذكريات وعطر وحضور وأيحاء ولون , على المتلقي الأيجابي والمنتج أن يجرّب هذه المفردات ويعيش في أجوائها ويتمثّلها مع نفسه , حينها سيعرف قيمة هذا النصّ , ومقدرة الشاعرة على رسم صورة لهذا الواقع المؤلم . ما من مفردة من هذه المفردات إلاّ وكانت مشحونة بطاقات نفسيّة هائلة , ومليئة بالأيحاء والمشاعر الأنسانيّة , فمثلا لو نختار مفردة كـمفردة / الموت / ماذا ستوحي لنا : أولاً : سنسمع صوت البكاء والعويل والنشيج , وسنرى غزارة الدموع وتجّريحها للخدود , وصور الأسى والحزن في الوجوه , وحالة الكآبة للفقد والخسارة , والشعور العميق بالأختفاء وقسوة القدر . وهكذا في باقي المفردات النصيّة . يجب أن تكون القراءة لمثل هكذا نصوص قراءة أبداعية تتناسب وحجم الأبداع الذي فيها , قراءة ليست سطحية وأنما تفاعليّة منتجة . أنّ النصّ يحتمل أكثر من تأويل وهذا من محاسن النصوص العظيمة , وفيه من الدلالات الشيء الكثير , وشيفراته ممتعة حدّ الدهشة . وما هذه القراءة إلاّ سياحة في سماوات هذا النصّ الشاسعة .
النصّ :
لمْ يُبقِ الخرابُ
حمامةً في المحابر
بقيّةُ الأشعارِ
وجوهٌ مُستنسخة
تَلْسِنُ بـ الذخائرِ وبُصاقِ البنادق
هناكَ على قيدِ اللعب
مُصابٌ بـ شيخوخةٍ مُبكرة
يمسحُ بـ ثوبِ أمّهِ
دمعَ أرجوحةٍ ونزفَ دمية
و بـ رأسٍ دونَ مخيّلة
يقفُ مثْلَ فاصلةِ توحّدٍ
وزهايمرٍ بينَ دُخان
لمْ يُدركْ قبلَ الجوعِ
طعمَ اليُتمِ في شراهةِ الحرب !
و فداءً لـ بؤبؤِ البراءة
أنا ربيبةُ الضوء
أنسلُ خيوطَ الماءِ
من تُرابٍ وشاهدة
أحصصُّ فُستاني
بياضًا في نشيدِ الموت
وأرمي عقودي
زوارقَ لـ الغرقى
وحصىً لـ العشاق
مُذْ كنتُ قُبلةً على شفاهِ النهر
وزواجلي رسائلُ محْشوّةٌ
بالتنّورِ والخُبز
وأضلاعي تدّخرُ
طفولةً في مهبِّ الطائراتِ الورقية
وصندوقُ ذكرياتي
حكاياتٌ تشمّستْ على حبلِ الوطن ..
أيُّها الملثّمون ::
مَنْ كسرَ زُجاجَ الشمسِ
في شبابيكِ الصباح
وعلّقَ الظلالَ مشانقَ
في الغابات
وقد نذرتُ قصائدي
قناديلَ للنَجَاة ؟
ياللخيبةِ المدسوسةِ بالنار !
أتوعّدُ بـ الإطفاءِ
لـ عودِ ثقابٍ
فقدْ هجّرَ العصافيرَ
ورمّدَ الأعشاشَ
وساومَ على فحولةِ الأغصان ..
وها هي خيبةٌ أُخرى
بـ رائحةِ الموت
أهذا عودُ ثقابٍ
يجزُّ البلادَ قرابينَ
في حفلِ شواء
ويُطلقُ الرمادَ لـ عنقاءٍ
تُضمّدُ بـ جناحيها فتوقًا
وسماءً فارهةً بـ الاحتراق ؟
بتُّ الآنَ أرملةَ الشِّعرِ
عقيمةَ القوافي
سرقني الرصاصُ أجنْتي
وتركَني بـ تسعةِ أصابعٍ إلا سبّابة
أتحسّسُ بـ خيبةٍ أخرى
اِرتجافَ أمومةٍ وسُباتَ حليبٍ
في غرفةِ الإنعاش
وأنا فاحشةُ العُقرِ فارهةُ العنوسة
يا ويلاه