عرفت الكاتبة مها راجح قبل عصر الفيسبوك من خلال المدونات والمنتديات كاتبة للخاطرة وللقصة القصيرة، بل القصيرة جداً قبل انتشارها المتسارع أخيراً. وقد تأخرتْ كثيراً في اللحاق بقطار المؤلفين، فلم تصدر قبل كتابها الذي بين أيدينا (التفاتات المها) إلا مجموعة قصصية واحدة بعنوان (وداع برائحة الأمس) صدرت عن نادي المنطقة الشرقية قبل فترة وجيزة، كما أشار إلى ذلك الكاتب المعروف محمد ربيع الغامدي في تقديمه لكتابها الأخير.
كتابها التفاتات المها يحمل مجموعة من الخواطر القصصية إن صحت التسمية، فهي ليست خواطر ذاتية تستهدف تسجيل لحظة آنية وتفريغ شحنة نفسية فحسب؛ فكل خاطرة تحمل حكاية ورسالة ومضموناً.
الكتاب صدر حديثاً عن نادي الأحساء الأدبي في ستين صفحة، ينقسم إلى جزأين؛ القسم الأول حمل عنوان (التفاتات يومية) ويندرج تحته أربعين التفاتة، والقسم الثاني بعنوان (صباح الخير قهوتي) واشتمل على سبعة وعشرين (فنجانا)!
أبدأ قراءتي من العتبتين الأوليين؛ عنوان الكتاب وغلافه. العنوان الرئيس (التفاتات المها) ثم يتفرع منه عنوان جزئي أو تفسيري (خواطر بصحبة فنجان القهوة) ومع أن الكثير من كتَابنا المتأخرين أسرفوا في تعبيرهم عن حب القهوة والكتابة عنها واتخاذ لفظها عنواناً أو جزءاً من عناوين لكتبهم؛ إلا أني أرى أن الكاتبة لم توفق في إضافة الجملة التفسيرية إلى العنوان الرئيس. فالتفاتات المها فيها لمحة ذكية لاسم الكاتبة نفسها، إضافة إلى الإشارة المخفية للغزال البري المشهور بالتفاتته. ولو خلا العنوان من ذكر القهوة وفنجانها، وتجرد الغلاف من فنجان القهوة وصحنها، وحل محل ذلك صورة لمهاة عربية بالتفاتة ساحرة لكان أكثر دلالة على العنوان.
في التفاتة بعنوان (الفقد) تحدثنا الكاتبة عن تعودها الفقد لدرجة تَقَبُّله. وتتدرج بنا من المفقودات اليومية التافهة إلى أعز ما نملك وأعز من نعرف.. لنقرأ: «اعتدتُ أن أخاف من الفقد.. ولكن، بعد أن أدركت فقد الكثير من الأمور كل يوم لم أعد أقلق.. أفقد أشياء بسيطة.. أقلام كحل.. مفاتيح.. بكل شعر.. نقود.. أفقد ما لا يمكن الاستغناء عنه كالوقت.. ذكريات الطفولة.. الفرص والمشاعر.. فقدت أبي .. أخي.. أحيانا نفسي.. الفقدان لا مفر منه.. تقبلته.. حين أدركت أنه شيء عن الحياة». ص14
وفي التفاتة بعنوان (قصة لحظة) تتحدث عن أشياء نفعلها أحيانا بدافع صرف السأم عنا، ونكتشف عند التنفيذ أننا على خطأ: «بعد ظهر ذات يوم كانت الشمس ترسل أشعتها الحارة جدا.. قررت أن أتصل عليه بلا سبب.. ربما شوقا أو مجرد شعور بالملل أو شيء من هذا….. أخذت نفساً عميقاً.. شعرت باهتزاز أصابعي وارتجاف جسدي.. تم الاتصال.. أجاب بعد الجولة الرابعة.. كان صوته مختلفاً في الهاتف.. لم أتعرف عليه.. لهجته دافئة وثابتة.. قاومت ضغطا انتابني لم أستطع! أقفلت الهاتف دون تفكير بعد أن أجبت بصوت يرتجف: عفوا أحطأت في الرقم». ص18 .
وفي خاطرة بعنوان (الغربة) تتحدث بأسى عن مشاهدتها لزوجين يدخلان مطعماً يتناولان وجبة عشاء، يقضيان وقتهما صامتين لا تتحرك أيديهما إلا لتناول الطعام أو النقر على أجهزة الهاتف، وتتساءل باستغراب أين هذان من أيام الخطوبة؟ وتشير إلى خطورة أن يؤدي هذا الفتور إلى اتساع رقعة الغربة بينهما. ص21 .
وفي التفاتة بعنوان (خطوط) تتحدث عن المفارقات التي تحدث بين النسوة في مختبرات تحليل الحمل، ففي حين تتطلع كثير من النساء للنتيجة الإيجابية، هناك من يتمنين النتيجة السلبية لأسباب منها عدم مناسبة الوقت أو عدم الاستعداد النفسي للإنجاب، أو لأن الزواج كان بالإكراه! ص33 .
وفي التفاتة عنوانها (الحياة) تتحدث عن اعتياد الحارس الليلي لروتين الحياة، وكأن الخاطرة تشير إلى تناقض الحياة، ففي حين يكون الليل نوعاً من التغيير لآخرين يكون حياة معتادة لهذا الحارس: «يوم آخر والسيد الليل وصل.. نفس النجوم ونفس القمر يلقون لي التحية وأنا أمارس عملي في حراستي الليلية.. دائماً أحب أن أصاحب هذه المجموعة.. أحب رفقتهم، صداقتهم، والضحك معهم، فهم العالم الوحيد الذي يمكنه أن يسمع سعادتي. الوقت يمر والأيام تجري والحياة تأكل سعادتي حية لا تبقي لي شيئا». ص35 .
ومن الالتفاتات المدهشة تلك المعنونة بـ (تطابق) أنقلها بنصها كي لا تفقد مفاجأتها: «صادقتْ شخصا على الإنترنت لعدة سنوات.. لم تطلب أن ترى صورته ولم ترسل صورة لها.. لم تكن فضولية.. اليوم طرأ لفضولها بعض تغيير.. أرسلت بالبريد الإلكتروني تطلب صورة له فجاءها الرد.. ترددت كثيراً لتنقر على الرسالة.. ازداد فضولها و.. رأته.. ابتسمت.. قالت في نفسها ليتني لم أطلب الصورة ليتني لم أفعل»!. ص39 .
حين نستيقظ من النوم نفتش عمّا مر بنا فندرك أنه لم يكن سوى أضغاث أحلام. عالجت الكاتبة هذا الأمر في التفاتة بعنوان ( ليلة): «كنت أعلم أنها ليلة مزعجة عندما تضطر أن تنهض من السرير في الرابعة صباحاً لتكتب.. لتخلص عقلك من بعض أفكار راحت تشاغبك وتزعجك، فتمسك بالورقة والقلم وتكتب.. وتكتب.. تحس بالراحة وتعود للنوم ملء أجفانك.. تستيقظ وتشعر بالسعادة حين تفكر أن سطوراً تنتظر أن تشرق بين يديك.. تبحث في الورقة تجدها فارغة». ص41 .
ومن خواطر الجزء المعنون بـ (صباح الخير قهوتي) اختار (الفنجان رقم 5): «هذا الصباح قضيت وقتاً في سريري أشاهد ظلال الأشياء التي ترسمها الشمس على جدران غرفتي وهي تتحرك في جميع الأنحاء.. فكرت كيف أن أجمل الأشياء غالبا ما تكون عرضية تمر بنا». ص50 .
الفنجان رقم (8) فيه دعوة من الشمس لتوزيع ابتساماتنا على من نعرف ومن لا نعرف: «ألقت الشمس عليّ صباحها وطلبت مني أن أستيقظ وأصنع ابتسامة لأحد ما يمر في طريقي.. أليس من الجميل أن نبدأ يومنا بابتسامة لمن نعرف أو لا نعرف لربما نخفف حزن أحدهم أو نحظى بصداقة آخر». ص51 .
الفنجان رقم (14) تتحدث المؤلفة عن استئثار بعضهم بالحديث لدرجة احتكاره وفرض رأيه واتخاذ نفسه أنموذجا على الآخرين احتذاؤه، فهاتان صديقتان في مقهى، تتحدث إحداهما عن نفسها وعن مغامراتها في السفر، وتجادل في أفضلية قهوتها على قهوة زميلتها وتتحدث عن مشروعاها المستقبلية واستثماراتها؛ في حين تتأمل المستمعة الصامتة بملل، وتتعجب من احتمال السجادة التي تفترش أرضية المقهى لحديثها وحديث أمثالها كل يوم: «كانت السجادة تتنهد كلما تنهدت.. أشعر بالأسى للسجادة لأنها تعيش الكثير مثل هذه المأساة». ص54 .
وتتخوف الكاتبة من ردة فعل بعض الناس حين لا نرد على إشاراتهم ولو دون قصد بسبب انشغالنا أو عدم ملاحظتنا. تقول في الفنجان رقم (15): «بالأمس احتسيت قهوتي في الشرفة إحدى جاراتي كانت في الشارع المقابل لوحت لي تلقي تحية الصباح.. يبدو أنني سرحت مع القهوة تابعت في رشفها.. انتبهت بعد وهلة أن تعابير وجهها اختلفت.. دخلتْ منزلها تتمتم.. يبدو أني حظيت بيوم بائس.. كان علي أن أعتذر منها قبل أن تصبح عدوتي»!.. ص55 .