د. أحمد باحارث
هيمن الإنجليز على الساحة الحضرمية بترحيب من سلاطين حضرموت أنفسهم عبر ما عقدوه مع بريطانيا من معاهدات بدءًا من عام 1882، وتدرجت في حدتها ودرجة تدخلها حتى بلغت أوجها في منتصف الثلاثينيات بإقامة مستشار إنجليزي في المكلا وسيوون صار هو الحاكم الفعلي للبلاد، وقد تباين موقف الشعراء في البداية من هذا المستعمر المغلف، لكن وجدنا منهم من وقف منه مبكرا موقف العداء الصريح، وحث السلاطين على نبذهم والنأي عنهم، ويأتي على رأس هؤلاء الشاعر عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف حيث قال:
ولي وطن مذ ألف عام وأرضه لزهـر الدجى أوج وللأوليـا وكر
أترتاح نفسي بعدما أوثقت له حبائل في طياتـها الغـدر والمـكر
نغار من الأمـر اليسـير يناله فكيف وفي استعماره استشرف الكفر
ويصرح في قصيدة أخرى بهوية هذا الاستعمار فنراه محذرًا من خطر الإنجليز، وناعيًا على من ساندهم من سلاطين حضرموت يقول:
قـد أوهمـتنا أوروبـا إذ تلايننـا لين الأفـاعي بود ملـؤه دخـن
وأوقعتـنا انكلـترا من دسـائسها في هوة إذ حشت أحشاءها الإحن
أضاع سـاستنا وجه الصـواب وما تنبــهوا لنوايـها ولا فطنـوا
ومن ثم رأينا قصائد مبكرة تحذر من الاستعمار وغوائله وتدعو إلى الجهاد من أجل دحره وطرده، ومن ذلك قول الشاعر محمد سالم بن حفيظ مخاطبًا قومه الحضارم:
هـل شـعرتم بأنكـم لهـواكم ولقـوم مسـتعمرين عبيـدُ
شـغلتكم عن بذل أرواحـكم في ما عليكـم أولادكم والنقـود
وألفتـم ذل التـواني وقـــــد أنـ ـساكم العـز ظله الممـدود
وينادي شاعر آخر الحضارمة إلى الجهاد في سبيل الله من هذا المستعمر كي ينالوا استقلالهم منه، وهي دعوة لجرأتها المبكرة نشرها شاعر تحت اسم مستعار هو (أبو زيد) فقال:
وجاهدوا في سـبيل الله حق جهـا دٍ واستقيموا لكي تعلوا وتنتصروا
فبالجهـاد ينال الشـعب عـزته وبالجهـاد يكون الفـوز والظفر
ما حـررت أمـة من أسـر ذلتها إلا به فاقـرءوا القرآن وادّكروا
ولا استقلت شعوب في العوالم إلّـ ـا بالجهـاد وحزب الله منتصر
ومع مرور الزمن وتكشف الحقائق وصعود المد القومي والتحرري في البلاد العربية تعززت القناعة لدى الأديب الحضرمي بضرورة الثورة ضد النظام القائم الإنجلو سلاطيني، وكان ممن أعلن الثورة منهم الشاعر سالم زين باحميد حيث قال:
آن يا حضرموت أن ترفعي الرأ س وأن ترفلي بثوب قشيب
أنا ما عدت خـائفًا من قيـودٍ أنا ما عدت خـائفًا من لهيب
أنا حسبي أكون درعًا لشـعبي أنا حسبي أكون بعض وجيب
أنا جيل من الكفاح سـأمضي لست أسعى لغير عيش رطيب
وعمت حضرموت المظاهرات والإضرابات المتواصلة من جميع فئات الشعب، ولاسيما الطلاب والعمال، وصار الأمر أشبه بثورة شعبية عارمة، عبر عنها الشاعر فايز محمد عبد العزيز فقال:
الشعب ثار .. الشعب ثار
هتفت ملايـين الشـفاه
سـنعيد للشـعب الحياة
رشـوا دروب الحي نـار
* *
وعلى مدى الأفق البعيد
كانت هنالك هـادرة
كتل الشـباب الثائرة
غضـبى تلوح بالحديد
* *
وتساءل المسـتعمرون
كيف السبيل إلى الهرب
الشـعب أعماه الغضب
ومن الزعيم ومن يكون؟
* *
الشعب كل الشعب في ثورة
حمـراء تصـلي من خـانه
من بـاع يا ذئـاب أوطانه
الشعب ثار الشعب في ثورة
* *
وهوت عروش الظلم والعقد
وتحررت من ضعفها بلـدي
كل القيود كسـرتها بيدي
ومضى غريب الدار للأبـد
واستمر الحراك الوطني والنضال الشعبي يزلزل كيان السلاطين وحلفاءهم الإنجليز، فقاموا بمحاولة يائسة بإطلاق ما سمي بقانون الحريات العامة، لعلهم يهدِّؤون بذلك من ثائرة الشعب عليهم، لكن الشعراء الواعين كانوا لهم بالمرصاد، فكشفوا حقيقة الخدعة وبشروا المتآمرين على الوطن بمصيرهم المحتوم، يقول الشاعر حسن عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف:
كفوا زعانف قومنا عن غشنا فالشعب واع للأمور بصير
اليوم دولتـكم وأما في غدٍ فله عليكـم منكـر ونكير
إن تفتحوا للأجـنبي قلوبكم فبـلادنا تنّورها مسـجور
الإنجليز وليـس يأمـل رفده إلا الذي هو في العروبة زور
لن تهدأ الأوطان من غليـانها حـتى يزول تآمـر وأمـير
وكان أدباء حضرموت في قصائدهم يهدون تحياتهم، ويبدون تعاطفهم، بل يظهرون حماسهم، لما يعتمل في الجنوب، ولاسيما في منطقة ردفان، ومن هؤلاء الشاعر ابن سيئون محمد سالم الحامد يقول من قصيدة له حملت عنوان (تحية بطل ردفان):
فجـروها ثورة مـن أبلـق أصـله في منتهى الشمس بناها
الأشـم الفرد ردفـان الذي طأطأت منه البطولات الجباها
بعثـوها مـن ذراه لـهـبًا حممًا بالـدم والنار صـلاها
قد تحـدوا الموت في ساحته يبذلون النفس في أبهى حلاها
أشعلوا الدنيا جحيمًا ورموا ببني السكسون في قعر لظاها
وفرح الناس باستقبال زعماء الجبهة القومية الذين وقعوا على وثيقة إعلان الدولة الجديدة، ومن بينهم بعض الحضارم، ويعبر عن تلك الفرحة الشاعر محمد عوض باوزير ويقول واصفًا ذلك الحدث:
ومع الصبح في الثلاثين من نو فمبر استقبل الرجال رجالا
قادة الجبهة الذين تسـاموا رفعة بين شـعبهم وجلالا
خرجوا من بلادهم طلبًا للـ ـعز حتى عادوا لها أبطالا
حرروها من كل مستعمر با تت تلاقي من فعله أهوالا
ورأينا بعض الشعراء يعبر عن تفاؤله بمرحلة ما بعد الاستقلال مثل الشاعر سالم عبد العزيز حيث يقول:
يا أخوتي بعد سنين القهر والعذاب
يعود كلب البحر مهزومًا إلى جزيرة الضباب
يفزع من إصرارنا
يخرج من ديارنا
مخلفًا وراءه أسطورة الضرغام في التراب
تدوسها أقدامنا
تسحقها آلامنا
بعد سنين القهر والعذاب
يا إخوتي آن لنا أن نرفع الجباه
آن لنا أن نجعل الفرحة بعد الحزن في الشفاه
تشرق من إشراقنا
تعيش في عناقنا
تشعرنا بأن في انتصارنا تنتصر الحياة
تصرخ في أعدائنا
تحكي لأصدقائنا
آن لنا أن نرفع الجباه
يا إخوتي حذار أن يركبنا الغرور
فترتخي أجفاننا، حذار أن تخدعنا القشور
الموت في انتظارنا
والويل من صغارنا
إذا تعالينا ولم نهبط إلى منابت الجذور
إذا خوت أيامنا
وسيطرت أوهامنا
حذار أن يركبنا الغرور
يا إخوتي لما نزل في أول المشوار
دروبنا طويلة محفوفة بالشوك والأخطار
بعيدة نجومنا
كثيرة همومنا
يا إخوتي إذا أردنا أن نظل أبدًا ثوار
نقل من أقوالنا
نزيد من أعمالنا
لما نزل في أول المشوار
ونرى الشاعر الحضرمي عبد الله أحمد الناخبي يخاطب جاره ابن الجنوب يوصيه بالوفاء بعهد الشراكة في بناء الوطن الموحد:
يابن الجـنوب أنـا وأنـ ـت لخدمة الأوطان جندي
اللّــه وحّــد بيـننا اللّـه ألزمــنا بعهـد
قـم بالوفـاء فـإنـني آليـت أن أوفي بوعـدي
وكأنما كانت لدى الشاعر من فراسته ما جعله ينطق بتلك الأبيات المتوجسة لنُذر القادم، ولكنه لم يجد ذلك الوفاء المرجو، وأصبح الشاعر نفسه بعد سنوات قليلة طريدًا عن وطنه غريبًا في منفاه القسري.