آفاق حرة
يسعى الباحث حسن إغلان، إمعانا في توسيع ذاكرته الفلسفية والقرائية، إلى تأزيم كل شيء (العدم والوجود على حد سواء)، انطلاقا من إعلان الاختلاف الصريح مع الجاهز والممنوح والثابت.
هذا هو الأفق المفتوح الذي وضعه حدا فاصلا بين ما ينتمي إليه (الإرباك والتدمير وإعادة البناء) من جهة، وما يحاول ألا ينشغل به (الثبات واليقين والقطعية).
معنى هذا الكلام أن حسن إغلان كائن “تقليبي” و”انقلابي” و”تشكيكي” و”فضائحي”، لا يطمئن إلى شيء محدد، لا إلى المصطلح، ولا إلى المفهوم، ولا إلى السائر، ولا إلى المتاح.
وهذا هو بالفعل هو السياق الذي تحكم في اهتمامه بالجسد. فالجسد، كما يفهمه حسن إغلان، ليس كثرة فحسب، بل التباسا وتراكما وتقاطع طرقات. إنه كما يقول “عالم مليء بالألغام”. إنه إذا شئنا “تأويل”.
إنه ليس فقط الجسد الذي نجده في كتب “الباه”، ولا ذاك الذي تضج به كتب “الإيروتيكا العربية”. ليس جسد السيوطي، ولا النفزاوي، ولا التيفاشي، ولا ابن اسحاق، ولا ابن سليمان. إنه أكبر من ذلك بكثير، أكبر من هذا الذي نسميه “الشهوة والاشتهاء” أو “الرغبات والمتع” بكل امتداداتها المادية والنفسية.
إنه أولا وأخيرا “سلطة” قاهرة، وأداة من أدوات ترويض الفكر والسلوك الاجتماعي. وبتعبير آخر، إن الجسد الذي يقدمه إلينا حسن إغلان نمط مميز من أنماط التفكير العليا، ووسيلة من وسائل التحكم وتوسيع النفوذ و”القولبة”. إنه الجسد “الأصولي” الذي ينبغي تخريقه وتمزيقه، وإفراغه من خصومه الحقيقيين الذين يقعون خارجه، فضلا عن إزالة الحجب الكثيفة التي تراكمت عليه منذ قرون بغاية طمسه وإغلاله ومنعه من اليقظة.
فليس هناك جسد حر، ما دام هذا الجسد “ممهنن” أو “مؤدلج” أو خاضع لـ “تقنين مسبق”: جسد الكاتب، جسد المتطرف، جسد المفكر، جسد الملاكم، جسد الراقص، جسد المهمش، جسد اللاعب، جسد رجل الدين…إلخ. هكذا يصبح للجسد صفاته المهنية والاجتماعية والرمزية والثقافية…” (يقول حسن إغلان). إن هذا التصنيف أو “المهننة” التي يخضع لها الجسد تقودنا إلى مستوى آخر من التفكير كما يقترحه علينا حسن إغلان، أي إلى الجسد بوصفه “لحما”. وبمعنى آخر، إنه يقترح علينا “الفصل بين اللحم وما يغطيه، وما يترتب على ذلك من خروج الجسد من جسديته”. وهنا سنكون وجها لوجه مع “اللاجسد” كمظهر آخر من التفكير العميق في الجسد، كما سنكون أمام اقتراح آخر يفضي بنا إلى التفكير في الجسد كآخر، أي كمسافة ذهنية وفيزيقية وسيكولوجية وجنسية بين الذات وغيرها. ومعنى هذا الكلام أن الجسد حين يصبح موضوعا للرغبة يتحول إلى عدو حقيقي، إلى شيطان. لنتذكر جيدا كيف تقترن الأنوثة بالغواية في مختلف الميثولوجيات، بما فيها الميثولوجيا الإسلامية.
من هذا المنطلق، فإن حسن إغلان يلعب دور “المطرقة”. ولهذا ليس غريبا أن يحاول، كما فعل نيتشه، تفجير نظام الجسد من داخله، أي ممارسة الحفر الجينيالوجي في المقولات الفقهية والفلسفية التقليدية حول الجسد.
ففي بحثه الفارق والمهم حول “الجنس والسياسة/التدبير السياسي للجسد في الإسلام”، انطلق الباحث حسن إغلان من السؤال التالي: “كيف حدد المقدس الإسلامي علاقة المسلم بجسده؟
إنها علاقة لا تقع خارج “تشريع الأحكام وتدبير الجسد في الدنيا والآخرة وعبر سنِّ استراتيجيةَ تطويعه. يقول إغلان: “لقد مارس الفقهاء )أغلبيتهم( بالفعل تدبيرا سياسيا للجسد المسلم ) فردا وجماعة(، طاعة لأولي الأمر بالأساس (سلطانا، قائدا، أبا…)”. ومن هنا يتضح أن السلطة التي مارسها الفقهاء همّت الجسد في حالاتٍ ثلاث: الجسد محجبا، الجسد معذبا، الجسد أخرويا. إنها التصورات الدينية التي تستعملها سلطة الاستبداد من أجل التحكم. الحجب والطمس والصوم من أجل تحقيق الخلاص. “التحكم بتصريف الرغبة إلى شياطين صغيرة ينبغي التغلب عليها لتجنب الجحيم”.
إن حسن إغلان يدرك أن “الإنسان ليس فكرا مفصولا عن الجسد وليس جسدا مفصولا عن الفكر” (ميرلوبونتي). وهذا ما جعله يحفر في تلك العلاقة الملتبسة بين الجسد والسياسة، أي بين الجسد وبين تلك السلطة القهرية التي تعمل على تدبير الجسد بتأليب الفقهاء عليه، وتسخيرهم من أجل إخضاعه للقولبة التي يتيحها الدين.
إن تصوراتنا عن الجسد لا تقع خارج النسق، وترتبط ارتباطا وثيقا بالتنظيم الذي خضع له الذهن البشري. وبهذا المعنى، يمكن أن نتحدث عن الصيرورات الإدراكية لمفهوم الجسد. كما يمكن، من موقف تحليلي للعلاقة الجدلية بين الروح والجسد، وانطلاقا من العلوم التجريبية، بناء معنى آخر لا يخرج عن ذلك النسق الذي يُسقط الجسد في تأويلات دينية، وأيضا في مواقف بيولوجية خارقة.
وتأسيسا على ذلك، إن أي تفكير في الجسد، خارج التخييل (جورج باطاي)، ينطلق من أحكام “مسبقة” غير مبنية على “وجهة نظر الإيروس” فقط، بل يضعنا أمام مسلمات تنتمي إلى النسق العام ولا تنظر بأي شكل من الأشكال خارجه، وإلا ما معنى رجل؟ ما معنى أنثى؟ ما معنى الإرمافروديت؟ ما معنى الجنس والتكاثر والانتساب إلى الدم؟
تضعنا مثل هذه الأسئلة أمام الجسد باعتباره مزيجا أصيلا لعلامات ورموز. وهذا ما انتبه إليه جورج باطاي حين تحدث عن التجربة الداخلية للجسد الذي يمنح أماكن قطيعته (العين، الفم، الرحم، الشرج) ذلك الانفعال المعدي للرغبة، حيث تتدفق الحياة وتؤكد نفسها باستمرار. فالعدوى، حسب باطاي، هي مبدأ الاستهلاك الذي يشتغل، لتتحقق “الإثارة”، وفق مبدأ “الانتهاك” أو “التخريب، رغم ما ينطوي عليه ذلك من رعب. إن باطاي، وفق هذا التصور، يخرج من ثقل الامتثال دون التمسك بأي قيمة إلا قيمة العصيان الذي من شأنه أن يحرر الجسد من التصورات المسبقة، ويكسر جميع روابطه مع التنافس الجذري للانتماء إلى النسق واستنساخه وتكريره.
لكن، هل يمكن أن يتحقق العصيان في السياق الإسلامي؟ هل يمكن ابتكار إبدالات أخرى للجسد تتيح له أن يتحرر من القولبة و”السُخْرَة”؟ هل يمكننا أن نتخيل جسدا إسلاميا خارج المتعالي الديني وخارج الرقابة الفقهية؟
بالعودة إلى العصر العباسي، مثلا، نكتشف أن الجسد كان مقيدا ليس بالمنع والحجب، بل بالمتعة والإسراف في ملاحقة اللذائذ. لكنها مع ذلك، متعة الخاصة، وليس متعة العوام. متعة الحاكم وليس متعة المحكومين. ولذلك، يمكننا القول إن التأويل الفقهي للجسد ظل مهيمنا، وذلك خاضعا لثنائية الروح والجسد، كما ظلت المخايلات الأخروية للجسد ومآلاته المختلفة مهيمنة. ذلك أن “الفقيه يتحدث عن الجسد من داخل النص المقدس بالحجْب والتعرية”.
إن الفقيه الذي يضع نفسه رهن إشارة الحاكم، يقعد سلوك المسلم على المستوى الجسدي، منذ ولادته إلى وفاته، ومنذ استيقاظه إلى نومه، وفي لحظات تمكينه كما في لحظات تلوينه. إنه راسم الحدود وحارسها والساهر على إبقائها في حيز المقدس. وقد اختص الفقهاء بقولبة الجسد المسلم وحمايته من المعاصي التي تفشل كل الشهوات التي وقع تأجيلها إلى حين الفصل في أهل اليمين، وأهل الشمال.
إنه، بمعنى من المعاني، عش الرذائل التي ينبغي مواجهتها ليتحقق “الإنقاذ الكبير”، ولا تتحقق المواجهة إلا بالقمع والإلهاء والإلغاء والارتفاع والتنسك: النظر باحتقار إلى ما تطلبه الغريزة من متع.