لصحيفة آفاق حرة.
الدكتورة سوزان خلقي تمتطي صهوة الدرامافي (روت لي حكايتها)
الناقد د. سلطان الخضور
كانت هناك مدينة قديمة كما الحياة
حيث السّـــــــماء تعانق الحيـــــــاة
ويرفرف الحمام من ألف عام وعام
ممتدّة خضــــــــــــراء ربيبة المطر
هناك ولد الحب وهناك مات الحـب.
هنـــــــــــاك في أرابيــــــــــــــــــــلا
في إربد كانت الحكاية, وفي أربد حيكت الرّواية, ومن هناك روت لي حكايتها.
“روت لي حكايتها” رواية نسجت خيوطها الدكتورة سوزان حسن خلقي في بيت عرف ببيت الزاوية وقامت على طباعتها ونشرتها ” الآن ناشرون- للطباعة والنشر والتوزيع” عمان.
أقيمت الرّواية على أرضية صلبة, عبّرت عن قدرة الكاتبة على السّرد المشوّق, وعرضت مشاهدها بتسلسل منطقي, وامتازت بقدرتها على رسم صور دقيقة وواضحة للمشاهد التي عرضتها بلغة أدبيّة ميسّرة, ومفردات منتقاة غير قابلة للتأويل.
زيّنت خلقي الوجه الأمامي لرّوايتها, بصورةٍ لفتاةٍ يافعةٍ توشّحت وغلاف الرّواية باللون الأسود, لتشير إلى الوجه المشرق للأنثى حتى في الليالي الحالكات, وجه استطاع صناعة الحدث واستطاع التعايش معه بنجاح, وقادت منال بطولة الرواية, وكانت صمّام أمان للأحداث بتفاصيلها, وحكمتها التي تفتقدها مجتمعاتنا في كثير من الأحيان, لسبب بسيط,, وهو الموروث الاجتماعي الذي جعل منها تابعة, يغلفها الظلام ويوشّحها السّواد.
فمنال بطلة الرّواية الرّئيسة والتي اكتسبت الاسم, بعد أن دعا أبوها ربَّه أن ينال بنتاً لتكون عوناً لأمها التي أحب, فكانت منال, الابنة الجميلة المثابرة, والأخت الصابرة, والفتاة القويّة التي مثلت الحكمة والتروّي وحسن التّدبير, الذي ظهر بحرصها على استمرار العلاقة التي تردت بين أخيها أسعد وزوجته, والقويّة التي لقبت من قبل الفتية بالوحش حتى ظنها بعضهم بسبعة أصابع بكل يد, وأنها رماديّة اللون ومزدوجة اللسان.
حمت منال بيتها وملحقاته من حديقة ودكان, وقادت أسرتها وأوصلت من تبقى منها بعد وفاة والديها وهروب زوجة أخيها ومقتل أخيها البكر “أسعد” ‘إلى شاطئ الأمان.
حاكت الرّاوية خيوط روايتها بدقّة لافتة, وحبكت عقدها وحلّتها بعناية شديدة, وما بين صّعود وهبوط وانعطافات ذات اليمين وذات الشمال, استطاعت تقديم مشاهد دراميّة مؤثرة, أرسلت من خلالها ذبذبات متفاوتة وموجات هادئة وأحياناّ متلاطمة من الفرح والحزن, فاستطاعت تأزيم الحدث والخروج من عقدته بشكل “درامي” مثير. امتاز بالقدرة على إثارة الدهشة في المتلقي, وتركته في بعض الأحيان مشدوهاً على قارعة الفصل, ينتظر الحل.
مشاهد الرّواية بدت تحاكي الرّواية الواقعية التي جعلت المتلقي ينخرط في أحداثها ليكون جزءاً من الزمان والمكان ويعايش فصولها مندهشاَ, منتظراً, متسائلاً, متفائلاً, متشائماً, يحرص على المتابعة والتكيّف, كأنّه شاهد على تسلسل الأحداث, يتوق لطلوع الفجر, ليتابع المشهد من جديد.
دّقّة الوصف سمة رئيسة من سمات الرّواية بشخوصها وأحداثها, فجاءت بمفردات ذات دلالات وحملتها ورفعت شأنها ولم تشكّل عبئاً عليها, قالت الرّواية ” لمحت حورية أسعد في خيمة عزاء زوجها…”إلى أن قالت” وتحت ستار رموشها الطويلة المبتلّة كذبا, تأملت أسعد بشعره المتموج, وكتفيه العريضتين, وجسده المشدود, وابتسامته التي تشعّ شباباً وحياة, وقررت أنها ستحصل عليه تعويضاً عن نصيبها الذي جعلها تصوم دهراً وتفطر على حرمان.” وحين وصفت حوريّة زوجة أسعد قالت” ولم تكن حوريّة امرأةً عاديّة.. بل مخلوقاً معجوناً بالأنوثة إلى درجة جعلتها تستحق اسمها” “وحين قال الناس أنها هربت مع رجل فالأولى أن يقال أنها هربت من رجل”, وهذه لعمري جمل تستحق التأمل, وكانت الدقة في الوصف كذلك لمّا قالت” كل النساء يطرن فرحاً إن أهديتهن عقداً, في الوقت الذي يكن فيه فعلياً بأمس الحاجة لمكواة.”
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام, التطرق لأسباب التسمية عند العرب, فبالإضافة لما سقناه عن منال, سمّي أسعد تيمنا بأبيه ليُسعد العائلة, لأنه كان يشبه أباه, وأخوه سالم الذي ولد نحيلاً باهتاً, فقد سمّي سالم بهذا الاسم ليكون سالماً معافى. لكن الواقع يشير أن لا علاقة بين الاسم والمسمّى إلا بفعل الصّدف, فكم من بخيل اسمه كريم, وكم من بشعة تسمّى جميلة, إضافة لتسمية الابناء بأسماء أبويهم المتوفين كنوع من التعويض المعنوي.
بالإضافة لدور المرأة الذي ذكرنا, وعلاقة الاسم بالمسمّى, طرحت الرّواية قضايا عديدة, منها استشعار الطّيور للظّواهر الطّبيعيّة, وظاهرة الحدس والرّؤى والتخاطر, واعطت مثالاً تنبؤ الطّيور قبل الأرصاد الجويّة وهجرتها لأعشاشها قبل أيام من حدوث أعاصير مدمّرة.
وطرحت كذلك قضايا أخرى تمثلت بالثرثرة الاجتماعية, فوصفت الكاتبة المجتمع بالمنافق الذي يدّعي الفضيلة ويمارس العهر بالخفاء, فوَصْفُ خديجة على لسان بعض سكان الحي بالنحس, وقولهم بأنها قضت على ثلاثة أرواح في أقل من عامين, وقولهم أن امتناع سالم عن الزواج هو بسبب عجزه الجنسي, وأن منال نتيجة لعلاقتها مع محمود لم تعد بكراً, وأن اسعد كان يعاني من نوبات صرع أدّت احداها إلى سقوطه وموته, كل ذلك يصب في باب الثرثرة الاجتماعية, في تناص مباشر مع الآية القرآنية ” يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاّ أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله توّاب رحيم” الآية 12 من سورة الحجرات.
وأشارت الروايةُ لرغبة مجتمعاتنا الاسلاميّة في الزواج من اجل تكوين أسرة واتضح ذلك في حديثها عن منال ومحمود بقولها” وقد مالت له بدورها, لا لضعف بل لحكمة بدأت تسيطر على تفكيرها ونظرتها للحياة, إذ لمست لديه نزعة للاستقرار وتكوين أسرة” وأضافت, “جل ما أرادته, زوج تبادله الدلال وأطفال تحبهم” في تناص مع الآية احدى وعشرين من سورة الرّوم” ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة”.
ولا تخلو الرواية من تقديم الحكمة للمتلقي, فقد نقلت حورية عن والدتها رداً على تراجع أسعد عن حبها قولها” تزوجي من يحبك لا من تحبينه, الأول سيعطيك عمره لتسعدي, أما الآخر, فسيأخذ عمرك وسعادتك معاً”, وأردفت في مقام آخر ” أليس مجرماً من يغتال الفرح ويلملم بقايا النور من دنياه؟ هذه حكم دونتها الراوية لتستفيد منها الأجيال على مر العصور.
وتُحْبَكْ الرّواية بهروب حورية زوجة أسعد من بيتها الذي لم يعرف سببه سوى أنها ضاقت بهاتيك الحياة, وتركها لتوأمين لم يتجاوز عمر كل منهما العشرة شهور, حيث كان ذلك مجالاً خصباً للتأويل, ليعود القوم للثرثرة الاجتماعيّة والأقاويل, فهناك كما قالت الرّواية” من ادّعى أنه رآها تحوم حول البيت بعباءتها السّوداء, ومنهم من ادّعى أنّه لمحها في سيّارة لأحد الأغنياء سيئي السّمعة, ومنهم من قال أن أقاربه شاهدوها ترقص في أحد فنادق العاصمة, فهذه قضيّة مجتمعيّة أخرى طرحتها الرواية بسرد مشوق وتركتها لتقدير المتلقي, حيث رفض زوجها تقديم بلاغ لمديريّة الأمن, وقال: ” بكفينا فضايح.” وقد حملت هذه الجمل مفردات تشكيكية غير جازمة أو حازمة, قابلة للرفض والقبول مثل ادّعى والادعاء يحتاج إلى برهان, ولمحها, واللّمح يكون سريعاً ولا يقيم في دائرة اليقين, وجملة أقاربه شاهدوها تفيد أن المتحدث ليس جزءاً من الحدث.
وتتعرض الدكتورة سوزان خلقي في روايتها لمشهد مثير للصحة النفسية والاضطرابات العصبية, وما ينتج عنها من سلوك مضطرب قد لا تحمد عقباه, وهو موت أسعد الذي وتّر الموقف لسبب بسيط, دفع حياته ثمناً له, وهو سكب ابنه حسين شيئاَ من الطعام على حجر اخته خديجة, فلما حاول عقابه, تدخل أخوه سالم وحاول منعه, وزجره بكلمات تنم عن تخلّيه عن مسؤولياته, فنشبت بينهما معركة, أدت إلى وفاته نتيجة تلقيه ضربة على يافوخه, لتقدم لنا الرواية في هذا المشهد أيضاّ معلومة علمية دقيقة عن موقع اليافوخ في الجمجمة, وابرازها في ذات المشهد لحكمة منال ورجاء جارهم محمود للطبيب في تخليص سالم من المساءلة القانونيّة, وكان تعقيب الكاتبة الملفت على نهاية المشهد يقول” لعل البشريّة عانت على مدى التاريخ كل هذه القسوة والمآسي, لأن بدايتها كانت قتل أخ لأخية في إشارة لقابيل وهابيل.
وتبرز الحكمة في الرّواية حين الحديث عن قرار منال انهاء علاقتها بجارهم محمود, لأن لا وقت لديها للفرح, فكان القرار في التاسع والعشرين من شباط حتى لا تتكرر ذكرى لحظات الحزن إلا مرة كل أربع سنوات, حيث قدمت الكاتبة في الرّواية معلومة علميّة عن طريقة احتساب هذه الحقيقة.
ولم تخلو الرّواية من مشاهد عن شقاوة أولاد الحي, فقد أتلفوا شجرة السفرجل التي أحبتها منال, فقد كانت تصنع منها المربي, وقطفوا ثمارها وألقوا بعضاً منها على الأرض للتمويه وكانه فعل طير, وكانوا يلقبون منال بالوحش كما ذكرنا, وأطلقوا على أخيها سالم “أبو بربور” وكانوا يشترون حلوى “راس العبد “من الدكان ويلحسون الكريما والشكولاتة ويعيدونها بدعوى أنها مغشوشة, فيتقبلها سالم المسكين, ويلقي بها بسلة النفايات ويعطيهم غيرها, ومن الجدير ذكره أنها أشارت أن هذه التسمية ” راس العبد” باتت تسميّة تنم عن العنصريّة.
وفي الفصول الثلاث الأخيرة, تبدأ العقد بالتفكك, فمنال تموت بالسرطان بحضور حبيبها محمود , الذي تزوج من امرأة – أي امرأة بعد منال لا فرق, فالزواج ضرورة ولا وقت للحب, وسالم مات قهراً. وخالد الطفل الشقي الذي أتعبت شقاوته منال والتي كانت تعرف ما فعله بشجرة السفرجل لكنها احترمت لطف والديه, خالد هذا, عاد طالباً واستأجر في بيت ذات العائلة وعشق خديجة وتزوجا, وانتقلا للسكن بعيدا ليعيشا بفرح مفتعل, وحسين الحفيد تاه في الدنيا يبحث عن الفرح.
وغادر حسين وخديجة وخالد منزلاً كان, منزلاً انطفأت أنواره , بعد أن زرعوا سفرجلة جديدة, وأوصوا الجيران بتفقده وسقاية أشجاره, ليبقى ينبض بشيءٍ من الحياة.
فنيًــــــــاً
– يمكن احتساب الرواية على التراجيديا وأن تخللتها في كثير من الحالات مشاهد الفرح, إلا أنها بدت شاحبة الوجه, نغّص الألم تفاصيلها فلم تكتمل.
– تسلسلت الرواية تسلسلاً زمنياً موفقاً, وكانت الأحداث متتابعة, وكان المغزى من السرد جليّاً, واشتملت الرّواية على العناصر الرئيسة, فأتت بزمان ومكان واضحين.
– شخوص الرواية لا تداخل في صفاتهم, فلكل سماته وشخصيته المستقلة, كما احتوت الرّواية على علامات الترقيم والعناوين وصفحات مرقمة, ورقم أيداع, ومقدمة وخاتمة, وكانت كما يجب.
– مفردات الرّواية سهلة ولغتها واضحة ومفهومة تناسب جميع المستويات.
– علت بعض الفصول ومضات تلخص الفصل, وبعضها خلا منها, وإن كنت على سبيل التوحيد أميل إلى التجانس ومعاملة ما خلا منها بالمثل.
….
إربد. الأردن