لصحيفة آفاق حرة..
الدهشة والتّناص في ومضات القاص حسن البطران
بقلم. د. سلطان الخضور. الأردن
أجاد الأديب السعودي حسن علي البطران استخدام فن الدهشة وفن التناص في مجموعته القصصيّة التي صدرت طبعتها الأولى عن ” دار ديوان العرب للنشر والتوزيع” في بورسعيد – مصر, والتي جنّسها كقصص قصيرة جدًّا تحت عنوان( ماريّة وربع من الدّائرة),
أجاد الكاتب الدّهشة لأنه يدرك ككاتب قصّة أن القصّة القصيرة جدًّا تعتمد اعتمادًا كلّيًّا على الدهشة لغياب التفاصيل الدّقيقة التي تكون مملّة في أحايين كثيرة في القصّة العاديّة المألوفة, فتبقى الدّهشة التي يعرضها القاص في قصّته هي التي تقود المعنى, وهي التي تعطي المتلقي مساحة أوسع للتّفكر والتأمّل لأنها تستفزّ مواطن التفكير وتستخرج بواطنه الكامنة لديه, في الوقت الذي تريح فيه الكاتب من عناصر كثيرة كانت تعتبر من أساسيّات كتابة القصة مثل الزمان والمكان وتعدد الشخوص والحبكات وغير ذلك,
وقد جاءت الومضة بما تحتويه من دهشة استجابة لمتطلبات عصر السّرعة الذي نعيش, ومحاولة للتماهي مع روح العصر وذوق المتلقي الذي ما عاد لديه وقتًا طويلًا يصرفه على قراءة التفاصيل. وقد جاء في جريدة عُمان في عددها الصّادر يوم الثلاثاء 22/2/2022 أن البعض يرى أن هناك استسهالًا في كتابة هذا الفن السّردي مع أنه فن صعب يرتكز على التكثيف والإيجاز, وأن فيه قدرة فلسفيّة ضمنيّة في اختزال فهمنا للحياة, وقدرة إبداعيّة على انتقاء الفكر والحدث بأقل عدد ممكن من الكلمات، بل قدرة إبداعية في تمرير الفكرة, وقدرة على انتقاء الفكر والحدث بما يحوي من إشارات زمانيّة ومكانيّة مركّزة, تعبّر عنها شخصيّات قد لا تحضر في النص, وتبقى القصّة القصيرة جدًا مفتوحة على التأويل, فهي كاللوحة الفنّيّة قد تقرأ على أكثر من وجه, فالكاتب فيها يترك لفهم المتلقي أن يفسّر بالطّريقة التي يريد.
وقد استجاب الكاتب حسن البطران في المجموعة المذكورة لهذه التحولات, ولم يكتف بالدهشة بل ركز على التناص وقابليّة التأويل, وكانت كلها حاضرة فيما كتب من قصص, والتي سنتعرّض لتمثلاتها لاحقًا, وقد جاء في إهداء المجموعة:
(النبض لا يدوم بعد عروج الرّوح إلى السّماء’ لكنه يستمر لأشخاص هم جزء منه, “وتبقى ماريا وربع من الدائرة” نبضًا باقيًا لمن يثيره ويمده طاقةّ كأنت يا إثارة). ففي هذا الإهداء يدرك القاص أن الحياة مرتبطة بوجود الرّوح, فخروج الرّوح سببًا في انتهاء الحياة, وليس انتهاء الحياة سببًا في خروج الروح, ويرى القاص أن إصداره هذا” ماريا وربع من الدائرة” سيبقى حيًا ما وجد من يهتم به, فالإنسان يموت وتبقى ذكراه على قيد الحياة, وعمله يذكر على مدار الأجيال, فالكاتب في تناص مباشر يتعالق مع الحديث النبوي الشريف” إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له” فهو يرى أن إصداره من العمل الصالح, والصّدقة الجارية, سيبقى بعد توقف نبضه ما بقي هناك أناس يقرأون ويدعون له.
وفي إحدى قصص المجموعة يقول البطران
” تتبّع أثرها وطاف بجوارها حول البيت, صلّى ركعتين من غير وضوء, سعى سبعة أشواط بين الصّفا والمروة, قصّر, واختفت عنه.. غادر مكة ولم يطف طواف الوداع أو أي طواف آخر.. لم تكن تعنيه, لكنّه أراد أن يغسل أثوابه بماء زمزم ويقصر من طولها”
هذه القصة تتحدث عن النوايا والنفاق الذي يمارسه البعض, هؤلاء الذي يظهرون عكس ما يبطنون, فمكة المباركة, وحرمها المقدس هي مكان للتعبّد وتوثيق الصّلة بالله, ويفترض في كل من يدخل حرمها أو يطّوّف حول الصفا والمروة أن يكون قد دخله للعبادة ليس إلا, ولا يبتغي إلا الأجر ورضا الله, أما أن يرتبط التواجد بالحرم بسبب دنيوي عرضي زائل فهذا مما يغضب الله, والله يحاسبنا على نوايانا, وفي ذلك تناص مع الحديث النبوي الشّريف,” إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى” وفيه كذلك تناص مع نص الحديث النبوي الشريف” إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم, ولكن ينظر إلى قلوبكم” وعند الحساب يكون المعيار هو النيّة الخالصة المتواجدة في القلب, فالطول والقصر وجمال المنظر على أهميته, والثوب القصير الذي يقصّر بهدف إعطاء صورة للشخص غير التي يبطن في دواخله لا تعني عند الله شيئًا, فلتكن نوايانا خالصة لله, ولتكن أفعالنا متفقة مع أقوالنا ومظاهرنا متّفقة مع بواطننا.
وفي نص آخر يتحدّث البطران عن الكبت الاجتماعي, فما أكثر من يكبتون مشاعرهم في دواخلهم ما لا يستطيعون التصريح بها بسبب العادات والتقاليد مع أنها ليست محرّمة, فالحب هو شعور فطري يكاد لا يخلو منه شخص, وقد نمعن في ذلك ونقول أن كل سلوكاتنا هي بدافع الحب, فنحن نصلي لأننا نحب الله ونحترم والدينا لأننا نحبهم, أما الحب المكبوت والذي أشارت له القصّة فهو حب الرجل للمرأة أو العكس, فالتعبير عنه غير جائز في مجتمعنا مهما بلغ من العمق, فالقصّة تشير إلى أنها تحبّه دون أن يبيّن للقارئ كيف عرف ذلك, ربما من نظراتها وربما من ابتساماتها وربما من اهتمامها به, لا ندري, لكنّا عرفنا أنها تحبه, والدهشة التي استدعت أن يفغر فاه مستغربًا, كانت عندما صرّح لها بحبه فتطلب الأمر أن تغادر إلى مكان قصي, وربما إلى الأبد, وأن تبقي على مشاعرها تموت رويدًا رويدًا, على أن تبوح بها أو تسمع من يبوح لها بمشاعره تجاهها تقول القصّة التي احتوت إشارات التعجب” أحبتني.. حين صرحت لها بحبي أدارت بظهرها لي ومشت..!! غادرت المكان إلى مكان بعيد.. وقفت مشدوهًا..ً!!”
وتحت عنوان جديد تأتي القصّة التالية” تحسس نبضه وجده مختلفًا عن المرات السابقة, سأل طبيبه.. أجابه الطّبيب: هل غرست وردًا جديدًا..؟!
هذه القصّة على قلّة مفرداتها, تحمل تبدلًا في الحال كشفت عنه نبضات القلب, ولا تتسارع نبضات القلب من قليل, فالخوف والحب والجرعات الزائدة من الدهشة والخبر المفاجئ والمناظر المرعبة وربما الأحلام, كلها عوامل قد يسهم أي منها أو كلها مجتمعة في التغيّر في نبضات القلب, والتّغير في النبض مؤشر على المعاناة ودليل مرض, لكن ما يطمئننا في هذه القصّة جواب الطبيب الذي كان على شاكلة سؤال” هل غرست وردة جديدة” وهذا أمر إيجابي, فالزّراعة بحد ذاتها أمر محبب, فكيف إذا كان الغرس وردة؟ هذا أمر مريح, رغم أن سؤال الطبيب مجازي, فكأنّي به يسأل المريض, هل وقعت في الحب من جديد؟ والحب كما أسلفنا يسبب المعاناة, والمعاناة تقود إلى استمرار التفكير, واستمرار التفكير يزيد من نبضات القلب.
أمّا في قصّته التالية التي نصّها” لعب الكرة منذ الصّغر, تفنّن في تسجيل الأهداف, لم تسجّل عليه حالة تسلّل طوال فترة لعبه في الهجوم.. حينما اعتزل اللّعب وجد أنّ كل أهدافه التي سجلها في مرمى الخصم متسللة إلا هدفين, اكتشف أن ماء الشّاي الذي يرتشفه معهم لم يغل كاملًا ..!!”
في القصّة أعلاه يجيد الكاتب التعبير عن عنجهيّة البعض ومجاملاتهم دون أخذ اعتبار للعدالة والانصاف, فهذا الكلام الموجه لبعض حكام الكرة الّذين يتجاوزون في بعض الأحيان عن أخطاء من يريدون ومن يجاملون, فلا يحتسبون عليهم أخطاءهم حتى وإن أدركوها, لأن هذا الهدّاف يتناول معهم الشّاي, فيوغل في أخطائه ويوغلون في التغاضي عنها, ليكتشف بعد صحوة ومراجعة للأهداف, أن أهدافه في معظمها لم تكن صحيحة, وهنا لا بد يكون ضميره قد آلمه حينما أدرك حجم الوهم الذي كان يعيش.
هذه القفلة التي تثير الدهشة من الواقع في نهاية القصّة, قد تنسحب على العديد من مجالات الحياة, وعلى العديد من قصص المجموعة, فالوهم قد يستمر لفترة معينة, لكن لا بد من أن يأتي اليوم الذي ينزاح فيه ليجلس في مكانه الواقع.
من خلال تتبّعنا لبعض من مجموعة البطران نجده قد أجاد صناعة الدهشة ووظف التّناص المعرفي بشكل لافت لخدمة نصوصه القصيرة التي وردت في المجموعة المذكورة.