الرواية اليمنيّة بين الصدمة والصمود والميثاق التذاكري بعد التسعينات

د. عبد الرحمن السريحي
جامعة ستراسبورغ

المقدّمة

منذ مطلع التسعينات، دخل اليمن في دوّامة من التحوّلات العاصفة التي غيّرت مساره السياسي والاجتماعي على نحوٍ عميق. الوحدة عام 1990 لم تكن مجرّد إعلان سياسي بين شمالٍ وجنوب، بل لحظة حملت معها أحلامًا كبرى بالاندماج الوطني وبناء مستقبل مشترك. غير أنّ هذه الأحلام ما لبثت أن ارتطمت بجدار الواقع، إذ انفجرت بعد أربع سنوات فقط حرب أهليّة عام 1994 أعادت إلى السطح الانقسامات القديمة، وفتحت الباب أمام أزمات ثقة متواصلة. ولم تمض سوى سنوات قليلة حتى عادت البلاد لتعيش صدمة جديدة مع ثورة الشباب في فبراير 2011، التي انطلقت بمزيج من الأمل في التغيير والإصرار على استعادة الكرامة، لكنها انزلقت سريعًا إلى صراعات حزبية وفئوية حوّلت الحلم إلى خيبة. وفي العام 2015، دخل اليمن مرحلة الحرب الشاملة التي دمّرت البنية التحتية وأغرقت المجتمع في أكبر أزمة إنسانية معاصرة. هذه المنعطفات ليست مجرد محطات في كتاب التاريخ، بل هي جروح مفتوحة ما تزال تترك أثرها في وجدان الأفراد وفي الذاكرة الجماعية للأمة.

أمام هذا المشهد الممزّق، برز الأدب، وبالأخص الرواية، كأداة فريدة لتفكيك الألم وتسجيل أثر الصدمات، لكن أيضًا كفضاء لابتكار استراتيجيات متعدّدة للصمود. فالرواية اليمنية لم تعد محصورة في إطار السرد الجمالي أو التوثيق الفني فحسب، بل تحوّلت إلى مساحة حوار أخلاقي بين الكاتب والقارئ، حيث يصبح النص نفسه عقدًا أدبيًا يتجاوز حدود التخييل ليؤسس لنمط جديد من الالتزام: الميثاق التذاكري (pacte mémoriel).

هذا المفهوم، الذي يُعدّ امتدادًا لما عرّفه فيليب لوجون بالميثاق السيرذاتي، يقوم على انتقال الرواية من مجرّد سيرة فردية إلى شهادة جماعية. فإذا كان لوجون قد حدّد الميثاق السيرذاتي بكونه التزام الكاتب أن يطابق بين اسمه وبين صوت الراوي والشخصية، ليقدّم للقارئ وعدًا بالصدق في الحديث عن نفسه، فإنّ الرواية اليمنيّة الحديثة تتجاوز هذه الدائرة الضيّقة لتعلن: «لسنا نحكي فقط عن أنفسنا، بل نحمل ذاكرتكم جميعًا ونواجه معكم خطر المحو».

هنا تتجلّى ثلاث وظائف أساسية للرواية اليمنية بعد التسعينات:

تشخيص الصدمة: من خلال رصد الانهيارات النفسية والاجتماعية التي ولّدتها الحروب والتحوّلات السياسية المتلاحقة، وتجسيدها في مصائر شخصيات وأحداث.

تمثيل الصمود: عبر إبراز أشكال المقاومة اليومية، سواء كانت فردية كالهجرة والتعليم، أو جماعية كتلاحم القرى والأحياء، أو رمزية كالكتابة نفسها والغناء واستدعاء التراث.

تفعيل الميثاق التذاكري: إذ تتحوّل الرواية إلى محراب للذاكرة، يقاوم النسيان الرسمي أو التهميش الأيديولوجي، ويعيد للضحايا صوتهم، وللجماعة وعيها بتاريخها وحقها في السرد.

إنّ هذه المقدّمة تضعنا أمام سؤال محوري يوجّه المقال: كيف نجحت الرواية اليمنيّة، منذ مطلع التسعينات وحتى اليوم، في أن تكون في آن واحد أرشيفًا للجرح، ومختبرًا للمرونة، وعقدًا تذاكريًا يُلزم القارئ بالمشاركة في حمل الذاكرة وحمايتها من التلاشي؟

أوّلًا: ما بعد الوحدة (1990–2010)

إرهاصات الصدمة وبدايات الميثاق التذاكري

تُعدّ مرحلة ما بعد الوحدة (1990–2010) من أهمّ الفترات التأسيسية التي بلورت ملامح الرواية اليمنية الحديثة. فالوحدة، التي أُعلنت كذروة حلم قومي، سرعان ما كشفت عن هشاشتها مع اندلاع الحرب الأهلية عام 1994، وهو حدث ترك أثرًا بالغًا في الذاكرة الجمعية. هذه الحرب لم تكن مجرّد نزاع سياسي بين سلطتين، بل صدمة وجودية زعزعت ثقة الناس في فكرة الدولة الوطنية ذاتها. هنا بدأت الرواية اليمنية تتحرّك في اتجاه جديد: لم تعد مجرّد امتداد للقصيدة أو للحكاية الشعبية، بل صارت فضاءً لإعادة كتابة التاريخ القريب بوصفه ذاكرة جريحة.

في هذه المرحلة ظهرت نصوص حملت بوضوح ملامح الميثاق التذاكّري، حيث يتحوّل السرد من تسجيل ذاتي إلى عهدٍ أخلاقي مع القارئ لحفظ الذاكرة. في رواية زهرة البن (1998) لعلي محمد زيد، مثلًا، تبدو حكاية البن اليمني — هذا الرمز الاقتصادي والثقافي العريق — استعارة كبرى لبلدٍ يعيش صدمة التلاشي. البن ليس هنا سلعة زراعية فحسب، بل ذاكرة وطنية مهدّدة بالانقراض. الرواية بذلك لا تكتفي بتشخيص الجرح الناتج عن الحرب والتحوّلات، بل تستنهض القارئ لحمل هذه الذاكرة معه، وكأنها تقول: «احفظوا هذه الجذور قبل أن تُمحى». هذا هو جوهر الميثاق التذكّري: السرد يتحوّل إلى أداة لإنقاذ ما يتعرّض للنسيان.

من جهة أخرى، قدّم عبد الرب السروري في رواية الملكة المغدورة (1999) نموذجًا آخر على هذا التحوّل. الرواية تسرد تجربة جيل بكامله عاش على وقع الأيديولوجيات اليسارية، ثم وجد نفسه أمام خيبة الحرب والانكسار السياسي. غير أنّ النص لا يقف عند حدود السيرة الفردية، بل يوسّع أفقه ليجعل من التجربة الفردية مرآةً لجماعة بأكملها. هنا يظهر الميثاق التذاكري في أوضح صوره: الكاتب لا يروي ذاته فحسب، بل يوقّع مع قارئه عهدًا على حفظ ذاكرة جيلٍ كامل، ذاكرة مهدّدة بالإقصاء من السرديات الرسمية.

كذلك قدّمت رواية الرهينة لزيد مطيع دماج (رغم صدورها قبل التسعينات) نموذجًا تمّ استدعاؤه بقوّة في القراءات اللاحقة خلال هذه المرحلة. فشخصية الفتى “الرهينة” لم تعد تُقرأ فقط كحكاية فردية في قصر الإمام، بل كرمز لرهينة جماعية لوطنٍ كامل مُحتجز بين تقاليد الماضي وصدمات الحاضر. إعادة قراءة هذا النص في سياق ما بعد 1990 أظهرت كيف أنّ الرواية اليمنية بدأت تتحوّل إلى فضاء لتفكيك البنى السلطوية واستدعاء ذاكرة الألم الجمعي.

إنّ السمة المميّزة لهذه المرحلة هي أنّ الرواية لم تعد تنحصر في تسجيل “الصدمة”، بل بدأت تنسج خيوط “الميثاق” مع القارئ. فالنصوص تُذكّر، تُنذر، وتطالب: لا تدعوا ذاكرتنا تذوب. إنّها تحوّل الكتابة إلى مقاومة رمزية ضد النسيان، وتمنح القارئ دورًا يتجاوز التلقّي السلبي ليصبح شاهدًا متضامنًا.

وبذلك، يمكن القول إنّ مرحلة 1990–2010 قد أرست الأسس الأولى

للوعي الروائي بالصدمة اليمنية، ووضعت في الوقت نفسه اللبنات الأولى لما سيُعرف لاحقًا بـ الميثاق التذاكري: ذلك العقد الأخلاقي والجمالي الذي يجعل من الرواية اليمنية ليس فقط نصًّا أدبيًا، بل أيضًا أرشيفًا حيًّا للذاكرة الجماعية، ووسيطًا لمقاومة المحو والتهميش.

ثانيًا: ثورة 2011

الصدمة المفتوحة وصعود الذاكرة الاحتجاجيّة

شكّلت ثورة الشباب في فبراير 2011 لحظةً مفصليّة في التاريخ اليمني المعاصر، إذ انفجرت بعد عقود من القمع السياسي والفساد وتآكل الثقة بين الدولة والمجتمع. في بداياتها، حملت الثورة ملامح الفرح الجماعي: ساحات ممتلئة بالشباب، أناشيد تُنشد الحرية، وحلم بالعدالة الاجتماعية يلوح في الأفق. غير أنّ هذا الحلم سرعان ما انكسر أمام تعقيدات المشهد السياسي، فتداخلت الانقسامات الحزبية مع التدخلات الإقليمية، وتحوّلت الساحات إلى مسرح لصراعات متشابكة. هذه التحوّلات لم تُنتج صدمة واحدة، بل سلسلة من الصدمات المفتوحة التي ما زالت آثارها ممتدّة حتى اليوم.

في هذا السياق، قدّمت الرواية اليمنية نصوصًا مهمّة لتوثيق هذه اللحظة، ليس فقط من خلال تصويرها كحدث سياسي، بل عبر تحويلها إلى ذاكرة احتجاجية تحفظ أثر الثورة وتُقاوم محاولات محوها. هنا يبرز دور الميثاق التذاكري بوضوح: فالنصوص الروائية لم تَعُد تحكي قصص شخصيات منعزلة، بل صارت تنطق باسم جموعٍ خرجت إلى الشارع بحثًا عن مستقبل أفضل.

في رواية سوق علي محسن (2016) لنادية الكوكباني، نجد مثالًا حيًّا على ذلك. السرد يقدّم قصة طفلين يعيشان على هامش المجتمع، لكن حياتهما تتقاطع مع الأحداث الكبرى للثورة. من خلال عيون هذين الطفلين، تُسلّط الرواية الضوء على طبقة اجتماعية مهمّشة كانت دائمًا خارج خطاب السلطة والمعارضة معًا. الذاكرة التي تصوغها الكوكباني هنا ليست ذاكرة فردية، بل ذاكرة جماعية للهامش اليمني، ذاكرة تُطالب القارئ بألّا ينسى أنّ للثورة وجوهًا أخرى غير الزعامات السياسية والشعارات الكبرى. وبهذا تفعّل الرواية الميثاق التذكّري، إذ تضع القارئ أمام مسؤولية الاعتراف بالهامش كجزء من التاريخ الوطني.

أما رواية ثورة مهيوب (2017) للمياء الإرياني، فهي مثال آخر على تحويل التجربة الفردية إلى شهادة جماعية. شخصية مهيوب، الشاب البسيط الذي ينخرط في الثورة بحماس، تجسّد آمال جيلٍ بأكمله، قبل أن تصطدم بخيبة الانقسامات السياسية. هنا تعمل الرواية كأرشيف مفتوح لخيبات الشباب، وتوقّع مع القارئ عقدًا ضمنيًا للحفاظ على هذه التجربة من الطمس. فالميثاق التذكّري يتجلّى في شكل سؤال: كيف نحفظ أثر ثورة لم تكتمل، وكيف نمنع اختزالها إلى مجرد “حدث فاشل” في كتب التاريخ؟

إنّ ما يميّز روايات الثورة اليمنية هو أنّها لا تكتفي بتصوير الصدمة، بل تحوّلها إلى ذاكرة احتجاجية. أي أنّها تكتب من أجل ألّا تضيع لحظة الحلم الجماعي، مهما كانت نهاياتها محبطة. إنها تُذكّر القارئ بأنّ الثورة لم تكن فقط مواجهة سياسية، بل كانت أيضًا حدثًا وجدانيًا، عاشه الأفراد بأجسادهم وأصواتهم ودموعهم. ومن هنا يأتي البعد التذكّري: فالنصوص لا تحكي لتُسلي، بل تحكي لتُخلّد.

يمكن القول إنّ الرواية اليمنية في مرحلة 2011 أضافت بُعدًا جديدًا إلى مشروعها: لقد تحوّلت من أرشيف للجرح إلى أرشيف للاحتجاج، ومن نصّ للصدمة إلى نصّ للذاكرة المشتركة. وبذلك أسّست لوعي سردي جديد يرى في الكتابة وسيلة لمقاومة النسيان، ويُحوّل القارئ من متلقٍ سلبي إلى شاهد متضامن، يشارك في حمل عبء الذاكرة الوطنية.

ثالثًا: ما بعد 2015

الصدمة الكبرى وتكثيف الميثاق التذاكّري

يمثّل عام 2015 نقطة الانفجار الكاملة في التاريخ اليمني الحديث. فبعد سنوات من التوتّرات السياسية والانقسامات الحزبية، دخلت البلاد مرحلة الحرب الشاملة التي شاركت فيها أطراف محلّية متناحرة وقوى إقليمية متدخّلة. انهارت مؤسسات الدولة، تقطّعت أوصال المجتمع، وتحوّلت المدن إلى خرائط للدمار والنزوح والجوع. لقد شكّلت هذه المرحلة الصدمة الكبرى التي تجاوزت قدرة الأفراد على الاستيعاب، ووضعت الذاكرة الوطنية نفسها أمام خطر الإبادة الرمزية. هنا بالذات تبلورت الرواية اليمنية كفضاء مضاعف الوظيفة: لم تعد مجرّد تشخيص للجرح أو تسجيل للصدمة، بل صارت تؤدّي دورًا أساسيًا في تكثيف الميثاق التذكّري، أي في تحويل الكتابة إلى عهدٍ أخلاقي لمقاومة النسيان، وتثبيت أثر الألم في مواجهة محاولات المحو.

من بين النصوص اللافتة في هذه المرحلة تبرز رواية بئر زينب (2015) لندى شعلان، حيث تُقدَّم شخصيات نسائية تسعى إلى مقاومة العزلة والخراب عبر الكتابة والتوثيق. الرواية لا تعرض فقط صدمة الحرب التي اجتاحت الحياة اليومية، بل تضع القارئ أمام ذاكرة نسائية مضادة، تُصرّ على تسجيل التجربة حتى لو اقتصر الأمر على تدوينات عابرة أو أصوات هامسة في فضاء التواصل الاجتماعي. في هذا السياق، الكتابة نفسها تصبح فعل صمود، وممارسة تذكّرية ترفض أن تسمح للمحو أن ينتصر. إنّ الميثاق هنا ليس بين الكاتبة وشخصياتها فقط، بل بينها وبين القارئ الذي يُدعى إلى أن يكون شاهدًا ومتضامنًا في حمل هذه الذاكرة المهدّدة.

أما رواية بلاد القائد (2019) لعلي المقري، فهي تكشف وجهًا آخر من وجوه الميثاق التذكّري. بطل الرواية، وهو كاتب مكلّف بتمجيد صورة الحاكم، يجد نفسه عالقًا بين خطاب السلطة وضميره الشخصي. ومع تطوّر الأحداث، يتحوّل من أداة في يد النظام إلى شاهد على زيفه. هذه النقلة تُمثّل بحد ذاتها فعلًا تذكّريًا: فالرواية لا تُسجّل فقط كيف يُصنع الوعي الزائف، بل تصرّ على فضحه، لتجعل من القارئ شريكًا في رفض خطاب المحو. الميثاق هنا يتّخذ بُعدًا سياسيًا صارخًا: الكتابة تُنقذ الذاكرة من التواطؤ مع الاستبداد.

وتتجلّى الصدمة الكبرى أيضًا في تحوّل المدينة نفسها إلى أرشيف حيّ للقتل والنزوح، كما في أعمال الغربي عمران برّ الدناكل (2021)، حيث تصبح صنعاء مسرحًا للجنائز المتكررة والشعارات التي تخنق الجدران. في هذه النصوص، تتحوّل المدينة إلى “ذاكرة متحجّرة”، لا يُمكن للكاتب أن يتجاهلها، ولا يستطيع القارئ أن يقرأها بلا أن يُصبح شاهدًا عليها.

يمكن القول إنّ مرحلة ما بعد 2015 مثّلت لحظة النضج الأقصى للميثاق التذاكّري في الرواية اليمنية. فالنصوص لم تَعُد تكتفي باستعادة الماضي أو تفكيك الصدمة، بل وضعت نفسها في مواجهة مباشرة مع خطر المحو، لتتحوّل إلى أرشيف مضاد يكتب ما تُريد الأيديولوجيا طمسه، ويُسجّل ما تحاول السلطة نسيانه أو إنكاره. بهذا، لم تَعُد الرواية اليمنية نصًّا أدبيًا فحسب، بل صارت جزءًا من معركة الذاكرة، تُلزم القارئ بدور شاهد متضامن، وتحوّل الكتابة ذاتها إلى مقاومة رمزية في وجه العدم.

الخاتمة

تكشف دراسة الرواية اليمنية منذ مطلع التسعينات حتى اليوم عن مسار معقّد يتأرجح بين الصدمة والصمود، ولكنه يتجاوزهما معًا نحو أفق ثالث هو الميثاق التذكّري. فالرواية لم تَعُد مجرّد مرآة للواقع أو أداة للتعبير عن الألم الفردي، بل غدت وسيلة لإبرام عقد غير مكتوب بين الكاتب والقارئ، قوامه الحفاظ على ذاكرةٍ وطنية مهدَّدة بالتآكل والنسيان.

في المرحلة الأولى (1990–2010)، برزت إرهاصات هذا المسار مع روايات مثل زهرة البن لعلي محمد زيد والملكة المغدورة لعبد الرب السروري. هنا بدأت الرواية في تحويل الذاكرة الفردية إلى شهادة جماعية، مؤكِّدة أنّ الحرب والانكسار السياسي لا يمكن عزلهما عن التجربة الجمعية للأمة. لقد كان السرد بمثابة جرس إنذار يذكّر القارئ بأنّ ثمن النسيان هو إعادة إنتاج المأساة.

ومع ثورة 2011، تعمّق هذا الدور، إذ لم تقتصر الرواية على تسجيل الأمل أو خيبة جيلٍ كامل، بل صنعت ذاكرة احتجاجية تعطي صوتًا للهامش الاجتماعي، كما في سوق علي محسن لنادية الكوكباني، أو تُخلِّد خيبة الشباب كما في ثورة مهيوب للمياء الإرياني. النصوص هنا لم تكتفِ بتشخيص صدمة الثورة المنكسرة، بل طالبت القارئ بتحمّل مسؤوليته كشاهد على تجربة لم تكتمل، وكمشارك في مهمة حفظ أثرها من المحو.

ثم جاءت مرحلة ما بعد 2015 لتبلغ الصدمة ذروتها. الحرب الشاملة دمّرت العمران والنسيج الاجتماعي، وأدخلت اليمن في حالة انهيار غير مسبوقة. في مواجهة هذه الكارثة، تكثّف حضور الميثاق التذكّري في الرواية. ففي بئر زينب لندى شعلان، تتحوّل الكتابة النسائية إلى فعل صمود وتذكير مضاد للنسيان. وفي بلاد القائد لعلي المقري، تتحوّل الحكاية من أداة بيد السلطة إلى وثيقة فضح، لتُذكّر القارئ بأنّ الأدب لا يُمكن أن يكون محايدًا في معركة الذاكرة. هنا لم تَعُد الرواية تُسجّل فحسب، بل صارت تُقاوم بوعي كامل، جاعلة من السرد نفسه سلاحًا ضد الطمس الأيديولوجي.

إنّ ما يميّز التجربة الروائية اليمنية في مجملها هو هذا الانتقال من تمثيل الصدمة إلى إبراز الصمود، وصولًا إلى صياغة ميثاق تذكّري يُحوّل النص إلى محراب للذاكرة. بهذا المعنى، تخرج الرواية من نطاق الفن إلى مجال الالتزام الأخلاقي، حيث يصبح القارئ شريكًا في حماية الذاكرة الوطنية، لا مجرّد متلقٍ سلبي.

وبناءً على ما تقدّم، يمكن القول إنّ الرواية اليمنية في العقود الثلاثة الأخيرة قامت بثلاث وظائف متكاملة: أرّخت للجرح، وثّقت استراتيجيات البقاء، وأبرمت مع قارئها ميثاقًا لحماية الذاكرة. إنها رواية تُصرّ على أن تُكتَب الذاكرة لا لتُزيّن الماضي، بل لتُضيء الطريق أمام المستقبل. وبذلك، فإنّ أهمّ ما تقدّمه الرواية اليمنية اليوم ليس فقط شهادتها على الحرب والانقسام، بل قدرتها على تحويل الجرح إلى عهد، والألم إلى مقاومة رمزية، والكتابة إلى شكل من أشكال الحياة ضدّ العدم.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!