السخرية في شعر عبدالله البرّدوني -بقلم محمد فتحي المقداد

خاص -خاص صحيفة آفاق حرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يعتبر الشاعر اليمني عبد البرّدوني من الشعراء المجددين في العصر الحديث,
ولد الشاعر في قرية ( برّدون) في العام 1929-1348هجري, في إقليم ذمار, وقد أصيب بمرض الجدري في صغره , وقد عاني منه على مدى سنتين , وعلى إثر ذلك فقد بصره وهو في نحو الخامسة أو السادسة من عمره, والبرّدوني هو عبدالله صالح درس في مدارس ذمار لمدة عشر سنوات ثم انتقل إلى صنعاء حيث أكمل دراسته في دار العلوم وتخرج فيها عام 1953م. . ثم عُين أستاذا للآداب العربية في المدرسة ذاتها. وعمل أيضا مسؤولاً عن البرامج في الإذاعة اليمنية

وقد امتزجت فيه روح القرية بأصالتها وبساطة العيش , مع روح المدينة العامرة بشتى أصناف الحياة التي تختلف جذرياً عن قريته التي أتي منها , وكون المرء ذمارياٌ وصنعانياً , فبكل تأكيد سيكون يمانياً بامتياز, كما حصل للبرّدوني, التي تفجرت موهبته مبكراً, لافتاً الأنظار إليه, بخفة الروح الساخرة, والبساطة التي تتدثر بحسن الصنعة الشعرية.
” وقد سئل سوماً وهو خارج الوطن , كيف حال اليمن؟
فأجاب انظروا في وجهي تروها”.
وفي مثل هذا المعنى قال :
– “حبيبٌ ” هذا صداك اليوم أنشده
لكن, لماذا ترى وجهي وتكتئب؟.
إني ولدتُ عجوزاً ,,كيف تنتحب؟.
وقد كان العمى الحافز القوي لتفجير موهبة البرّدوني, ونبوغه اللافت للنظر, و هو الطفل القادم من القرية البعيدة المنزوية, وفي هذه الرحلة يلمس المرء الشبه بينه وبين ( طه حسين) برحلته من القرية إلى المدينة , التي رواها في كتاب (الأيام) , مع الفرق الكبير فيما بين الرجلين والرحلتين .
والعمى الذي اكتست به حياته, قد حدّ من ممارسته للحياة الفلاحية , وهو الذي يتخيل الفلاح يعمل في أرضه والحرفي في صنعته, والجباه المكسوة بالعرق , كل ذلك أثار لديه السخرية من الواقع بشكل لافت.
وعلى هذا النحو امتازت حياة البرّدوني الشعرية, باستخدام مقتدر للغة العربية وقد تميزت بالفصاحة, التي استطاع بموهبته الفذة , تطويعها لنثر السخرية في كل الاتجاهات , بشكل استثنائي في الشعر اليمني بشكل خاص وفي مسيرة الشعر العربي بشكل عام, فيما بين الفصحى والعامية بتهجين لطيف وغير شاذ.
والملمح الثاني في الشاعر البرّدوني هو قدرته الفائقة على كسر القوالب الكلاسيكية المتوارثة من القديم , وفي الاشتقاقات اللغوية, والتي ابتكر منها الصور الساخرة, التي تميز فيها, بحسن واقتدار.
وفي هذا يقول عنه – د-عبد العزيز المقالح :(كسر حدّة الرتابة,, بكسر حدّد الدلالات اللغوية , وبناء الصورة بناءً لا يمت إلى الذاكرة الشعرية القديمة , ولا يستسلم لم تفرضه القوالب الجاهزة من استخدام لغوي مباشر ).
وكما يرى – د- المقالح أن التجديد الشعري عند البرّدوني ( ليس في محتويات فحسب, بل في بناء هذه القصائد القائم على تحطيم العلاقات اللغوية التقليدية وابتكار جمل وصيغ شعرية نامية, صحيح أن إيقاعه كلاسيكي محافظ لكن صوره و تعابيره حديثة تقفز في أكثر من قصيدة وبخاصة في السنوات الأخيرة, إلى نوع من السريالية تصبح فيه الصورة أقرب ما تكون فيما يسمى باللامعقول).
وفي حوارية رائعة للبرّدوني فيما بين ( السندباد) الذي يرد على أسئلة المحقق

تحديت بالأمس الحكومة , مجرم= رهنت لدى الخبّاز, أمس جواربي
مَنْ , الكاتب الأدنى إليك؟. ذكرته= لديه, كما يبدو كتابي, وكاتبي
لدى مَنْ؟- لدى الخمّار, يكتب عنده= حسابي , ومنتهى الشهر يبتزّ راتبي
قرأتَ له شيئاً؟, كؤوساً كثيرة = وضيّعت أجفاني لديه وحاجبي
قرأت كما يحكون عنك, قصائداً= مهربة, بل كنت أول هارب

ويستمر الشاعر بحواريته تلك في السخرية من المحقق والذي هو رمز عقلية النظام البوليسي:

أما كنت يوماً طالباً؟ كنت يا أخي= وقد كان أستاذ التلاميذ طالبي
قرأت كتاباً مرة, صرت بعده = حماراً, حماراً لا أرى حجم راكبي
وكم متُّ مرات؟- كثيراً كعادتي = تموت و تحيا؟- تلك إحدى مصائبي
وماذا عن الثوار؟- حتماً عرفتهم= نعم حاسبوا عني , تغدوا بجانبي
وماذا تحدثتم؟- طلبت سجارة = أظن وكبريتاً.. بدوا من أقاربي

وتبلغ السخرية ذروتها, في حدة وجمال تلك اللوحة الجميلة:
لدينا عنك ملف!, شكراُ لأنكم= تصونون ما أهملته من تجاربي
لقد كنت أمياً حماراً, و فجأة = وفجأة ظهرت أديباً , مذ طبختم مآدبي

ولا يزال ينتقد الممارسات الخاطئة للأجهزة الأمنية ضد المواطنين الذين عانوا من هذه الأشياء في حياتهم
قلت يوماً: أحبَّ شعري ” المعري”= بلّغوا بي أن المعري عشقي
وبأني أزوره كل يوم = وله ورشة جوار ” العريقي”
** ** **
قلت يوماً كان” امرؤ القيس ” صاحت= عمتي : كيف تمدحين طليقي
** ** **
لو تحولت فرخةً, ثعلبوني = لو تضفدعت , خبّروا عن نقيقي
لو رأوني أمسي حماراً, لنادوا= خبراء يترجمون نهيقي

وهذه القصيدة هي قمة السخرية وهي بعنوان” يوم 13 حزيران” وهي تحكي قصة حركة انقلابية, وإذاعة البيان الأول من الإذاعة , ككل بلدان العالم الثالث وهذه الحركات الانقلابية التي يدعي فيها الجيش المحافظة على الوطن ومصلحة المواطنين . يقول البرّدوني
جبينه دبابة واقفة = أهدابه دبابة زاحفة
ليس له وجه.. له أوجه= ممسوحة كالعملة التالفة
ساقاه جنزيران.. أعراقه= إذاعة مبحوحة راجفة
تلغو كما تسقي الرياح الحصى = تحمّر كالجنيّة الراعفة
بعد قليل .. مئتا مرة =وعدٌ كسكر الليلة الصائفة
وبعد عشرين احتمالاً بدت =لا ولادةً مكروره زائفة
حماسة صفراء معروقة = أنشودة مسلولة راجفة
شيء بلا لون , بلا نكهة = ماذا تسميه؟ اللغة الواصفة
** ** **
يا عم دبابات !!, إني أرى = انقلاب , جدتي عارفة
نفس الذي جاء مراراً كما = تأتي وتمضي دورة العاصفة

ولعل هناك الكثير من اللقطات الساخرة من الأوضاع واللوحات التي يرسمها بلغته البسيطة الممتنعة, هذا الشاعر الذي قاوم الفساد في المجتمع , ومقاومة المفسدين في جميع الاتجاهات, واستخدم فنون اللغة, وبما تفتقت به قريحته من استنباط ألفاظ لم تكن مستخدمة من قبل . وهنا كانت لنا هذه الوقفة , أمام اللوحة الساخرة في شعر البرّدوني , وهي إحدى الأغراض الأدبية التي طرقها الشاعر في أشعاره .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بصرى الشام – سوريا
24-11-2010م

عن هشام شمسان

هشام سعيد شمسان أديب وكاتب يمني مهتم بالنقد الثقافي والأدبي ، ويكتب القصة القصيرة والشعر . له عددمن المؤلفات النقدية والسردية والشعرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!