إنّ سرّفرح الإنسان هو لقا ؤهب الله. ولايدرك هذا الفرح إلّا الّذين اختبروا عميقاً حضور الله السّعيد في أعماق نفوسهم. الله السّعيد أو الله السّعادة ، ذلك هو فرح الإنسان الحقيقيّ والباقي تفاصيل تمهّد لهذا اللّقاء الّذي يستلزم نقاء القلب المحبّ. “طوبى للأنقياء لأنّهم يعاينون الله” (متّى 8:5).
لم يجد الإنسان تعريفاً حقيقيّاً للسّعادة ؛ لأنّها غيرمدرَكة في هذا العالم. ولعلّ مفهومها هشّ وسطحيّ عند الّذين يربطون السّعادة بالمادّة أو العاطفة أو النّجاح. إنّ هذه السّعادة ليست سوى حالة سرور مؤقّت ما تلبث أن تخمد في انتظار حالة جديدة. وأمّا اللّقاء بالله فهوحالة السّعادة الحقيقيّة الّتي لا تنتهي ؛ لأنّ هذا اللّقاء يأسر الإنسان ويخرجه من ذاته ليغرق فيا لقلب الإلهيّ. ومن يلج هذا القلب لايمكنه العودة. فإذا كان الإنسان يدخل السّعادة في لحظة لقاء المحبوب الإلهي فكيف يمكن وصف السّعادة الإلهيّة ؟ الإنسان ينتقل من حالة البؤس إلى حالة السّعادة عند اللقاء بالله، كماهوالحال في لحظة الخلق. بمعنى آخر ، كان الإنسان حاضراً في الفكر الإلهيّ ثمّ خلقه الله على صورته كمثاله. وكما أنّه خُلق من صلب المحبّة الإلهيّة كذلك يُخلق من جديد من صلب السّعادة الإلهيّة. حين تلد الأمّ ابنها تشعر بسعادة لايعرفها إلّا هي ، ولايدرك مكنونها إلّ االأمّ كمانحة للحياة. وترافقهاهذه السّعادة كلّما التفتت إلى ثمرة أحشائها، وكلّما أعطت من ذاته الي حي اولدها وتظلّ تتنعّم بها إلى أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. هذا الشّعور غيرالموصوف الّتي تعجز اللّغة عن وصفه ويعجزالعقل عن شرحه يمكن أن يجعلنا نتلمّس السّعادة الإلهيّة لحظة الخلق.
لقد خلق الله كلّ شيء بسعادة ؛ لأنّه يرى أنّه حسن ، أي أنّ فيه جمالاً خاصّاً. لكنّه لمّا أراد أن يخلق الإنسان قال: ” لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا” (تكوين 26:1). والقول مرتبط بالصّنع ، فدلالة القول تشير إلى أنّ الإنسان كان حاضراً في الفكر الإلهيّ والصّنع دلالة على ارتباط الفكر بالحبّ الإلهيّ ، لأنّ الله صنع الإنسان على صورته ، بعد أن خلق كلّ شيء بفعل “كن”. (ليكن نور…) لكنّه لم يقل ليكن الإنسان ، ما يدلّ على ارتباط مباشر وخاص بالصّورة الإلهيّة . وبعد خلق الإنسان نظر الله ورأى أنّ ما صنعه حسن جدّاً. تؤكّدعبارة (حسن جدّاً) سعادةاللّحظة،لحظةالخلق،اللّحظةالّتيخرجفيهاالإنسانإلىنورالأرض. إنّها سعادة الله بالحضورالإنسانيّ ، ولحظة انفجار الحبّ الإلهيّ الّذي أوجد الإنسان الّذي على صورة الله.
إذا كان في الأبناء شيء من صورة والديهم ، فلا بدّ من أنّ في الإنسان صورة خالقه. ولا نقف عند الصّورة الماديّة ، بل ندخل إلى عمق الصّورة وتفاصيلها. ففي الإنسان ماهو إلهيّ ، وهنا ينبغي التّوقّف عند مفهومنا لله حتّى نتلمّس بعضاً من السّعادة الّتي ملأت الكون لحظة خلق الإنسان. كم ايلزمنا أن نبتعد وننسى كلّ ما صُدّر إلينا عن الله من إسقاط الفكر الإنسانيّ على الفكر الإلهيّ . ويعوزنا أن نرتقي ونرتفع إلى مستوى الكلمة الإلهيّة لندرك معنى السّعادة الإلهيّة.
الله ينظر إلى الإنسان بدهشة (ورأى أنّما صنعه حسن جدّاً). إنّها دهشة الحبّ الّتي تنعكس على الإنسان المتعطّش إلى جماله الأوّل (على صورته كمثاله). فيمسي في ذات الدّهشة عندما يلتقي بالنّور الإلهيّ. لذلك نرى كلّ العاشقين لله في حالة صمت وفرح واحتمال ؛ وذلك لأنّهم يعاينون الصّورة الأصل والجمال الّذي خُلق واعلى صورته. إنّها الدّهشة السّعادة الّتي تنمّي الحسّ الإنسانيّ الحقيقيّ. وإلّا فكيف نفهم سعادة الحلّاج المصلوب الّذي تفنّن في قتله مُعادو الجمال والحبّ ؟ وكيف نتبيّن سعادة القدّيس أغناطيوس الأنطاكي وهو يخطو نحو الوحوش كما يطأ الملكوت ؟ وكثيرون ممّن غمرتهم السّعادة الإلهيّة وأخرجتهم فعليّاً من العالم فتمازجت أرواحهم بالله ، أدرك واالسّعادة الّتي يبحث عنها كلّ إنسان. لكنّ الإنسان غالباً لايعرف كيفيّة البحث ، أم إنّه ينجذب إلى سعادة وهميّة في بني حاجزاً بينه وبين السّعادة الإلهيّة.
الله السّعادة حقيقة يكتمل بها الإنسان وسيظلّ يتخبّط في قلق هو خوف هو فوضويّتهم الم يدرك هذه الحقيقة الّتي تعرّفه على سبب وجوده في العالم، ألا وهو اللّقاء بالسّعادة الإلهيّة.