هاشم خليل عبدالغني – الأردن
الفة دريد .. من شعراء العامية التونسية ، رسمت أشعارها صورة صادقة لواقع تونس السياسي والاقتصادي والاجتماعي في السنوات الأخيرة ، بعد العجز عن إدارة الدولة التونسية وغلبة العنف على إدارة الصراعات في مرحلة ما بعد الربيع العربي .
وفـضـحـت سيـاسـات نـظـام الـحـكم وعـرت سلبياتـه وإخفاقـاته ، وناصرت القضايا الوطنية والإنسانية العادلة، وفي مقدمتها قضية التنمية و قضية الكادحين والـفـقـراء والمساواة وتـكـافؤ الفـرص،فالشاعرة دافـعـت عــن هــذه القضايــا بقـوة وإخـلاص كـما وجهـت سـهام نقدـها ،للأوضاع الاجتماعية في البلد .
الفة دريد ..شاعـرة تقـاتل بالكلمة .. كما قـال احـمد فـؤاد نجم “الكلـمة سـلاح وإنها فـي بعـض الأحيان ،ظاهـرة تعلـقها عـلى صدر صديق أو تسلمها له هدية ، وتـكون في بعض الأحيان خنجرا تطعن به عدوا.”
أنـا عـندي كـابــوس .. نـص لشــاعـرة الـعـامية ( ألـفـة دريـد ) فالكابوس كما هو معلوم (: ضَغطٌ يقع عــلى صدر النـائم لا يقدِرُ معه أَن يتحرك ) قيل أن هذه الكلمة ليست عربية ، ومعناها بالعربية :- ” الجاُثومُ ، والباروكُ ، والنِّئْدِلان …تُعرف الكوابيس : ” بأنها أحلام سيئة تسبب في استيقاظ النائم في حالة من الذعر والخوف ، تسبب الكوابيس المتكررة والـمثـيرة ، الـخـوف الشـديـد وغــيره مـن المشاعـر السلـبية ، كـالإرهــاق والـقـلـق والاكـتـئاب ، وغـيـرها مـن المشـاكـل النفسية .
إشارة : – تكررت في بنية القصيدة ظاهرة ( اللازمة – أنا عندي كابوس ) باستمرار ، (هذا البناء التكراري أداة فاعلة داخل النص الشعري ويضفي بعداً جماليا يخدم النص وينقله من الركود والخفوت إلى حالة من الحركة الموسيقية وحتى النفسية التي تصاحب الحالة الشعرية ). فطبيعة الـقصيدة عـند ( الفة دريد ) تجعل الشاعرة تميل إلى اعتماد لازمة تعبيرية فـي نصـها الشـعري .. يـرى بعـض الشعراء أن ” الـلازمـة الشعرية ليست تكرارا بل ضرورة جمالية للقصيدة ” .
السؤال المطروح .. ما هي أسباب الكابوس الذي أصاب الشاعرة ، وسبب لها ذعرا وحيرة وثورة قلق ؟ وما الرسالة التي أرادت الشاعرة إرسالها لأبناء وطنها ؟ .
تعاني الشاعرة من ( كابوس ) بسبب الأوضاع الداخلية في بــلدها تونس، فقد رأت ولاحـظـت أن الــوضع يتحـرك وفــق ديناميكية بـلا تـوقــف ، صنعته أحداث ووقائع متتالية لم توفر لتونس إمكانية الاستقرار ، وأصبح المجتمع التونسي كما ترى الشـاعـرة بـلا ملامـح ، كـدولـة ذات هــويــة واضحـة ، بفـعل الصراعات الداخـلية بين التوانسة ، التي لـم تصل بهـم لمـرفأ الخلاص والأمان .
ترى الشاعرة أن الأفكار المتناحرة المتصادمة أصبحت كالسم يسري فـي عروق أبناء الوطن مـكان الـدم ..كـما تحـمل الشاعرة حملة شعواء عـلى اختلاف زوايـا النظر فـي مختـلف قضايـا المجتمـع فـلا مكان لـلعـقل والـمنطق بـل اتباع الـهـوى والرغبة في الانتصار.. لأن هذا ما يحركنا أمام الآخر ، للـرد علية والانتصار لآرائنا ، فنسد كل مـداخل العقل مـن حــواس سمـعـية وبصرية وفكرية ، إذ فـي حـوار الـطـرشان لا مـكـان للأخـر … ولكي نحقـق نقلـة نوعية فـي وطننا ( ليس المطـلوب إلغـاء تصورات الآخـر، بـل فهـم مـوقعـه وزاوية نـظره لـلموضوع، والتعرف على المدركات التي أوصلت به إلى هذه النقطة ) .
انا عندي كابوس
شفت التوانسة الكلّ علي حصنّة راكبين
… حاملين سيوفة و الحرب على بعضهم ناويين
انا عندي كابوس
… شفت السمّ يدور فى عروقنا في بلاصة الدمّ
انا عندي كابوس
شفت الالسنة متاعنا ولات سكاكين
…و كلّ كلمة نقولوها، تسيّل دمّ الى سمعوها
تتـابـع الشـاعرة ســرد أسبـاب إصابتـها بالكـابـوس ، مــن أبـرز الأسبـاب تحـجـر الـقـلـوب ونهـب الـحقـوق فـالضمائـر مـاتــت والنفـوس قســت ، وأقـفـلت أبـواب الــرحـمة ، وتـبـخر مـنـهـا رصيـد الـمحـبة والتسـامــح والاحــترام والـتعاطـف . فتـلـبدت المشاعر وخيمت عليـها القسوة . كـمـا تشير الشاعـرة لتـفـشي الفقر والمجـاعة في وطنها ، فـهذه الظـاهـرة تدعو إلى الرهبة والخـوف على ما سيكون عليه مصير الشعـب التونسي الفـقـيـر المعدم فالمجاعة والفقر وحش يلتهم بنية المجتمع … ويهـدد أمنه وسلامته .
انا عندي كابوس
شفت قلوبنا تجمدت و ولات صلبة كيف الحجر
…و ماعاد حدّ يحسّ بحدّ لا فى البرّ و لا فى البحر
انا عندي كابوس
شفت الّى الفقر و المجاعة إنتشرو فى بلادنا
…و صبحنا ناكلو فى لحم أحبابنا و أولادنا
تواصـل الشاعرة سـردها للتـغير الـذي طـــرأ عـلى بنيـة الأسرة التونسية ، من صراع واختلاف وتكلس العقول ، كما أنها تشير إلى ظــاهرة انتشار الأسلحة خارج نطاق الشرعية ، تبع ذلك تراجـع في التربية والتعليم . .. والاقتصاد أصيب بتصلب الشرايين وفقدان المناعة ، بسبب إهمـال التنمية الاقتصادية تخطيطاً وتمويلاً ومساءلة ، حدث ذلك بسبب انقسام التوانسة إلى ليبراليين وسلفيين متدينين .
انا عندي كابوس
شفت الّى فى كل عيلة قاتل و مقتول
…خاطر الاختلاف ولّى جريمة و تكبّلت العقول
انا عندي كابوس
شفت الّى السلاح ولّى يتشرى و يتباع فى البلاد
…عند الخباز و العطّار و الجزّار والحدّاد
انا عندي كابوس
شفت الّى المدارس ماعادش يقرّيو “حساب” و “تربية” و “جغرافيا” و “تاريخ
…” و ولّات المواد “كاراتى” و “كونغ فو” و “ملاكمة” و “تفشيخ
انا عندي كابوس
شفت الّى المصانع متع الحوايج فلست و سكّرت فى بلادنا
خاطر شطر التوانسة إختارو“النوديزمّ” و مخاخهم تشرڨت مالحرية
…و شطرّهم الآخر لبسو العمامة و النقاب و سكّرو الابواب على البشرية
الشاعرة عندها كابوس لأن التوانسة أصابهم الطرش وفقدوا السمع ، وتضـاربت الآراء وَاخْتـَلـَفَتِ الاتِّجَــاهَاتُ و تبـاينت . .. وتــواصل الشاعرة هجــومها عــلى واقـع بلـدها تـونس المر ، فتـقول لقـد ففد التوانسة قوة الإدراك والفطنة فاختلط النور بالظلمة .. حين تخلينا عن العلم وأهل الخبرة ..فسواد الفكر منعنا من الرؤية رغم سلامة حواسنا . وترى الشاعرة بأن التوانسة أصيبوا بمرض الزهايمر ، فدمرت ذاكرتهم ووظائفهم الذهنية ، وأصيبوا باضطراب والتذكر .
انا عندي كابوس
شفت الّى التوانسة الكلّ ضربهم الطرش
…و ماعاد يسمعو حد كان أصواتهم تنفخ و تفش
انا عندي كابوس
شفت الّى التوانسة الكلّ ضربهم عمى البصر و البصيرة
…و الظلام خيم علينا فى الصباح و فى الظهيرة
انا عندي كابوس
شفت الّى التوانسة ضربهم مرض الزهايمر مالطفل الصغير للشيخ
…و بلادنا تمحات من خريطة العالم و من كتب التاريخ
تواصل الشـاعرة فتقول أنـا عندي كابوس ، لأنـي رأيت أغـلبية التوانسة كفروا بـمبادئ العدل والمساواة وبعضهم غـير ديـانتــه ، والصقوا بالإسلام تهمة الإرهاب ، وصدق بعضهم هذه المسرحية الهزلية ، بل إن كثيراً منهم غيروا بوصلة تفكيرهم فاتجهوا صوب
من تأمر على وطنهم وعمل على تدميره .
تصيف الشـاعرة بأن التوانسة اخـذوا جرعة زائدة مــن مفــهوم الديمقراطية ، فاقــت حـدود المنطق والعقل .. فضجت الشوارع بالاحتجاجات الحقيقة والمصطنعة ، فمنهم من يسعى لتحقيق أهداف مـرسومة ومدروسة ، ومنهم مــن يسعـى لتـحقـيق مـكاسب ذاتية خـاصة .
انا عندي كابوس
شفت الّى أكثر التوانسية كفرو وإلّا إعتنقو المسيحية
…وقالو “الإسلام دين إرهاب” و تعدات عليهم المسرحية
انا عندي كابوس
شفت التوانسة ما عادش يحجّو لمكّة و السعودية
…ولّاو يحجّو لابيزا و الّا لتمثال الحرية.
انا عندي كابوس
شفت الى التوانسة خذاو “اوفر دوز” من زريقة الديمقراطية
و تعبات الشوارع بالاحتجاجات بالنية و بغير نية:
الي يحتج خاطر شعرو أحرش و عينيه موش حلوّين
و الّى يحتج على الشمس خاطر سخونة عليه
“و الّى فدّ على الارض و قالك “شبيها ديما تدور؟
…و الّى يحتج خاطر ما عندوش جوانح العصفور
وتنهي الشاعرة نصها الطافح بالمشاعر الوطنية الملتهبة ، بإعلان خيبتها مـن الربيع الـعربي ، الذي تحـول إلى خـريف دمـار ودماء وجحــيم ، حـيـن تبخرت أحـلام الشعـوب بالديـمقراطـية والحـرية وبالإصلاح ومحاربة الفساد والفاسدين، حين أنحرف الربيع العربي شيئا” فشيئا” عن مساره وليصبح اليوم جحيما” عربيا” لا تُعرف له نهاية بسبب دخول الأيادي الخارجية والأجنبية المشبوهة على خط المواجهات بين الشعوب وبين الأنظمة المتسلطة والقمعية .
وأخيراً … أفاقت الشاعرة من النوم ( الكابوس ) مرتجفة ومضطربة متألمة ألماً شديداً.. فوجدت نفسها في السجن وقد أعدت لها التهم ، فصاحب الرأي والموقف و التوجه ، لم يعد بحاجة إلى أخد قياساته لتفصيل تهمة له ، فالتهم المعلبة جاهزة .
ولكن ما تهمة التي سجنت على أثرها الشاعرة ؟ سجنت لأنها مثقفة حقيقية تفاعلت بإيجابية مع الهم العام ، وساهمت في إنتاج المعرفة وإعلاء شأن العقل، ولأنها تنشد الحقيقة لذاتها، تهمتها إنارة العقول وبعثها من سباتها العميق … ” التكيف القانوني للتهمة إرهابية مع سبق الإصرار والترصد ” .
انا عندي كابوس
شفت الّى “الربيع العربي” تحوّل لاعصار شتوي قاتل مجنون
…و دمّر العرب و المسلمين و قطع إسمهم مالكون
أنا هكاكا و قمت مالنوم نرعش مفجوعة
… لقيت روحي في الحبس “ديجا” و دوسياتي مطبوعة
ياخى تساءلت على الجريمة و الّا التهمة الموجهة ليّا
قالولي: “إنت متهمة بانارة العقول و محاولة بعث القلوب الميتة من القبور
…مغفورو هذا هجوم إرهابي خطير
مجمل القول إن قصيدة الشاعرة الفة دريد ” تحفل من حيث الشكل بفنية متوازنة وبتشكيلات جمالية كما تمتاز بجودة السبك ، ودقة التوصيف ووحدة الموضوع والرؤى الفكرية النيرة .. قصيدتها تجمع بين بساطة التعبير وعمق المعنى .. أمــا مـن حيث المضمون فالشاعرة تعبر عن حبها وتعلقها العاطفي بوطنها تونس ، كما تحمل حملة قاسية على إفرازات ما يسمى بالربيع العــربي ونتائجه الكارثية .. حيثُ تحـوّلت تونس إلى دولةٍ فــاشلة تَعمّها الفــوضى ، فتفتت الوحــدة الــوطنية واهـتـزت بـنية المـجتمع .. وتضاعـفت معـانـاة الشعــب وخسائر الـوطن البـشريّة والـماديّــة ، فالشاعرة تدعو إلى محاربة ( السواد – الظلام ) المانع من الرؤية الصحيحة للواقع، وتؤكد أن ذلك لن يكـون إلا بمحاربة أنظمـة الفساد ولصوص تونس الذين لهم اليد الطولى في تقهقرنا .
كمـا تدعو الـشاعرة لوقفة جادة نراجـع فيها أنفسنا ( كشعب) فـربمـا نستيقظ من التبلد الذي أصاب وجداننا بالعطب ، وأن لا نـكتفي بالمشاهـدة واللـطم والصراخ ، محركها ودافعها الــغيـرة على وطنها ( فالغيرة في غير مكانها تتحول إلى مرض) إلا الغيرة عـلى الوطن فهي مـدعاة للـفخر ، و بهـا يصل الوطن لحقـول الأمان .