قراءة: أحلام غانم
على سبيل الفصل
حينما تكون الذاكرة محمّلة بالألم غير المحلول تتحول إلى عبءٍ غير منظورٍ، فتحاول التجربة الشعرية إعادة بناء ذكريات هذه الفصول المحمّلة بالألم عبر لغة شعرية غنية، مما يجعلها أداة للتأمل والمقاومة ووسيلة لاستعادة الذات في مواجهة الزمن والفقد.
” حرقة الفصول “
تجسّد قصيدة الشاعرة خديجة بوعلي الموسومة ” حرقة الفصول ” تلك الفصول المحمّلة بالألم غير المحلول “/عناصر الإبداع، أبرزها الصورة البصرية التي تشارك القصيدة، وتُعَدُّ هذه الصورة أحد المداخل الجوهرية لفهم الذاكرة الشعرية.
المجاز الحيّ
هذه الصورة ليست مجرد زخرف زمني أو استعارة بصرية، بل هي -المعنى الفلسفي- لحظة انبثاق وجودي تَعبُر بالكلمة/ حرقة من فصولها /حدودها /المعجمية إلى فضاءات التأويل المفتوح؛ وفي ضوء بول ريكور يمكن اعتبارها “مجازًا حيًا”؛ لأنها تنتج الدلالة ولا تكتفي بإعادة إنتاجها.
البعد البصري
الشعر/العمر عند الشاعرة بوعلي جذوة نور، يُقيم في المسافة الفاصلة بين ما يُرى وما يُتخيَّل، بين البصر والبصيرة، بحيث تصبح الصورة الشعرية ليست انعكاسًا لمرئيٍّ خارجي فقط، بل بناءً داخليًا يكثّف الذات ويُفجِّرها في آنٍ واحد حيث تتخذ بعدًا بصريًا وفلسفيًا معًا؛ فالصورة عند “خديجة أبوعلي” ليست مجرد انعكاس للواقع الخارجي، بل هي فعل وجودي يكشف الذات في علاقتها بالكون.
المعنى الكوني
تعمل الشاعرة خديجة بوعلي ” في نصها على تحويل التجاعيد /التفاصيل اليومية إلى رموز متصلة بالمعنى الكوني، ومن خلال استخدامها للصورة تدمج بين الحلم والواقع، وبين الحضور والغياب، وبين العاطفة والوعي الوجودي، بين الأبيض والأسود ،مما يمنح صورتها الشعرية/ لوحتها/ القدرة على توليد المعنى بدلًا من الاكتفاء بإعادة إنتاجه وتخلق جدلية مستمرة بين التوتر والانسجام، وبين البناء والهدم، فتبرز لحظة الحفر في تجاعيد الذاكرة بوصفها مساحة عبور من اللغة إلى الوجود، ومن الذات إلى الآخر.
مقاصل خوف وندم
تتجسد لحظة تأملية عميقة في قصيدة “حرقة الفصول ”، تنحو نحو استكناه مآلات الذاكرة والخذلان، إذ تحضر الذات بوصفها واقفة على تلك العتمة التي أرهقت الفصول، وتعايش تجربة وجودية تبدو كأنها على ” مقاصل خوف وندم من الألف إلى الياء” تقول الشاعرة :” لا طاقة للفصول على القفز طولاً ولا بالزَّانة ../ غارقة في يم بلا قعر / في كهوف بلا كوات / مذ كانت ..مذ كنا /.”
زمن متصلب
على متن الصورة المرفقة ل “حرقة الفصول ” تسافر بنا الشاعرة عبر الزمن من خلال التعبير الشعري المراوغ الذي ينطوي على الألم الصامت وتطرح ذاتا ليست فقط في مواجهة ألم نفسي داخلي، بل كذلك في مواجهة زمن متصلب، ويصبح العمر ذاته وكأنه على شفير النهاية، ويمثل الحضور الوجودي كوة ضيقة بين البقاء والاختفاء.
استنطاق الذات الشعرية
هذه الصورة وتلك التجاعيد المنحوتة على وجوه الكبار تُلخّص حكايات العمر وعقودًا من العمل والشقاء والتعب، إنه شكل من أشكال التعبير واستنطاق الذات الشعرية والارتحال لجوانيه الوجدان بغرض استكشاف الهوية الذاتية والوصول لفهم أعمق للآخر وللواقع المعاش والزمن الماضي والآتي.
وتتناغم الصورة مع ما ذهب إليه بول ريكور حول الذاكرة، حيث يقول: إن “الذاكرة ليست تسجيلا جامدًا، بل إعادة صياغة نشطة تعيد تشكيل الذات وتعيد بناء الحاضر من خلال الماضي”.
الشك الذاتي
قد تتعدد أشكال ما حجب وما استتر في أدغال الذاكرة الشعرية التي تتجلى فيها هذه الأسئلة، بحيث يتحول السؤال إلى نظام شعري قائم بذاته، وفقًا لما تتبناه الشاعرة، حيث يتحول النص الواحد إلى “مساحة استقطاب” أو “بؤرة كاشفة” تحتوي على مفاتيح نصية.
وأسئلة تتردد داخلها / لم الإصرار على استعمال غربال بثقب كبيرة؟”. / لم حجب ما استتر في أدغال التجاعيد.. / من يصلح ذات البين؟/
في هذا الإطار، تشير الأسئلة الوجودية إلى حالة الشك الذاتي، حالة تقلب بين الرغبة في الحياة والاعتراف بما هو مخذول، “وما استتر في أدغال التجاعيد”، مما يشير إلى صراع داخلي شديد القسوة بين ما ينبغي أن يكون وما هو واقع.
التدافع الزمني
يمثل الزمن في “حرقة الفصول” أداة إبداعية مركزية، ليس كخلفية للصورة فحسب، بل كعنصر فعال يشكل بنية النص الشعري ويحدد إيقاع التجربة الوجودية؛ فالشاعرة تتعامل مع الزمن شعوريًا لا كإطار ثابت للوحة / الصورة / الحرقة/ العتمة، بل كسلسلة من اللحظات المتداخلة بين الماضي والحاضر والمستقبل المحتمل، وهذا التدافع الزمني يخلق إحساسًا بالتوتر الدائم بين الفقد والرجاء، وبين الغياب والحضور، ويؤسس للوعي القلِق الذي يميز الشعر عندها.
غربال الذاكرة
إذ تقول الشاعرة:” كل الانتظارات تحتضر على شفا عدم.. ” و من هنا يتضح لنا مغزى تلك الانتظارات التي تمثل تجليات الزمن القاسي الذي يمر دون أن يحمل أي تجديد، بل يقتصر إصرارها على استعمال غربال بثقب كبير والعمل على تمزيق الذاكرة والشعر، كناية عن تمزيق الذات واحتراقها أملا بموعد قريب ينعش ما تبقى في غربال الذاكرة .
عصارة القول
مع هذه الإطلالة الخاطفة على” حرقة الفصول ” نجد إننا هنا إزاء بناء شعري يدغدغ عواطف القارئ ويلهب همته ويستثمر الصورة باعتبارها “لغة ثانية” تتجاوز المعنى المباشر، وتتيح للذات أن تفجّر قلقها في استعارات تحيل إلى ما هو أكبر من “حرقة الفصول العاطفية، إنها تحيل إلى مأزق الذات في مواجهة الزمن، وإلى هشاشة الأمل في مواجهة الاستحالة.
من هنا تبرهن الشاعرة ” خديجة بوعلي ” أن الصورة الشعرية في “حرقة الفصول / ليست “تزيينًا لغويًّا” بل نظامًا فلسفيًّا للإدراك، يدمج الضوء بالجسد، والخيال بالمعرفة، والمرأة بالكون، و استعادة الذاكرة الجمعية “فِيمَ كَانَ وَمَا كَانَ”.
وفي كل قصيدة للشاعرة المغربية “خديجة بوعلي ” تُظهر لنا المظهر البارز لخصوصية القصيدة المغربية الحديثة ،و تكشف عن ملامحه عن طريق السير وفق خطين متمفصلين:
ـ خط أفقي يقوم على رصد التفاصيل اليومية، وعلى قوة المشاهدة، والصور التلقائية. وهو طريق بعفويتها وبساطتها المعهودة رسمته بحرقة الفصول مع عدد من الشعراء لأنفسهم خارج المألوف / الشعر العالم.
وتجدر الإشارة إلى أن البساطة التي يقوم عليها هذا النوع من الشعر هي بساطة خادعة إذ سرعان ما تفصح لغتها السهلة عن عوالم معقدة تروى من معين الفلسفات العالمية الكبرى.
القصيدة :
“حرقة الفصول “
تلك العتمة أرهقت الفصول
كلما تسلقت جذوة نور
تعثرت أقدامها
بطين البرك…
بوحل شديد السواد
لا طاقة للفصول على القفز
طولا و لا بالزَّانة…
غارقة في يم بلا قعر
في كهوف بلا كوات
مذ كانت… مذ كنا
لم الإصرار على استعمال
غربال بثقب كبيرة؟
لم حجب ما استتر في أدغال
التجاعيد…
لينتصب فوق الأمداء مرّا… مرّا
كل الانتظارات تحتضر
على شفا عدم…
على مقاصل خوف و ندم
من الألف إلى الياء
هلم جرا
من يصلح ذات البين؟
بين الفجر و أيام مرت من هنا
بين الفجر و أيام تحبو الآن لتَمرَّ من هنا
من يرتق سقوف دروب،
أنهكها ركض الزمان
ضياعا و قهرا.
خديجة بوعلي
خنيفرة المغرب
آفاق حرة للثقافة صحيفة ثقافية اجتماعية الكترونية
