آفاق حرة للثقافة
عرض/ علي سليمان الْدُّبعي
المعاناة التي تُسيج بالكلمة الرقراقة وتلتهب بجذوة البُعد…بُعدِ الحبيب المكتنف تحت تلافيف الذاكرة وأعماق القلب صعب الإمساك بزمامها… تتفلت من عقالها لتشرد هناك…تبحث عن شقها فلا تجد سوى حميمِ البُعد يُصليها وإن وجد عبقها تجده يلتهب بالشوق يُشعله فلا يُطفيه ولاتقف الكلمات عن معنى مداها.
الشاعر/توفيق البكري يدخل علينا بنصٍ محترق المشاعر والكلمات يصور الكلمات كأنها مشتعلة عياناً… فلا تملك أن تكون أنت جزء من مشاعر النص وكأنك أنت المعني يقرأك بحسٍ قريبٍ وفي ذات الوقت مدى المعنى البعيد أو لنقول ماوراء السطر وماوراء المشتهى …
يستفتح عنوان النص ب ( حميم البعد ) قوة في المدخل ، قوة في اللفظ ، تركيب طبقي يعطي معنى متراكب متراكم مجرح .. ( حميم ) نار وهنا يدعم الاختيار اللفظي بالنص دلالة على قوة الاحتراق والشوق ثم يأتي بلفظ ( البعد ) ليؤكد حسن اختياره الحال الواقع – النار المحترقة – الشوق المتأجج لبعد المحبوب ( منحت خلّي فؤاداً بالهوى عبِقاً .. لكن خلّي رداء الكبر أعماه ) أنت تمنح قلبك حياةً ومشاعر وكيان فذاك قمة الوله والشغف وليس فقط بل إنّ ذاك الهوى عبقاً مملوء بالأجمل ( هوى – عبقاً ) حبٌ وطيب – صدق مشاعر من جانب المانح المحب ليجد من يحب متلبساً برداء الكبر والإنكار مسيجاً بذاك الرداء الذي أعماه عن حبيبه ..
عبر الشاعر في البيت الأول بالفؤاد ثم ألحقه في البيت الثاني بالقلب هنا الإحكام في الإقفال المرتق بالحب الذي لا يمكن أن تضع معه أدنى نافذةٍ من شك ( يحيا برونقه ) لم يمنحه الحب والفؤاد والقلب والهوى والعبق بل أخذ بكيانه بكل ومضة في الحياة ليسرج له الطريق بالإضاءة ( الرونق ) ليسلك طريقاً إلى حبيبه سلساً يسيراً ورغم ذلك لايقابل إلا بما يريده متوهج اللهب لدى المحب والمحبوب حب المحب وإنكار المحبوب ( لهيب الشوق أرداه )
يرسل الشاعر قلبه كطير – طير حب – طير سلام يتوجب عن كيانه المعلول – الملتهب – المشوب بالشوق واللهفة يقول ( يتلو عليه الهوى قلبي ليفرحه ) يتلو لفظ حفظ وفهن رواية ودراية فما الذي يتلو ؟ الهوى يحسن القلب تلاوته ويشحذ جذوة الشوق ويرجج لهفة الفراق ليعطي أملاً قادماً ( ليفرحه ) بالتأكيد بعد تلك المرحلة سنجد أننا في صف التصنيف المؤكد للقاء والارتواء من طرفي الحبيب والمحبوب إذ نجد أن الواصل أجمل وأحكم من يؤلف بين الطرفين ( قلبي ) إلا أننا نصعق لذلك النكران لتلك القسوة الصماء التي لاتتشقق بماء الحب المنسكب من هواء القلب فتكون ( تمزق البعد في قلبي وأبكاه) كأنما القلب تمزق بسبب البعد والإنكار حتى احترق بالبكاء فلا الرسول القلب استطاع الولوج إليه لأنه أمام حميمٍ – صِمم – متحجر .. ولا المحب بلغ ماأراد..
يخلق الشاعر صورة جميلة مدهشة على وفاء المحب وأننا لانجد أقل نسبة قد تخطر على أحد في مقابلة ذلك الصد ( العشق رغم الذي سواه يذكره ) رغم حصل فإن العشق قد بلغ مداه فأنساه صده وظل ناراً تذكيه بالذكرى ( يذكره ) لم يكتفي بذلك فليس للمحب توبة إن خالطت مشاعره أمشاج قلبه ونفسه فيكون التعب والعذاب تعب الحب الجميل اللذيذ والنار التي تشعله رغم احتراقه بها ( ولم يتب عن هوى من بات ينساه..
لم يزل بالحب يسقي قلبه مزناً نقاء الحب مزناً نقياً خالصاً صادقا يكون قريباً من كيانه فيلتحف بالبعد واشتعاله في عمق الحميم فيسقه حره وبعده ( من حميم البعد أشقاه )
لم يقف الشاعر عن إدهاشنا بالصور الجمالية عند هذا المنعطف بل يباهتنا ويباغتنا بصورة أكثر إدهاشاً ( في معطف الليل فتشته شجناً ) ( معطف ،ليل، فتش ،شجناً ) سلسلة مترابطة من أي جهة تأتيها تجد توهجها فما الذي يخفي المحبوب عن الحبيب فيتخفى بمعطف الليل إلا أن الحبيب يفتش عنه شجناً يفكك الليل يكشف مخبوء المعطف مكاشفة لاتترك للطرفين التفلت … دقة التصوير والتصويب .. تفكيك هذا الليل بوميض نور الحب حتى ( من أسفل الهجر أحبو حتى أعلاه ) ممحاة تمحو فلاتترك لما كان أثراّ من أسفل إلى أعلى أو العكس يمحو ماكان هجراً ليكون لقاءً واستخدم لفظ جميل رقيق ( يحبو ) حتى لايجرح محبوبه برغم هجره وبعده..
يعيدنا الشاعر إلا الخطوة الأولى ( من بداية صدٍ كاد يقتلني ) الصد لم يكن سهلاً عليه فقد كان يقتله ( يقتلني ) إلا أن مازال قائماً من وإلى ..من بداية الصد إلى نهاية حميم البعد هو نال عذاباً إلى أقصاه وهو الحال القائم وتمنى أن ينال اللقاء إلى أقصاه ولم يكن له ذلك ..
يتساءل الشاعر ( أجبني ) هل ترى بالبعد فائدة..
الشاعر قد أعطى نتيجة مسبقة ( حميم البعد ) لكنه تساءل كأنما يعطي عتاباً هل ترى بالبعد فائدة وينقلنا من تساءل داخلي قريب إلى تساءل بعيد عام ليشركنا الحال ( البداية – النهاية ) ( هل ياترى في أريج الصبر ألقاه ) الصبر كما يقال علقمٌ مر لكن الشاعر الجميل جعل الصبر أريجاً حتى لايجرح مشاعر من يحب ولو باختلال اللفظ..
كان الشاعر في مشاعره قبل شعره فلا تكاد إلا أن تقول أن هناك من يحسن القول حتى أن الحب ذاته يندهش من هؤلاء الشعراء..
الشاعر توفيق البكري كان جديراً جديداً نحو الأجد ملهَماً في لفظه وشعره وحبه..
فسلامٌ على قلمه وقلبه…