منذ أيام هاتفني صديق لم يهاتفني منذ فترة طويلة وسألني سؤالاً بدا لي غريباً للوهلة الأولى. وهو “هل قرأت رواية موسم الهجرة إلى الشمال؟!” أجبته بالإيجاب وأخبرته أنه لو كان قد عقد العزم علىقراءتها،فإنها ستكون من أجمل ما قرأ في حياته. لكنه أخبرني أنه بالفعل قرأها ولكنه لم يجد فيها الروعة التي رآها كثيرين وسألني ماذا رأيت فيها ولم أستطع أن أراه؟!
ولأني لست بناقد أدبي شعرت أني لم أستطع الإجابة على سؤاله بخصوص الرواية التي سقطت في عشقها منذ أول سطر فيها.وأخذت أعيد تكرار علي مسامعه جملة من هنا وجملة من هناك مما أتذكر. في الحقيقة أني لم أذكر الكثير سوىأني كنت أقرأ عملاً رائعاً رأيت فيه نفسي وكل نفس بشرية سكنت على ضفاف وادي النيل. ففي اعتقادي دائما أن عظمة الرواية تكمن في قدرة كل واحد منا على رؤية نفسه فيها حتى لو كانت رواية أجنبية !
وقد كانت المفارقة أن قبلها بأيام قليلة كنت أتحدث مع صديق آخر عن نفس الرواية وهو الذي طلبت منه أن يجلبها لي أو بالأحرى الذي أهداني إياها. وذكرت له أنه على الرغم من قراءتنا لهذه الرواية إلا أننا مازلنا لم نفهم إلاالقليل من مغزاها ويجب علينا إعادة قراءتها !
هذا وقد كان تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لدى استقباله رئيس الوزراء السوداني المكلف الدكتور عبدالله حمدوك لافتاً عندما قال أن السودان يستحق وطناً رائعاً ككتابات الطيب صالح !
كل هذا قضي لي بقوة إلىإعادة قراءة هذه الرواية وهو أمر غير معتاد بالنسبة لي كقارئ عادي وغير متخصص. وعندما انتهيت أدركت بخطأ ما ذكرت لصديقي الذي هاتفني بأنها من أجمل ما يقرأ لأنها لم تكن كذلك بل هي أجمل ما يقرأ دون مبالغة وأكثرها اختلافا وغرابه وأقربها قرباً للواقع. رائعة السّرد الأدبي بعيدة تماماً عن أي شبهة اقتباس. وقد هالني مثلما هال جميع من عرف أنها العمل الأول لكاتبها السوداني الطيب صالح !
هذه الرواية الصادقة التي برهنت أن من يعيش على ضفاف هذا الوادي ويرتبط بطينه لا بد من أن هجرته مهما طالت ستكون مجرد موسم. وحتما ولا مفر من العودة إليه. وعندما نقرر العودة إليه ويكون هدفنا الوحيد أن نستكين بسكونه نسأل أنفسنا السؤال المعتاد عن الرحلة التي قصدناها في البداية “هل كان من الممكن تلافي شئ مما وقع؟!”
نعود إليه لنشعر بالطمأنينة ونحس أننا لسنا ريشة في مهب الريح. ولكننا مثل النخلة على ضفافه مخلوق له أصل، له جذور، له هدف.
هذه الرواية تردنا مباشرة إلى ضفاف هذا الوادي العجيب وقيمه الأصيلة التي تركناها بفعل المدنية وما نعتقده حداثة، فلا أصبحنا مدنيين ولا بقينا قرويين !
لذلك لم يكن غريباً أن يكون مشروع زعيم جنوب السودان الخالد الذكر الدكتور جون قرنق يتمركز على نقل المدينة إلى الريف وليس العكس. وأن يكون نطاق بحثه الذي حصل بسببه على درجة الدكتوراة هو نهر النيل، وأن يكون مسعاه وحدة دول حوضه .
هذه الرواية تمثلنا جميعاً. فجميعنا ذلك الشخص الذي أخبره رجل الدين المسيحي “كلنا يا بني نسافر وحدنا في نهاية الأمر!” ونحن من نردد لأنفسنا دائما “لقد ضاعت اللحظة الأخيرة حين كان بوسعك الامتناع عن الخطوة الأولى” نحن الذين كثيرا ما نصل الي النقطة التي نشعر فيها ” لا نقدر علي المضي ولا نستطيع العودة” نحن وليس بطل الرواية فقط !
نحن وجه العجب أن نعيش أصلا “رغم الطاعون والمجاعات والحروب وفساد الحكام.”ومن منا لم يقابل تلك المرأة التي نحس حين نلقاها “بالحرج والخطر” فنهرب منها أسرع ما نستطيع!
إن النيل بالنسبة لسكان ضفافه مثل الوطن وهو قضية انتماء وليس قضية مياه شرب أو ري. فهو كما قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي “قضية حياة ووجود” ولا يستطيع كائن من كان اقتلاع أحد من جذوره أو العبث به!
وقد تنبأت هذه الرواية التي نشرت للمرة الأولى منذ أكثر من نصف قرن بصورة فريدة لما ستؤول إليه الأمور في الأزمة الناتجة من بناء سدد النهضة الأثيوبي في نهاية فصلها الرابع:
“النهر الذي لولاه لم تكن بداية ولا نهاية، يجري نحو الشمال، لا يلوي على شيء. قد يعترضه جبل فيتجه شرقاً، وقد تصادفه وهدة من الأرض فيتجه غرباً، ولكنه عاجلاً أو آجلاً يستقر في مسيره الحتمي ناحية البحر في الشمال.”