القصيدة لا تملك إلا أن تستجيب(مقاربة لأطروحات الدكتور بدر العرابي في قصيدة النثر العربية ) .

بقلم د/ أحمد بن عفيف النهاري .

هذا النص مقاربة لأطروحات مباشرة وغير منسقة طرحها الدكتور بدر العرابي، في نقاش حي عبر أحد جروبات الشعر العربية على موقع فيسبوك، حول قصيدة النثر. قمت بصياغتها لتكون عرضاً لرؤيته دون بتر أو نقصان، مع الحفاظ على طابعها الفكري الحر وانفعالاتها العفوية.

قصيدة النثر العربية، من وجهة نظر من يرون أن لا قصيدة سوى القصيدة عمودية الشكل، تُعد لدى بعض المتعصبين من العرب تشبهاً بالغرب، بل وقد تصل إلى حد التكفير لمن يمارسها.

إلا أن الحقيقة، كما يراها الدكتور بدر العرابي، أن قصيدة النثر العربية تمثل تحولاً دينامياً طبيعياً للقصيدة المرجع. فالقصيدة، في أي ثقافة، ومنذ الأزل، تعمل على إعادة تشكيل نفسها مع حركة الزمن، ووفقاً لتحولات آليات المعرفة وترقيات المشتغلات الذهنية والإدراكية للوجود لدى الإنسان. حتى تصورنا للوجود ذاته يتحول مع تحولات الفكر ومظاهر الحياة.

في هذا السياق، يرى العرابي أن قصيدة محمد الماغوط تمثل النموذج الأمثل للشكل المتحول المتصل بالمرجع، إذ تحتفظ بملامح التواصل البيولوجي مع الشكل المرجعي الأم للقصيدة العربية من حيث الثيمات والوحدات الإطارية. فبعيداً عن عمودية المرجع ونثرية المتحول، تبرز وشائج التواصل في دوران القصيدة الحداثية حول موضوعات محورية بأسلوب جديد. المرأة، الرحيل، الحنين، الخمرة، كلها ثيمات جوهرية يعيد الماغوط تشكيلها بوعي أو بغير وعي، فيُنتج قصيدة لا تخضع للترتيب التسلسلي المعتاد بل تنفتح على تعددية في الأصوات والرؤى.

قصيدة النثر، وخصوصاً عند الماغوط، ليست ترفاً ولا التفافاً على المرجع، بل نتيجة حتمية لتحولات الفكر وآلياته الحديثة. ويقترح العرابي أن القصيدة هي شكل معرفي موازٍ، عالِ الصيغة، روحاني، فلسفي وخيالي، في كل الأزمان. والسؤال المطروح: هل يجوز لهذا الشكل أن يُقدَّم بآليات المرجع القديمة، فيتجاهل الحوامل الفكرية والفلسفية الراهنة؟

القصيدة الحديثة هي معرفة بديلة، تناظر المعرفة العلمية والثقافية، لكنها تمتاز بالجمالية والدهشة والخطابية. لقد انعكست هذه المعرفة الجديدة في أوعية الذهن الإنساني، ومنحته مستوعبات تصور دقيقة ومجانية، خالية من الروابط التقليدية التي أنتجت الشكل المعرفي الروحاني القديم.

الشاعر الحداثي محكوم بآليات إدراكية جديدة، تشبه مظهر الفكر الذي يمثل زمنه. والقضية هنا دينامية، لا يمكن التحكم بها أو إنكارها. فإذا سلمنا بأن القصيدة معرفة موازية ذات طابع فلسفي وجمالي، فإنها يجب أن تتحرر من الحوامل البدائية، إلا ما ثبت منها، وتتخلى عن الصخب الإيقاعي والترنيمات المتكررة التي تفتح ذائقة المتلقي القديم.

ومع التحول المعرفي الجذري الذي نعيشه اليوم، حيث المعرفة تُصاد بكبسة زر، فإن القصيدة التي لا تشبه هذا التحول شكلاً ومضموناً وبنية، ليست قصيدة هذا العصر. وبذلك، فإن التحول البنيوي والشكلي للقصيدة العربية لم يكن خياراً ولا تمرداً، بل نتيجة حتمية لتراكمات من التحولات التي لا يمكن ردها.

ويختم العرابي رؤيته بالإشارة إلى الانقطاع الذي وقع بين الأجيال الشعرية العربية، نتيجة عدم استيعاب التحولات التاريخية والفكرية، وكذلك بسبب تصلب الوعي العربي في مواجهة النهضة الأوروبية، نتيجة الخوف من الاستعمار والغزو الثقافي وتوجسهم من تأثير ذلك على الدين. هذا الانفصال أدى إلى قطيعة بين قصيدة الحاضر والقصيدة المرجع، وأربك حضورها في مسيرة الأدب العربي.

لكن هذه القطيعة، بحسب العرابي، قد تكون هي ذاتها البذرة التي ستنبت جيلاً شعرياً جديداً، يُنتج قصيدة عربية حداثية تشبهه، وتشبه أدواته الإدراكية الجديدة، حتى دون أن يُدرك نقاط التلاقي بين ما يكتبه والقصيدة الغربية.

ملاحظة: هذه المقالة هي مقاربة لنقاش حي غير منسق عبر فيسبوك، أعرض فيها رؤية د. بدر العرابي كما هي، دون بتر أو تقويم، لتكون وثيقة فكرية حوارية تستحق التأمل.

عن محمد صوالحة

من مواليد ديرعلا ( الصوالحة) صدر له : كتاب مذكرات مجنون في مدن مجنونة عام 2018 كتاب كلمات مبتورة عام 2019 مؤسس ورئيس تحرير موقع آفاق حرة الثقافي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!