بقلم: تهاني المرافي*
.
يعتبر كتاب “حدث في الآستانة” والصادر عن الآن ناشرون وموزعون (٢٠٢٣)، السكة التي تربط ما بين القارئ العربي والحياة التركية في الفترة المفصلية التي امتدت من نهاية الدولة العثمانية حتى بداية الجمهورية التركيّة.
يتناول هذا المنجز الأدبي المترجم من اللغة التركية إلى اللغة العربية صورا من الحياة في الدولة العثمانية جاءت على شكل مختارات قصصية قصيرة سطرها نخبة من القاصين الأتراك المخضرمين الذين عاشوا عهد الدولة العثمانية والجمهورية التركية.
يعتبر انتقاء ثيمات القصص في هذه المختارات عنصرا حيويا في بناء نص يؤثر على المتلقي من خلال النسق الذي سردت به، فهذه الثيمات ليست مجرد صورا اجتماعية أو تاريخية تُعرض بشكل منفصل عن بعضها، بل هي مترابطة بإحكام عبر المكان: الآستانة (إسطنبول) وما ترمز له، والزمان: الفترة المفصلية بين عهدين، لذلك شكلت هذه المختارات على انفصالها الظاهر وحدة واحدة ومساحة تفاعليه مؤثرة في القارئ في اجتماعها وانفصالها على حد سواء.
لقد بدت القصص وأبطالها وأحداثها ولغتها قريبة لحد كبير من مثيلاتها في القصص العربية رغم اختلاف لغة وعرق وثقافة القاصين الأتراك، وهذا، بحسب رأيي، نتيجة طبيعة للترجمة الناجحة التي تترك انطباعا إيجابيا لدى القارئ، وجسرت الهوة بين اللغة المصدر واللغة الهدف.
سأستعرض أبرز المظاهر التأثيرية التي ظهرت بشكل واضح من خلال القصص المختارة في هذا الكتاب والتي كانت محاولة ناجحة من المترجم الذي اختارها عن قصد ودراية للتواصل مع القارئ على مستوى أعمق، وأكثر تأثيرا من مجرد كونها قصص تسرد.
– أولا: اللوحة الكولاجية
لقد اتخذت المجموعة القصصية “حدث في الأستانة” شكلا أدبيا يثير قريحة القارئ فهي لوحة أدبية ذات صبغة تركية على الرغم من كونها مترجمة إلى اللغة العربية، وهي تتكون من (11) أقصوصة (قصة قصيرة) أدبية اشترك في تأليفها (9) قاصون أتراك مخضرمون ممن برعوا في رسم ثيمات اجتماعية متنوعة من خلال سردهم القصصي والذين تم اختيارهم وقصصهم من قبل المترجم الحوتري الذي قام بدوره بتسليط الضوء على العنصر الرئيس المشترك بين كل هذه القصص والذي وهو الزمكانية: الزمان والمكان من خلال جعلها لونا أساسياً وأرضية مشتركة تقوم عليها كل عناصر هذه اللوحة الأدبية الكولاجية.
كما وأن الذي يشد القارئ أكثر في هذه اللوحة هو القدرة على قراءة كل قصة بشكل منفصل عن القصة الأخرى مما يعطيها خصوصيتها في السرد والتأثير، والقدرة على قراءة القصص أيضا كرواية كولاجية قسمها الكاتب إلى ثلاث فصول: الربيع الأول، الخريف، الشتاء. كل فصل من هذه الفصول مرتبط بالفصل السابق واللاحق بشكل ما، إما بحدث، أو بالمكان والزمان أو بالشخصيات التي تمثل المواطن العثماني.
لقد منح الحوتري القارئ مساحة من الحرية الكاملة لكي يختار الطريقة التي تناسبه أكثر وتمتعه أكثر لقراءة هذا الكتاب. كما وأظهر لنا المترجم من خلال الترجمة الحِرَفية كل ما أورده القاص التركي من جماليات النص وصوره البيانية الغنية وهذا ما منح النص قوة تأثير كبيرة.
-ثانيا: الاستهلال
إن استهلال الكاتب طرح قصة إضافية إلى القصص المترجمة، حيث يأخذ الاستهلال القارئ في رحلة إلى التاريخ بدءاً من عهد الدولة العثمانية وما كانت تتسم به من أجواء التقبل والتسامح والاتساع للجميع رغم اختلاف الأصول والمنابت وما آلت إليه عقب وقوع انقلاب جمعية الاتحاد والترقي على الأسرة العثمانية الحاكمة، وهنا يخرج القارئ العربي في رحلة لأجواء عثملنية لم يعشها من قبل.
– ثالثا: العرض
اتخذ عرض القصص أسلوب التشويق من خلال قيام المترجم بعرض جملة أو أكثر من القصة الأم أسفل عنوان القصة قبل الشروع في سردها مما يثير رغبة القارئ ويشوقه في معرفة تفاصيل القصة. مثال: “أيها الإخوة المؤمنون ! إنه مخلوق من مخلوقات الجنة ،حجمه صغير ويحمل الكثير”
وهذا ما يثير ويشوق القارئ لمعرفه ما هو هذا المخلوق ؟ وما هي قصته؟
– رابعا: الثيمات
اختار المترجم قصص ذات موضوعات تتسم بقوه تأثيرها على القارئ وذلك من خلال التشابه القوي بين ثيمة القصة والحالة العامة المُعاشة في واقع القارئ العربي؛ ومن هذه الموضوعات الاجتماعيه المتعددة: الغربة، براءة الأطفال، التشوه الخلقي، التغيير، والهوس، وغيرها من ثيمات متنوعة.
كما وقد طرحت بعض القصص مسائل فلسفية كما جاءت في قصة (ما أجمل الحياة)، وقصص ذات ثيمات سياسية خاصة حدثت في فترة زمنية حرجة للدولة التركية، مثل قصة ( الربيع )، وقصة (الحُب أعمى).
قدم الكاتب أيضاً نبذة عن حياة كل قاص مع قصته وذلك ليتسنى للقارئ العربي الاطلاع ومعرفة ما تيسر عن سير هؤلاء القاصين الكبار.
– خامسا: الترجمة
إن الخروج بعمل أدبي مترجم كهذا العمل من اللغة التركية إلى الغة العربية ليس بالأمر السهل، إنما هو بمثابة عملية ولادة لعمل أدبي جديد يحمل أصالة وبصمات اللغة المصدر دون إحداث تغييرات جذرية على المحتوى. يبدو أيضا أن الترجمة كلّفتْ المترجم جهدا مضاعفا لأن اللغة التركية التي كُتبتْ بها معظم النصوص، كما أشار المترجم، تختلف بشكل ملحوظ عن اللغة التركية المعاصرة.
– خامسا: قوة التأثير
إن نجاح أي عمل فني أدبي هو مدى قوة تأثيره على المتلقي مما يجعل المتلقي يتماهى مع النص تماهيا كليا تماما فيصبح هو والنص وكأنهما وجهان لعملة واحدة، حيث أن العمل يجسد ثيمات حياتية مؤثرة يجيب من خلالها على سؤال: ماذا لو كان العمل الأدبي هو الحالة التي يعيشها المتلقي؟!
“حدث في الأستانة ” منجز أدبي فريد استطاع أن يؤثر بي كقارئة وخصوصا عندما حاكى ما أعيشه إلى حد كبير، وهنا سأورد إحدى قصص المجموعة التي أجدني فيها مع الكثير من تفاصيلها:” تأثير الحزام ” للقاص عمر سيف الدين، تناولت هذه القصة حكاية الشاب محمود الشركسي والذي هو من أصول تركية والذي وصله حزام شركسي جميل للغاية من أحد أصدقائه من مدينة (كارامورسال)، ومن يوم ارتدائه للحزام توقف محمود عن مخالطة الأتراك وبدأ بملازمة الشركس، وأصبح يتعلم أسلوب حياة الشركس وعاداتهم والترويج لثقافة (الأديغة) في كل مكان رغم أنه تركي الأصل ولا علاقة له بالشركس، حتى أنه أصبح يفتخر بلقبه محمود الشركسي، هذا وقد صال وجال في القوقاز وأماكن لا علاقه لها بقوميته التركية دون أن يشعر بأي غربة، وكأن الشركس أهله وقومه.
أما تجربتي الشخصية وما أعايشه فهو الإنزياح للقومية التركية رغم قوميتي وأصولي العربية. حقا أني لا أملك حزاماً شركسياً كمحمود الشركسي ولكنني أمتلك “خاتماً أزرق”.
استطاع المترجم أن يقدم لنا مختارات قصصية منوعة شائقة، ورواية كولاجية ماتعة، وتاريخاً مختصراً لعهدين مختلفين ،عهد الدولة العلية العثمانية وعهد الجمهورية التركية.
يذكر أن المترجم أسيد الحوتري قاص وروائي وناقد وباحث، وعضو في رابطة الكتاب الأردنيين، وعضو في جمعية النقاد الأردنيين، وعضو مؤسس في مبادرة نون للكتاب.
كل التقدير والاحترام